س254: كيف تتفق دعوة السيد المسيح للسلام (مت 5: 9) مع دعوته للانشقاق والانقسام والسيف والنار: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا" (مت 10: 34).. " وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفًا" (لو 22: 36).. " جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ. فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ... أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. كَّلاَّ أَقُولُ لَكُمْ بَلِ انْقِسَامًا" (لو 12: 49، 51)؟
وقد سأل الكاتب الكبير "توفيق الحكيم" قداسة البابا شنودة الثالث قائلًا: "قرأت في دفتري عبارة أفزعتني وسجلتها لأسأل فيها حتى يطمئن قلبي... عبارة في الأصحاح الثاني عشر من إنجيل لوقا قال فيها السيد المسيح: "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ... أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ، كَّلاَّ أَقُولُ لَكُمْ بَلِ انْقِسَامًا ".. فكيف والمسيح ابن مريم كلمة من اللَّه جاء ليُلقي نارًا على الأرض... فمن يفسر لي حتى يطمئن قلبي... وصرت أسأل من أعرف من أخواننا المسيحيين المثقفين، فلم أجد عندهم ما يريح نفسي... أما فيما يخص المسيحيين فمن أسأل غير كبيرهم الذي أحمل له التقدير الكبير لعلمه الواسع وإيمانه العميق... البابا شنودة... ". (قارن بين الأسلوب المهذَّب الراقي في هذا السؤال، والأسلوب الجارح الذي يفيض بالسخرية الذي يستخدمه بعض النُقَّاد الآخرين).
(راجع أيضًا السيد سلامة غنمي - التوراة والأناجيل بين التناقض والأساطير ص369، وعلاء أبو بكر - البهريز جـ 2 س177 ص157، جـ3 س170 ص129، جـ 4 س140 س105، وس367 ص410).
ج: 1ــ أجاب على التساؤل السابق "قداسة المتنيح البابا شنودة الثالث" قائلًا:
" عميد الأدب في أيامنا: الأستاذ الكبير توفيق الحكيم.
تحية طيبة، ودعاء لكم بالصحة، من قلب يكن لكم كل الحب. فأنا قارئ لكم، مُعجب بكتاباتكم، أحتفظ بكل كتبكم في البطريركية وفي الدير...
وقد قرأت مقالكم الذي نُشر في الأهرام يوم الإثنين 2/12/85 الذي قدمتم فيه أسئلة حول بعض الآيات التي وردت في الإنجيل (إنجيل لوقا 12). وعرضتموها في رقة زائدة وفي أسلوب كريم، يليقان بالأستاذ توفيق الحكيم.
وإذ أشكر ثقتكم، أرسل لكم إجابة حاولت إختصارها على قدر ما أستطيع. وأكون شاكرًا إن أمكن نشرها كاملة كما هيَ. لأن تساؤلكم في مقالكم، أثار تساؤلات عند كثيرين، وهم ينتظرون هذا الرد. وختامًا لكم كامل محبتي.
مقدمة: حينما نتحدث عن آية من الكتاب لا نستطيع أن نفصلها عن روح الكتاب كله، لأننا قد نفهمها مستقلة عنه. فلنضع أمامنا روح الإنجيل ورسالة المسيح التي ثبتت في أذهان الناس. ثم نفهم تفسير الآية في ظل المفهوم العام الراسخ في قلوبنا. رسالة السيد المسيح هيَ رسالة حب وسلام: سلام مع اللَّه، وسلام مع الناس: أحباء وأعداء. وسلام داخل نفوسنا بين الجسد والعقل والروح.
في ميلاد المسيح غنت الملائكة قائلة: "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ" (لو 2: 14). وقد دُعي السيد المسيح " رَئِيسَ السَّلاَمِ" (إش 9: 6). وقد قال لنا "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ... لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ" (يو 14: 27)، وقال: "وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلًا سَلاَمٌ لِهذَا الْبَيْتِ" (لو 10: 5). وذكر السلام كأحد ثمار الروح: "مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ" (غل 5: 22). وفي مقدمة عظة السيد المسيح على الجبل قال: "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّه يُدْعَوْنَ" (مت 5: 9). كما ورد في الإنجيل أيضًا: "أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ... أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا. بِكُلِّ تَوَاضُعٍ وَوَدَاعَةٍ وَبِطُولِ أَنَاةٍ... مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ. جَسَدٌ وَاحِدٌ وَرُوحٌ وَاحِدٌ" (أف 4: 1 ــ 4).. ودعا السيد المسيح إلى السلام حتى مع الأعداء والمقاومين. فقال: "لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ" (مت 5: 39 - 42). بل قال أكثر من هذا: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ... لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ... وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ" (مت 5: 44 - 47). ولست مستطيعًا أن أذكر كل ما ورد في الإنجيل من رسالة السلام في تعليم السيد المسيح، إنما أكتفي بهذا الآن، وعلى أساسه تُفهم الآيات التي هيَ موضع السؤال.
وكمقدمة ينبغي أن أقول أن الإنجيل يحوي الكثير من الرمز، ومن المجاز، ومن الإستعارات والكنايات، من الأساليب الأدبيبة المعروفة.
جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا:
وهيَ قول السيد المسيح: "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ" (لو 12: 49):
1ــ إن النار ليست في ذاتها شرًا وإلاَّ ما كان اللَّه قد خلقها. ولستُ بصدد الحديث عن منافع النار، ولا عما قيل عنها من كلام طيب في الأدب العربي، وإنما أقول هنا أن النار لها معانٍ رمزية كثيرة في الكتاب المقدَّس.
2ــ فالنار ترمز إلى عمل الروح القدس في قلب الإنسان.
وقد قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح: "هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ" (لو 3: 16).
وقد حلَّ الروح القدس على تلاميذ المسيح على هيئة ألسنة كأنها من نار (أع 2: 3). وكان هذا إشارة إلى أن روح اللَّه ألهبهم بالغيرة المقدَّسة للخدمة، وهذه الغيرة يُشار إليها في الكتاب المقدَّس بالنار.
وهيَ النار التي أعطت قوة لتطهير الأرض من الوثنية وعبادة الأصنام. وهذه النار هيَ مصدر الحرارة الروحية. وقد طلب منا في الإنجيل أن نكون "حَارِّينَ فِي الرُّوحِ" (رو 12: 11) وقيل أيضًا: "لاَ تُطْفِئُوا الرُّوحَ" (1 تس 5: 19).
3ــ والنار ترمز أيضًا في الكتاب إلى المحبة: وقيل في ذلك: "مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ" (نش 8: 7)، وقيل أيضًا: "وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ" (مت 24: 12).
4ــ والنار قد ترمز أيضًا إلى كلمة اللَّه: كما قيل في الكتاب: "أَلَيْسَتْ هكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ يَقُولُ الرَّبُّ" (إر 23: 29). وقد قال إرميا النبي عن كلام اللَّه: "فَكَانَ فِي قَلْبِي كَنَارٍ مُحْرِقَةٍ" (إر 20: 9). لذلك لم يستطع أن يصمت على الرغم من الإيذاء الذي أصابه من اليهود حينما أنذرهم بالكلمة.
5ــ والنار في الكتاب ترمز أحيانًا إلى التطهير: كما قيل في إشعياء النبي أن واحدًا من الملائكة طهَّر شفتيه بجمرة من النار (إش 6: 6، 7).
وإن كانت النار تحرق القش إلاَّ أنها تنقي الذهب من الأدران، وتقوي الطوب الطين وتجعله صلبًا، وكانت تُستخدم في العلاج الطبي (بالكي).
فالذي كان يقصده السيد المسيح: إنني سألقي النار المقدَّسة في القلوب فتطهرها، وتشعلها بالغيرة المقدَّسة لبناء ملكوت اللَّه على الأرض، لذلك قال: "فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ ".
هذه النار قابلتها نار أخرى من أعداء الإيمان تحاول إبادته، وهكذا إشتعلت الأرض نارًا، كانت نتيجتها إبادة الوثنية، بعد إضطهادات تحملها المسيحيون.
هناك إذًا نار إشتعلت في قلوب المؤمنين، ونار أخرى إشتعلت من حولهم. وكانت الأولى من اللَّه، والثانية من أعدائه. والسيد المسيح نفسه تعرَّض لهذه النار المعادية، لذلك قال بعد هذه الآية مباشرة، يشير إلى آلامه المستقبلية " وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ" (لو 12: 50) وبنفس الأسلوب تحدث عن صبغة آلامه في (مت 20: 22، مر 10: 38).
بقى أن نتحدث عن النقطة التالية: مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا:
وهيَ قول السيد المسيح بعد الإشارة إلى آلامه مباشرة: "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ؟ كَّلاّ، أَقُولُ لَكُمْ بَلِ انْقِسَامًا" (لو 12: 51). إنه جاء ينشر عباده اللَّه في العالم كله، بكل وثنيته، ولذلك قال لتلاميذه: "اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا" (مر 16: 15).
تضاف إلى هذا: المبادئ الروحية الجديدة التي جاء بها المسيح، وهيَ تختلف عن سلوكيات وطقوس العبادات القديمة.
وكان أول من انقسم على المسيح، ثم على تلاميذه: اليهود وقادتهم، ليس بسبب المسيح، إنما بسبب تمسك اليهود بملك أرضي، وبسبب فهمهم الحرفي للكتاب، لدرجة أنهم تآمروا عليه ليقتلوه، لأنه شفى مريضًا في سبت (مت 12: 49) وتضايق منه اليهود، لأنه كان يبشر الأمم الأخرى بالإيمان، وهم يريدون أن يكونوا وحدهم شعب اللَّه المختار. لذلك لما قال بولس الرسول أن السيد المسيح أرسله لهداية الأمم، صرخ اليهود طالبين قتله (أع 22: 21، 22). بل أن القديس بولس لما تحدث عن القيامة، حدث انشقاق وانقسام بين طائفتين من اليهود هما الفريسيون والصدوقيون... وانقسم اليهود على المسيح لأنهم كانوا يريدون ملكًا أرضيًا ينقذهم من حُكم الرومان. أما هو فقال لهم: "مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ" (يو 18: 36).
أكان يمكن للمسيح أن يمنع هذا الانقسام، بأن يجامل اليهود في عقيدتهم عن الشعب المختار، ورفضهم لإيمان الأمم الأخرى. ورغبتهم في الملك الأرضي، وحرفيتهم في تفسير وصايا اللَّه؟ أم كان لابد أن ينشر الحق، ولا يبالي بالانقسام؟ كذلك واجه السيد المسيح العبادات القديمة بكل تعددها وتعدد آلهتها: آلهة الرومان الكثيرة تحت قيادة جوبتر Jupiter، والآلهة اليونانية الكثيرة تحت قيادة زيوس Zeus، والآلهة المصرية الكثيرة تحت قيادة رع Ra وأمون Amun... أكان المسيح يترك رسالته لا ينادي بها خوفًا من الانقسام تاركًا الوثنيين في عبادة الأصنام، لكي يحيا في سلام معهم؟! إلاَّ يكون هذا سلامًا باطلًا؟! أم كان لابد أن ينادي لهم بالإيمان السليم، ولا خوف من الانقسام، لأنه ظاهرة طبيعية فطبيعي أن ينقسم الكفر على الإيمان، وطبيعي أن النور لا يتحد مع الظلام.
لم يكن الانقسام صادرًا من السيد المسيح، بل كان صادرًا من رفض الوثنيين للإيمان الذي نادى به المسيح، وهكذا أنذر السيد المسيح تلاميذه بأن انقسامًا لابد سيحدث، وأنهم في حملهم لرسالته، لا يدعوهم إلى الرفاهية، بل إلى الصدام مع الانقسام.
لذلك قال لهم: "فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ" (يو 16: 33).. " تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً ِللهِ" (يو 16: 2).. " إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ" (يو 15: 18 - 20).
لقد وقف السيف ضد المسيحية. لم يكن منها، وإنما عليها. وعندما رفع بطرس سيفه ليدافع عن المسيح وقت القبض عليه، إنتهره ومنعه قائلًا: "رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ" (مت 26: 52). وكانت نتيجة السيف الذي تحمله المسيحيون، ونتيجة إنقسام الوثنيين واليهود عليهم، مجموعة ضخمة من الشهداء. ومع الصمود في الإيمان انتشر الإيمان وبادت الوثنية، في وقت من الأوقات... فالانقسام هنا ليس شرًا، وإنما ظاهرة طبيعية، وكل ديانة إنتشرت على الأرض، واجهت مثل هذا الانقسام في بادئ الأمر. إلى أن استقرت الأمور...
وختامًا أشكركم كثيرًا لأنكم أتحتم لي هذه الفرصة للحديث معكم ومع قرائكم الكرام. دامت محبتكم" (549).
2- في موضع آخر كتب "قداسة المتنيح البابا شنودة الثالث" ردًا على عبارة: "مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا " يقول: "يقصد بالسيف الذي يقع على المؤمنين به، بسبب إيمانهم. وفعلًا ما أن قامت المسيحية، حتى قام ضدها السيف من الدولة الرومانية، ومن اليهود، ومن الفلاسفة الوثنيين. وتحقق قول الرب: "تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً ِللهِ" (يو 16: 2). وعصر الإستشهاد الذي استمر إلى بداية حُكم قسطنطين، دليل على ذلك.
كذلك حدث انقسام - حتى في البيوت - بسبب إيمان بعض أعضاء الأسرة، مع بقاء أعضاء الأسرة الآخرين غير المؤمنين. فمثلًا يؤمن الابن بالمسيحية، فيقف ضده أبوه، أو تؤمن البنت بالمسيحية فتقف ضدها أمها، وهكذا يحدث انقسام داخل الأسرة بين من يقبل الإيمان المسيحي من أعضائها ومن يعارضها، حسبما قال: "يَنْقَسِمُ الأَبُ عَلَى الابْنِ وَالابْنُ عَلَى الأَبِ وَالأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ عَلَى الأُمِّ وَالْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِها" (لو 12: 53). وكثيرًا ما كان المؤمن يجد محاربة شديدة من أهل بيته ليرتد عن إيمانه، ولذلك قال الرب متابعًا حديثه: "وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ. مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي.." (مت 10: 36، 37).
كان يتكلم عن السيف ضد الإيمان. وليس السيف في المعاملات العامة... ولهذا فإن قوله: "مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا" (مت 10: 34)، سبقه مباشرة بقوله: "مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 10: 33)" (550).
3- وفي موضع ثالث أجاب "قداسة المتنيح البابا شنودة الثالث" عن معنى عبارة "يشتري سيفًا" قائلًا: "السيد المسيح لم يقصد مطلقًا السيف بمعناه المادي الحرفي... بدليل أنه بعد قوله هذا بساعات، في وقت القبض عليه إستل بطرس سيفه، وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه... حينئذ قال له الرب: "اجْعَلْ سَيْفَكَ فِي الْغِمْدِ" (يو 18: 11) " لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ" (مت 26: 52) فلو كان السيد المسيح يدعوهم إلى استخدام السيف، ما كان يمنع بطرس عن استخدامه في مناسبة كهذه.
ولكن الرب كان يقصد السيف بمعناه الرمزي، أي الجهاد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى... كان يكلمهم وهو في طريقه إلى جسيماني (لو 22: 39)، أي في اللحظات الأخيرة، التي يتكلم فيها مع الأحد عشر قبل تسليمه ليُصلب، ولذلك بعد أن قال: "فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفًا " قال مباشرة: "لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هذَا الْمَكْتُوبُ وَأُحْصِـيَ مَعَ أَثَمَة" (لو 22: 37). فما هو الخط الذي يجمع هذين الأمرين معًا؟
كأنه يقول لهم: حينما كنت معكم، كنت أحفظكم بنفسي. كنت أنا السيف الذي يحميكم. أما الآن فأنا ماضٍ لأسلَّم إلى أيدي الخطاة، وتتم فيَّ عبارة " وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ ".. اهتموا إذًا بأنفسكم وجاهدوا...
ومادمت سأفارقكم، فليجاهد كل منكم جهاد الروح، ويشتر سيفًا... وقد تحدث بولس الرسول في رسالته إلى أفسس عن " سيف الروح " وعن " سلاح اللَّه الكامل "، و" درع البر "، و" ترس الإيمان" (أف 6: 11 - 17). وهذا ما كان يقصده السيد المسيح لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس في تلك الحروب الروحية...
ولكن التلاميذ لم يفهموا المعنى الرمزي وقتذاك. فقالوا هنا سيفان... كما قال لهم من قبل بنفس المعنى الرمزي: "تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ" يقصد رياءهم (لو 12: 1)، وظنوا أنه يتكلم عن الخبز (مر 8: 17).. هكذا قالوا - وهو يكلمهم عن سلاح الروح - " هنا سيفان "، فأجابهم هذا يكفي... أي يكفي مناقشة في هذا الموضوع، إذ الوقت ضيق حاليًا... ولم يقصد السيفين بعبارة " هذا يكفي " وإلاَّ كان يقول هذان يكفيان... لذلك ينبغي أن نميز بين ما يقوله الرب بالمعنى الحرفي وما يقوله بالمعنى الرمزي وسياق الحديث يبين أحيانًا" (551).
_____
(549) سنوات مع أسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدَّس ط 2001 ص145 - 151.
(550) سنوات مع أسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدَّس ط 2001 ص97.
(551) سنوات مع أسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدَّس ص68، 69.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/254.html
تقصير الرابط:
tak.la/rvdm8ra