س251: ما هيَ الأرض التي قصدها السيد المسيح في قوله: "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ" (مت 5: 5)؟ وأليس الوعد بوراثة الأرض يتعارض مع قوله: "بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً" (لو 12: 33)، و" لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ" (1 يو 2: 15).
ج: 1ــ ارتبط الوعد الإلهي الذي أُعطي لإبراهيم قديمًا بأرض الموعد: "أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِـنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هذِهِ الأَرْضَ لِتَرِثَهَا" (تك 15: 7) (راجع رو 4: 13)، وقال داود النبي: "أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَة" (مز 37: 11)، وكل من أرض إبراهيم أو أرض داود فهيَ أرض مادية فقط. وفي العهد الجديد جاء السيد المسيح وطوَّب الودعاء، الذين يرثون الأرض، وحسنًا أولًا أن نعرف أن الودعاء هم الذين يقابلون المضايقات والمتاعب والإضطهادات بالهدوء والحُلم وسعة الصدر، مجتهدين في البُعد عن حياة الخصام والغضب والإنفعالات والتشنجات: "وَلاَ يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ وَيَكُونُوا غَيْرَ مُخَاصِمِينَ حُلَمَاءَ مُظْهِرِينَ كُلَّ وَدَاعَةٍ لِجَمِيعِ النَّاس" (تي 3: 2).
ويقول "متى هنري" عن الودعاء: "الذين يستطيعون إحتمال الإهانات والإغاظات دون أن يتهيجوا، بل بالحري يصمتون أو يجيبون جوابًا لينًا هادئًا، الذين يستطيعون أن يظهروا إستياءهم إن وُجِدت الفرصة لذلك دون الخروج عن حدود الأدب والإحتشام، الذين يستطيعون أن يكونوا باردين هادئين عندما يكون الآخرون حارين وثائرين، والذين يستطيعون في صبرهم أن يكبحوا جماح أنفسهم في الوقت الذي يستدعي غليانهم وهياجهم وثورتهم. الودعاء هم الذين يندر أن يتهيجوا أو يصعب جدال إثارتهم، بل بالحري يسهل جدًا تهدئتهم وسرعان ما يسكن غضبهم، هم الذين يفضلون أن يصفحوا عن عشرين إساءة من أن ينتقموا لإساءة واحدة لأنهم مالكون لأرواحهم هؤلاء الودعاء يُوصفون هنا بأنهم سعداء حتى في هذا العالم" (534).
وقد أُطلقت كلمة "الوداعة" في اللغة اليونانية على الحيوانات المفترسة التي تم ترويضها، فصار الأسد أو النمر وديعًا لأنه تم ترويضه على عدم إفتراس الإنسان، فالإنسان الوديع هو من روَّض وضبط غرائزه، كما أن الوداعة تعني تواضع القلب، ويقول "وليم باركلي" إنه يمكن صياغة هذه الوصية في الآتي: "يالسعادة الإنسان الذي يغضب دائمًا في الوقت المناسب، ولا يغضب أبدًا في وقت غير مناسب، الذي يضبط كل غرائزه ودوافعه وعواطفه، لأن حياته نفسها تحت سلطان اللَّه، الإنسان الذي له من التواضع ما يجعله عارفًا بجهله وضعفه وحاجته، لأن مثل هذا الإنسان أمير بين البشر وملك بين الناس" (535).
وعندما قال السيد المسيح: "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ" كان يقصد الأرض بمعناها الشامل:
أ - أرض الأحياء في هذا العالم: والتي أشار إليها داود النبي قديمًا بقوله: "لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ الرَّبّ فِي أَرْضِ الأَحْيَاء" (مز 27: 13).. " قُلْتُ أَنْتَ مَلْجَإِي نَصِيبِي فِي أَرْضِ الأَحْيَاء" (مز 142: 5)، ويقول "القديس أغسطينوس": "أظنها تلك الأرض التي وردت بالمزمور: "قُلْتُ أَنْتَ مَلْجَإِي نَصِيبِي فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ " لأنها تعني ثباتًا وإستقرارًا في الميراث الدائم... الودعاء هم الذين يذعنون لضعف الآخرين ولا يقاومون شرهم بل يغلبونه بالخير" (536). كما يقول "القديس أغسطينوس" أيضًا: "إن الأرض هنا إنما تعني أرض الأحياء الواردة في سفر المزامير (مز 142: 5)، حيث تستقر فيها النفس بالتدبير، وذلك لكي يستريح الجسد على الأرض ويتقوَّت بطعامها" (537).
فاللَّه يكافئنا ليس بالبركات الروحية المستقبلية فقط بل بالبركات المادية أيضًا، فالإنسان الأمين في العشور لديه وعد إلهي بالبركات الزمنية التي لا تفارق بيته.
ب- الأرض الجديدة: التي تحدث عنها يوحنا الرائي في سفر الرؤيا قائلًا: "ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا" (رؤ 21: 1).
2- قول السيد المسيح بأن الودعاء يرثون الأرض، حتى وإن أخذنا مفهوم الأرض بالمفهوم المادي، فأنه لا يتعارض مع قوله: "بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً"، لأنه هنا يتكلم عن درجة الكمال كقوله للشاب الغني: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي" (مت 19: 21)، ومن يتخلى عن أرضه وممتلكاته فإن اللَّه يعوضه في الحياة الأخرى، وفي هذه الحياة أيضًا، فعندما قال بطرس للسيد المسيح ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك: "فَقَالَ لَهُمُ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ. إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هذَا الزَّمَانِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ" (لو 18: 29، 30).
3- عندما قال يوحنا الحبيب: "لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ" (1 يو 2: 15) فهو تحذير لنا لئلا تمتلكنا الأرض عوضًا أن نمتلكها، كقول "القديس أغسطينوس": "أنكم ترغبون في إمتلاك الأرض، ولكن احذروا أن تمتلككم هيَ. أنكم ستمتلكونها إذ صرتم ودعاء. وستمتلككم إن لم تكونوا هكذا. عند سماعكم هذه الجعالة، أي امتلاك الأرض، لا تبيحوا لأنفسكم الطمع الخفي" (538). فنحن نعيش في العالم ولا نسمح للعالم أن يعيش فينا. نمتلك الأرض والمنزل والمال ولا ندع شيئًا يمتلكنا، لأن حياتنا مكرَّسة للَّه.
_____
(534) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص128.
(535) تفسير العهد الجديد - المجلد الأول ص68.
(536) ترجمة القمص تادرس يعقوب - الموعظة على الجبل ط 1962 ص45.
(537) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص98.
(538) المرجع السابق ص98.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/251.html
تقصير الرابط:
tak.la/h5zx77t