س273 (647): كيف يقول السيد المسيح: "اِحترِزُوا مِنْ أَنْ تصْنَعُوا صَدقتكُمْ قدَّامَ النَّاسِ" (مت 6: 1)، بينما سبق وقال: "لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ" (مت 5: 16)؟ وكيف نقبل تعبيرات لا تناسب عصرنا هذا، مثل قوله: "فَلاَ تصَوِّتْ قدَّامَكَ بِالبُوقِ" (مت 6: 2)؟
ج: 1ــ قال السيد المسيح: "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل... فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 5: 14، 16) فعندما يضيء نوركم بنعمة الروح القدس لا بد أن يشاهده الناس، لأن النور لا يمكن أن يُخفى، فهو مثل المدينة الموضوعة على الجبل، وأنتم عندما تصنعون أعمالًا حسنة، فإن هذه الأعمال الحسنة مثلها مثل النور، مثل المدينة الكائنة على الجبل، فلا يمكن إخفائها، فلا بد أن الناس سيرونها، فيمجدون إلهكم الذي في السموات. وكلمة " الْحَسَنَةَ" المستخدمة هنا في الأصل اليوناني تحمل معنى الحسن والصلاح أيضًا، فلا يكفي أن تكون الأعمال حسنة فقط، بل يجب أن تكون صالحة أيضًا، لها جمالها وجاذبيتها وأيضًا لها صلاحها، تجذب الآخرين لإلهنا مصدر الحسن والصلاح. فليس المقصود من الأعمال الحسنة أن يستعرض الإنسان هذه الأعمال متباهيًا ومفتخرًا أمام الناس، ليكسب مديحًا لنفسه، وهذا ما سقط فيه الفريسيون فكانوا يتباهون بصنع الصدقات أمام الناس، وكلمة " صَدَقَتَكُمْ" المستخدمة هنا تشير لأعمال البر والخير والعبادة عامة، ولذلك جاءت في "الترجمة اليسوعية": "إياكم أن تعملوا بركم أمام الناس بقصد أن ينظروا إليكم"، وفي "ترجمة كتاب الحياة": "احذروا أن تعملوا بركم أمام الناس بقصد أن ينظروا إليكم"، وفي "الترجمة العربية المشتركة": "إياكم أن تعملوا الخير أمام الناس ليشاهدونكم".
ويقول "مارديوناسيوس يعقوب ابن الصليبي": "كيف هنا يقول: "ليروا أعمالكم "، وفي موضع آخر: "لا تُعلِم شمالك ما صنعته يمينك"؟ فنقول ألك كثرة الأعمال غير ممكن أن تختفي ولا تُرى. ثم يوجد من يحب المجد الباطل ويوجد من لا يحبه. فهو يوصي الذي يحبون المجد الباطل أن لا يعلموا شمالهم، وللذين لا يحبون المجد يأمرهم أن لا يخفوا أعماله ليصيروا سببًا صالحًا لغيرهم ويماثلونهم"(648).
ويقول "مستر جورج إسوان": "ليس الخطر في عدد عيون الناس الذين ينظرون عطايانا، بل الخطر في فتح عيوننا لنرقب أو لنستجدي عيون الناس لتعجب بأعمالنا، وبرّنا، وحسناتنا"(649).
ويقول "متى هنري": "يجب أن نعمل" الأعمال الحسنة " التي تُرى أنها لبنيان الآخرين، ولكن ليس لنتظاهر أو نفتخر بها... يجب أن لا نقنع بأنه "يسمع " الذين حولنا كلماتنا الحسنة بل أن "يروا" أعمالنا الحسنة، لكي يقتنعوا بأن الديانة ليست مجرد اسم أجوف، وأننا لا نكتفي بمظهرها بل نعيش في قوتها.
ثانيًا: لأجل أية غاية يجب أن يضيء نورنا؟ ليس لكي يمجدكم من يرون أعمالكم الحسنة (وهذه هيَ الغاية التي كان يسعى إليها الفريسيون والتي أفسدت كل خدماتهم) بل لكي " يُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ".. يجب أن يكون مجد اللَّه هو الغاية الأسمى التي نسعى إليها في كل ما يتصل بالأمور الدينية (1 بط 4: 11). حول هذا المحور يجب أن تدور كل تصرفاتنا...
إن مجرد نظرهم لأعمالنا الحسنة سوف يمجد اللَّه (1) إذ يعطيهم مادة لشكر اللَّه وتمجيده... أن سيرة القديسين النقية وتصرفاتهم الصالحة وقدوتهم الحسنة قد تفعل كثيرًا لتغيير الخطاة. وينجح جدًا في تقديم المسيحية للذين يجهلونها. فللقدوة تأثير بالغ في تعليم الآخرين وقد تُحبَّب المسيحية للذين كانوا يحملون لها في أنفسهم من قبل روح البُغض والكراهية. إذًا فالمسيرة الصالحة تفعل كثيرًا في ربح الآخرين" (650).
2ــ استخدم السيد المسيح تعبيرات تناسب عصره، ولو استخدم تعبيرات تناسب عصرنا لصارت غريبة عن عصره وعن مجتمعه، لا يدرك مستمعيه معناها ولا مغزاها، أما التعبيرات التي استخدمها السيد المسيح وتُعد غريبة عن عصرنا فأننا نستطيع بسهولة أن نتفهمها عندما نطالع كُتب التفاسير التي تُلقي الضوء على سمات تلك البيئة التي عاش فيها السيد المسيح والعادات والتقاليد التي سادت حينذاك، وأيضًا نستطيع أن ندرك معاني هذه التغيرات من سياق الحديث، فهيَ لم ترد كتعبيرات منفصلة، إنما هيَ متصلة بما قبلها وما بعدها، فواضح أن المقصود بالقول: "فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ" هو البُعد عن المظهرية، ومثلها: "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ" (مت 6: 17).
قال السيد المسيح: "فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ" (مت 6: 2)، فالإنسان المرائي يخفي عيوبه بتصنُع الفضيلة، وهو يلهث نحو تمجيد ذاته، فيصنع الصدقات، بل ربما يبالغ في صنعها ليس رحمة وتحننًا على أخوته المحتاجين بل لكيما ينال مديحًا يشبع غروره وكبريائه، وكانوا يجمعون التبرعات في الهيكل للمحتاجين، وكان صوت البوق يُعلن بداية هذه الحملة، كما كان المراؤون قديمًا يستخدمون أبواقًا في الأماكن المزدحمة مثل المجامع والأزقة بحجة دعوة الفقراء لينالوا نصيبهم من الصدقات، وفي الحقيقة هم يبحثون عن تمجيد ذواتهم، وهذا ما كشف عنه السيد المسيح أنهم يفعلون ذلك " لكي يُمجَدوا من الناس"، ولذلك شدَّد على العطاء في السر.
_____
(647) تمت الإجابة على 272 سؤالًا خلال الأجزاء الثلاث السابقة.
(648) الدر الفريد في تفسير العهد الجديد جـ1 تفسير بشارتي متى ومرقس ص175.
(649) المرشد الأمين في شرح الإنجيل المُبين جـ1 شرح بشارة متى ص73، 74.
(650) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ1 ص140، 141.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/273.html
تقصير الرابط:
tak.la/a6gnpk9