س249: هل عبارة " فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا" (مت 5: 2) من قبيل الحشو واللغو؟ وما معنى كلمة "طُوبَى"؟ وما فائدة تلك التطويبات التي لم تغير شيء من شرور العالم على مدار ألفي عام؟ أليست هذه التطويبات نوعًا من السراب وأفيون الشعوب؟ ولمَ جعل الإنجيل "الْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ" في مقدمة المطوَّبين؟
ج: 1ــ كان القديس متى دارسًا متعمقًا في العهد القديم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وعندما جلس المسيح على الجبل ليعطي شريعة العهد الجديد لابد أنه لاح أمام عيني متى موسى النبي وهو يتسلَّم شريعة العهد القديم على الجبل، وعندما كتب عبارة: " فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا " ربما أراد أن يُذكّر اليهود الذين يكتب إليهم بما جاء في سفر التثنية كنبوءة عن السيد المسيح: " أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِه" (تث 18: 18)، ولهذا أبرز القديس متى وجه الشبه بين شريعتي العهد القديم والعهد الجديد، وإن كانت شريعة العهد القديم بدأت بالوصايا، فإن شريعة العهد الجديد بدأت بالتطويبات، وإن كان العهد القديم قد انتهى بلعن: " لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْن" (ملا 4: 6) فإن العهد الجديد جاء بالتطويب والسعادة والبركة: " عَالِمِينَ أَنَّكُمْ لِهذَا دُعِيتُمْ لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً" (1 بط 3: 9). ويقول "القديس أغسطينوس": "وربما يكون هذا القول لأنه الآن فتح فاه، بينما اعتاد في الشريعة القديمة أن يفتح أفواه الأنبياء"(522) وقال القديس يوحنا ذهبي الفم معنى " فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ" أنه علمهم من قبل بالقدوة، بسلوكه وأعماله الحسنة دون أن يفتح فاه بالتعليم.
وعبارة " فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ" عبارة استهلالية تُقال عندما يكون المعلم مزمع أن ينطق بأقوال هامة وخطيرة وذات مغزى كبير، وهيَ عبارة كتابية ليست غريبة عن روح الكتاب، فقال دانيال النبي: " فَفَتَحْتُ فَمِي وَتَكَلَّمْتُ وَقُلْتُ.." (دا 10: 16) وقال القديس لوقا: " فَفَتَحَ فِيلُبُّسُ فَاهُ وابْتَدَأَ مِنْ هذَا الْكِتَابِ فَبَشِّرَهُ بِيَسُوعَ" (أع 8: 35). وعندما يقول الإنجيل " فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ " ينبغي على كل مستمع أن يفتح أذنيه ليسمع ويتعلم، فينال الطوبى من فم مخلصنا الصالح: " طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ" (مت 13: 16).. وعبارة " فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ " تحمل معاني تفيض بالحب، فالكلام الخارج من فم مخلصنا الصالح نابع من عمق قلبه وفكره، فهو فتح قلبه أولًا ثم فتح فمه، وأيضًا فعْل " وعَلَّمَهُمْ " في الأصل اليوناني له عمقه، فهو لا يعني فعل ماضٍ بسيط مر وزال وإنتهى، إنما يدل على الإستمرارية، فالرب يسوع فتح قلبه وفمه وكان دائمًا يعلمهم.
ويقول "مستر جورج إسوان": " فَفتحَ فاهُ... في هذه الموعظة نفائس وكنوز، وحِكم ثمينة، لم ينطق بمثلها قط إنسان. خاطب المسيح تلاميذه وفقراء الشعب، وسائر صيادي الجليل، وفلاحي البلاد المجاورة، وتُجار القرى بأبسط لغة يفهمونها. موضحًا كلامه بأمثلة مستمرة مما يحيط به من المناظر الطبيعية. ومع كل هذا فإن تعليمه السامي الإدراك، فائق في الأدب والروحيات، ولو تُرجم إلى كل لغات العالم لما ذهب شيء من فنونه فهو كلام يصل إلى أعماق قلوب جميع البشر. وكما أنه بسيط العبارة يفهمه الإنسان البسيط. فهو أيضًا سامٍ في الفكر والمبدأ... قد اشتغل أصحاب المدارك الممتازة ورجال الأقلام في كل عصر، في كشف مكنوناته ولم يزل كلامه إلى اليوم لغز الأجيال. وكل من ذاق عذوبة حلاوته شعر أنه لم يصل إلاَّ إلى حافة بحر عظيم فياض بتعاليم عجيبة سامية" (523).
2- معنى كلمة " طُوبَى " أي بالسعادة !! ما أسعد !! ما أهنًا !! فالطوبى تعني السعادة والبركة الكاملة البعيدة عن الشقاء والتعاسة، وفي اللغة اليونانية الكلاسيكية نجد كلمة "مكاريوس" أي المطوَّب، وكانت تُستخدم لوصف سعادة وبهجة الآلهة الذين يتمتعون بالخلود، فالكلمة تُعبر عن حالة الغبطة والسعادة النابعة من الداخل ولا تعتمد على مصدر خارجي، كما كانت تُطلق على سعادة الزوج بزوجته الرائعة، وسعادة الآباء بأبنائهم البارعين.
وكلمة " طُوبَى" هيَ الكلمة الاستهلالية لسفر المزامير: " طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَار.." (مز 1: 1)، وهيَ كلمة كتابية (مز 32: 1، مت 11: 6، 13: 16، 17، رو 4: 7، 8)، والتطويب ليس سعادة تمس الإنسان من الخارج إنما تتلامس مع الداخل، ولا تعبر التطويبات عن آمال وأمور طيبة مستقبلية أو نبؤات عن بركات مؤجلة سنحصل عليها في العالم الآتي، إنما تعبر عن بركات حاضرة نتمتع بها هنا بصورة مصغرة وتكتمل في العالم الآتي بصورة كاملة وبهية.
3- القول بأن التطويبات لم تغير شيء في العالم منذ ألفي سنة قول جائر، لأن هناك ملايين من البشر سلكوا بحسب هذه التطويبات ووصلوا إلى فردوس النعيم، فكانوا وما زالوا كنجوم مضيئة في ظلمة الليل البهيم، والحقيقة أنه لا يوجد في العالم كله على مدار تاريخه الطويل ما يماثل الموعظة على الجبل بعمقها ومدى تأثيرها القوي على النفوس النبيلة، فما أكثر الذين إصطادتهم هذه الموعظة فأصبحوا أبناء الملكوت.
ويقول "الخوري بولس الفغالي": " أعلنت التطويبات منذ ألفي سنة، ولكن العالم لم يتبدل. أما يدهشنا هذا الأمر ويجعل بعض اليهود يرون في ذلك برهانًا أن ملكوت السموات لم يأتِ بعد؟ أتكون هذه التطويبات نوعًا من السراب أو أفيونًا للشعب؟ كلاَّ ثم كلاَّ. فيسوع هو الذي يكمّلها، وهو الواقع الأخير الذي ينيرها... منذ ألفي سنة لم يتغير شيء. هذا صحيح إذا نظرنا إلى الأمور من الخارج، لأن اللَّه ليس بساحر، غير أن البر الذي تم بواسطة يسوع قد حمل إلى العالم سعادة كبيرة، فقدم له رجاء يتجاوزه ويتجسَّد حقًا في تصرفات البشر. فالعنف قد يحل محله قبول الآخر، والحوار المستحيل يجد له موضع لقاء مع اللَّه... وهكذا يتحدَّد موقع الأخلاقية المسيحية: هيَ كمال اللَّه السائر في تاريخ البشر، يبقى علينا أن نكتشفه بنظرة جديد تبعث فينا السعادة" (524).
4- المساكين بالروح هم المتضعين المنسحقين الذين اكتشفوا حقيقة ضعفهم، وحقيقة زوال العالم بكل مباهجه. وإن كان الكبرياء هو السبب في سقوط الشيطان، فإن الاتضاع هو سر رفعة الإنسان المتضع. ويقول "القديس أغسطينوس": " لنفهم بالحقيقة أن المساكين بالروح هم المتواضعون وخائفوا اللَّه أي الذين ليس لديهم الروح التي تنتفخ" (525). ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": " كما أن الكبرياء هيَ ينبوع كل الشرور هكذا الإتضاع هو أساس كل ضبط للنفس" (526). كما يقول أيضًا: " لقد وضع هذا (الاتضاع) كأساس يقوم عليه البناء في أمان، فإن نُزِع هذا عنا حتى وإن بلغ الإنسان السموات ينهار تمامًا ويبلغ إلى نهاية خطيرة بالرغم من ممارسته الأصوام والصلوات والعطاء والعفة وكل عمل صالح. بدون الإتضاع ينهار كل ما تجمعه داخلك ويهلك"(527). وقال داود النبي: " ذَبَائِحُ اللَّه هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اللَّه لاَ تَحْتَقِرُهُ" (مز 51: 17)، ولذلك جعل الرب يسوع هذه التطويبة في مقدمة التطويبات بالرغم من أن العالم القديم كان ينظر للتواضع على أنه مذلة وخنوع ورذيلة، فالتواضع هو خيط المسبحة الذي يجمع جميع الفضائل ويحفظها من الضياع والشطط، فأي فضيلة تخلو من التواضع تحتسب رذيلة.
ويقول "دكتور وليم إدي": " فالمسيح يعلن هنا سجايا الذين لهم حق أن يفرحوا بإتيان ملكوته، فليس الذين يحسبهم العالم مغبوطين هم المغبوطون كالأغنياء الدنيويين أو القائمين بشعائر الدين الطاهرة، الأبرار في عيون أنفسهم. وليست السجايا الممدوحة من الناس هيَ التي تستحق المدح الحقيقي كالحكمة والشجاعة والقوة بل السجايا التي يمدحها المسيح هيَ التواضع وإنسحاق القلب والحُلم والعواطف الروحية والرحمة والطهارة ومحبة السلام والصبر. فالذين يباركهم حبرنا الأعظم هم مغبطون حقًا" (528).
والإنسان المسكين بالروح بينما يشعر بضعفاته، فأنه يثق في الوعود الإلهيَّة " لأَنَّهُ لاَ يُنْسَى الْمِسْكِينُ إِلَى الأَبَدِ. رَجَاءُ الْبَائِسِينَ لاَ يَخِيبُ إِلَى الدَّهْر" (مز 9: 18).. "هذَا الْمِسْكِينُ صَرَخَ وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ" (مز 34: 6).. " يَارَبُّ مَنْ مِثْلُكَ الْمُنْقِذُ الْمِسْكِينَ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَالْفَقِيرَ وَالْبَائِسَ مِـنْ سَالِبِه" (مز 35: 10) (راجع مز 68: 10، 72: 4، 107: 41، 132: 15... " وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي" (إش 66: 2) الذي يلقي بنفسه في الأحضان الإلهيَّة، ويقول "وليم باركلي" عن المساكين بالروح: " فإذا أخذنا المعنى اليوناني للكلمة، وهيَ حالة الفقر الكامل، والمعنى العبراني للكلمة وهو حالة التواضع والاعتماد الكلي على اللَّه، فإن المعنى هنا يكون: " يالسعادة الشخص الذي تبين له فقره الروحي الكامل، ولذلك وضع ثقته الكاملة في اللَّه". إن هذه الآية لا تصف الفقر بأنه شيء جميل، فالفقر ليس شيئًا جميلًا، والمسيح لم يمتدح حالة الفقر التي بسببها يعيش الناس في أكواخ قذرة، ويتضوَّرون جوعًا، ويفقدون قواهم وصحتهم. إن هدف الإنجيل هو إزالة مثل هذه المظاهر من حياة الناس... إن الفقر الذي يمتدحه المسيح هو الفقر الروحي، هو إحساس الناس بأنهم لا يمتلكون مقومات الحياة الروحية، ولذلك يلجأون إلى اللَّه لمعونتهم وقوتهم" (529).
والذي يتأمل في التطويبات يجدها مترابطة ومتدرجة، فيقول "مستر جورج إسوان" عنها: " المساكين... الحزانى... الودعاء... الجياع والعطاش... الرحماء... الأنقياء القلب... صانعي السلام... المطرودين. هذه الصفات سائرة في نظام تدريجي طبيعي في مقدمة الكل "المسكنة الروحية" التي هيَ عبارة عن الاستعداد للتوبة، والصفة التي تتبع هذه هيَ الحزن، لأن من نتائج التوبة الحقيقية الحزن على الخطية. ثم الوداعة التي هيَ عبارة عن الخضوع لإرادة اللَّه. ويأتي بعدها الجوع والعطش إلى البر وهذه تولد صفات رئيسية تتبع بعضها بعضًا في نظام تدريجي كما على درجات سلم. وهذه الصفات هيَ: الرحمة، والطهارة، وحب السلام، والاحتمال في سبيل البر. ويمكننا أن نعتبر أن الصفة الأخيرة تشجيعًا للتلاميذ، ومحكًا للتلمذة الحقيقية" (530).
_____
(522) ترجمة القمص تادرس يعقوب - الموعظة على الجبل ط 1962م ص43.
(523) المرشد الأمين في شرح الإنجيل المبين جـ1 شرح بشارة متى ط (2) 1931م ص53.
(524) دراسات بيبلية - 14 - إنجيل متى جـ 1 ص245، 246.
(526) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص94.
(527) المرجع السابق ص94.
(528) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص53.
(529) تفسير العهد الجديد - المجلد الأول ص64، 65.
(530) المرشد الأمين في شرح الأنجيل المبين جـ 1 شرح بشارة متى ص54.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/249.html
تقصير الرابط:
tak.la/4xss2w4