س275: لماذا أعاب السيد المسيح على الذين يصلون وهم وقوف (مت 6: 5)؟ وهل عندما قال السيد المسيح: "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ" (مت 6: 6) كان يقصد أن من يصلي وباب حجرته مفتوح لا تُقبل صلاته؟ وهل هذا القول يعني الاقتصار على الصلاة الفردية فقط، ويتعارض مع الصلوات الليتورجية الجماهيرية؟
ج: 1ــ قال السيد المسيح: "وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ" (مت 6: 5)، ومثل هؤلاء لا يحبون الصلاة في ذاتها بقدر محبتهم للظهور ونوال المديح، وهذا ما كشف عنه السيد المسيح قائلًا: "لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ" وينالون مديحهم، فالعيب ليس في وقفة الصلاة، أي تأديتهم الصلاة وهم وقوف إنما العيب في سعيهم لكسب مديح الناس، وكان اليهودي يحرص على الصلوات الطقسية، وهيَ:
1) صلاة الشمعا Shema: والاسم مشتق من الكلمة العبرية "اسمع" وتشمل مقاطع من التوراة (تث 6: 4 - 9) ويستهل بعبارة "اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد". فكان اليهودي يردّدها مرتين كل يوم صباحًا ومساءً.
2) صلاة الثماني عشرة "شموني أشرة": وتتكون من 18 صلاة، وبعد المسيحية أضيفت لهذه الصلاة الصلاة رقم (19) وهيَ عبارة عن دعاء على المسيحيين، وكان على اليهودي أن يردّد هذه الصلاة ثلاث مرات يوميًا. وإذا حان وقت الصلاة كان اليهودي يقف في السوق أو على قارعة الطريق، وإن كان يحمل حملًا يطرحه جانبًا ويقف ليصلي، وبهذا ينال إعجاب الآخرين. أما وقفة الإنسان في الصلاة فهذا هو الأمر الطبيعي فمن يريد أن يصلي يقف كنوع من الاستعداد، لأننا لا نصلي ونحن جلوس أو منطرحين على الفراش إلاَّ في الحالات الصحية المتدهورة، ولهذا في موضع آخر قال السيد المسيح: "وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ.." (مر 11: 25)، وفي مَثَل الفريسي والعشار: "أَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي... وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ" (لو 18: 11، 13)، وفي القداس الإلهي نستمع لمن يقرأ الإنجيل: "قفوا بخوف أمام اللَّه" كما نُصغي لصوت الشماس: "أيها الجلوس قفوا". كما أن الإنسان قد يصلي هو جاثيًا على ركبتيه مثلما فعل السيد المسيح في البستان: "وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى" (لو 22: 41)، وهكذا صلى الشهيد اسطفانوس: "ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَـرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ يَارَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ" (أع 7: 60)، وقال بولس الرسول: "بِسَبَبِ هذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (أف 3: 14).
2ــ قول السيد المسيح: "فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ" يذكرنا بصلاة أليشع النبي عندما أقام ابن المرأة الشونمية من الموت: "وَدَخَلَ أَلِيشَعُ الْبَيْتَ وَإِذَا بِالصَّبِيِّ مَيْتٌ وَمُضْطَجعٌ عَلَى سَرِيرِهِ. فَدَخَلَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسَيْهِمَا كِلَيْهِمَا، وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ" (2 مل 4: 32، 33) وانتهت الصلاة بإقامة الميت، ونحن إذ نُصلي نطرح أنفسنا كأموات بالخطايا ملتمسين من تحننه أن يقيم أنفسنا من موت الخطية إلى جدة الحياة... تصوَّر صلاة قوية تُقيم ميت كم تحتاج إلى تركيز وإنسكاب أمام اللَّه والانقطاع عن أي أمور أخرى تشغل الإنسان، وهذا ما عبَّر عنه السيد المسيح بقوله: "فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ".. هذه هيَ "الصلوات الفردية" التي قصدها الرب يسوع، وربما ارتفعت هذه الصلوات إلى عرش النعمة بدون كلمات وبدون صوت، إنما هيَ مجرد مشاعر مفعمة بالحب الإلهي وخفقات قلب يصغي لها اللَّه.
وليس معنى وصية " فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ" أن أي صلاة خارج الحجرة المُغلقة مرفوضة واللَّه لا يقبلها، فقديمًا: "خَرَجَ إِسْحَاقُ لِيَتَأَمَّلَ فِي الْحَقْلِ عِنْدَ إِقْبَالِ الْمَسَاءِ" (تك 24: 63)، وهذا التأمل بلا شك نوع من الصلاة، وكان الرب يسوع يصلي على الجبل ويقضي الليل كله في الصلاة (لو 6: 12)، كما صلى في بستان جثسيماني (مت 26: 39 - 44)، و" صَعِدَ بُطْرُسُ عَلَى السَّطْحِ لِيُصَلِّيَ" (أع 10: 9)، ويقول "الأب إسحق": "إننا نصلي داخل مخدعنا عندما ننزع من قلوبنا الداخلية الأفكار المقلقة والاهتمامات الباطلة، وندخل في حديث سري مُغلق بيننا وبين الرب، ونصلي بأبواب مغلقة عندما نُصلي بشفاه مغلقة في هدوء وصمت كامل، لذاك الذي يطلب القلوب لا الكلمات. ونُصلي في الخفاء عندما نكتم طلباتنا الصادرة من قلوبنا وأذهاننا المتقدة بحيث لا نكشفها إلاَّ للَّه وحده" (1093).
وما فائدة الأبواب المادية المغلقة مع فكر طائش مشتت غير منضبط يهيم في كل مكان وزمان، فيقول "القديس يوحنا الذهبي الفم" إن: "اللَّه يرغب أن نغلق أبواب الذهن أفضل من غلق الأبواب"(654). وكثيرًا ما نجد أسرة مسيحية تسكن في حجرة واحدة، وهذا لا يُعد عائقًا للصلاة، فإما أنهم يصلون معًا، أو عندما يصلي أحدهم ينزوي في أحد أركان الحجرة رافعًا يديه للصلاة النقية.
3ــ هذه الصلاة الفردية التي تحدث عنها الرب يسوع لا تُلغي الصلوات التي يشارك فيها أكثر من شخص مثل الصلوات الأسرية، والتي قال عنها السيد المسيح في ذات الإنجيل: "إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ" (مت 18: 19، 20). وأيضًا الصلاة الفردية لا تُلغي الصلاة الليتورجية التي يجتمع فيها الشعب كله في الكنيسة بقلب واحد، وهيَ التي مارستها الكنيسة منذ فجر حياتها، سواء قبل حلول الروح القدس: "هؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ مَعَ النِّسَاءِ وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ وَمَعَ إِخْوَتِه" (أع 1: 14)، أو بعد حلول الروح القدس: "وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْـرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ" (أع 2: 42).. " وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ التَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزًا خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْغَدِ وَأَطَالَ الْكَلاَمَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ" (أع 20: 7) وقال بولس الرسول: "حِينَ تَجْتَمِعُونَ فِي الْكَنِيسَة" (1 كو 11: 18).. " مَتَى اجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ لَهُ تَعْلِيمٌ.." (1 كو 14: 26).
_____
(1093) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص139.
(654) المرجع السابق ص139.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/275.html
تقصير الرابط:
tak.la/54t9dkb