س235: كيف يقتبس إبليس من الأسفار المقدَّسة (مت 4: 6، مز 91: 11، 12) ليؤيد وجهة نظره؟ وهل تلاوة المزامير تطرد الشياطين أم أن الشياطين تتجرأ وتنطق بالمزامير؟
ج: 1ــ في جهاد الإنسان يتعرض لتجارب سواء بضربات يسارية أو ضربات يمينية من عدو الخير، الضرباب اليسارية هيَ الإغراءات التي يقدمها إبليس من لذات وشهوات ومال وجمال وشهرة... إلخ، فيسلك فيها الإنسان مخالفًا الوصايا الإلهيَّة، أما الضربات اليمينية فهيَ الدعوة للتطرف في الأمور الصالحة على حساب أمور أخرى، كما حدث مع أهل تسالونيكي عندما توقَّعوا قرب مجيء الرب فتركوا أعمالهم، حتى أن بولس الرسول إضطر أن يقول لهم: " إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا" (2 تس 3: 10)، فعندما يفقد الإنسان روح الإفراز والتمييز يسهل على عدو الخير أن يضربه بضربات يمينية، وفي حروب الشيطان مع الآباء الرهبان كثيرًا ما ظهر لهم في شكل ملاك نوراني: " وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ" (2 كو 11: 14).
وقد اختلفت هذه التجربة الثانية عن التجربة الأولى، ففي التجربة الأولى سعى عدو الخير لكي يزعزع ثقة يسوع في اللَّه، وخاب ظنه، ففي هذه التجربة أراد أن يستغل ثقة يسوع في اللَّه، فقال له ما دمتُ أنتَ واثق في بنوتك للَّه فاطرح نفسك من على حجاب الهيكل، واللَّه الذي حفظك خلال الأربعين يومًا بدون طعام بلا شك سيحفظك في سقوطك، فأوضح له السيد المسيح أن الثقة في اللَّه لا تعني على الإطلاق تجربة اللَّه، فالثقة باللَّه شيء وتجربته شيء آخر، فيسوع المسيح يثق ثقة كاملة في أبوة الآب له وعنايته وقدرته وأمانته، إذ هو واحد مع أبيه في الجوهر، ولكن لا يصح أبدًا أن يمتحن هذه الأمانة، فمادام هناك مسلك آمن للنزول من أعلى إلى أسفل عبر الدرجات، فما الداعي لتلك الأعمال الاستعراضية البهلوانية؟!.
2ــ طلب إبليس أولًا من يسوع أن يحوّل الحجارة إلى خبز ليشبع جسده، فرد عليه السيد المسيح بما هو مكتوب، وسريعًا ما لجأ إبليس بدهاء شديد إلى ما هو مكتوب أيضًا مع بعض التحوّير وبعض الحذف، واستخدام المكتوب في غير موضعه، حيث اقتبس من سفر المزامير (مز 91: 11، 12) قائلًا: " لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ" (مت 4: 6)، وهذا المزمور يتحدث عن حفظ اللَّه للإنسان الساكن في ستر العلي المحتمي باللَّه، فيهبه وعوده بالنجاة من فخ الصياد، والمقصود بالصياد الشيطان، وينجيه من سهام عدو الخير، ويرسل له ملائكته ليحفظوه في كل طرقه ويعده بالنصرة على الشيطان، ولذلك لم يكمل إبليس الآية التالية مباشرة: " عَلَى الأَسَدِ وَالصِّلِّ تَطَأُ. الشِّبْلَ وَالثُّعْبَانَ تَدُوسُ" (مز 91: 13)، لأنه يعرف جيدًا أنه هو المقصود بهذه الأوصاف، فقد أعطانا اللَّه أن ندوس على الحيَّات والعقارب وكل قوات العدو. ويقول "القديس جيروم": " يفسر الشيطان المكتوب تفسيرًا خاطئًا... كان يليق به أن يُكمِل ذات المزمور الموجه ضده إذ يقول: " تطأ الأفعى وملك الحيات وتسحق الأسد والتنين "، فهو يتحدث عن معونة الملائكة كمن يتحدث إلى شخص ضعيف محتاج للعون ولكنه مخادع إذ لم يذكر أنه سيُداس بالأقدام" (459).
3ــ عندما اقتبس إبليس من المكتوب أساء الاستخدام والتفسير، فقد استخدم الحق فيما هو باطل وضلال، فكلمة اللَّه صادقة وأمينة، وقد أختبر إبليس صدق كلمات هذا المزمور عندما جرَّب داود البار ورأى كيف حفظه اللَّه. أما الباطل الذي أسقطه إبليس على المكتوب فيتمثل في الآتي:
أ - إنه أساء اقتباس الوعد، فالوعد يقول: " لأَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ. عَلَى الأَيْدِي يَحْمِلُونَكَ لِئَلاَّ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ" (مز 91: 11، 12)، أما إبليس فقد أسقط: " لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ"، أي في كل حياتك، ويقول "بنيامين بنكرتن": " لنلاحظ أيضًا خُبث الشيطان الظاهر في سوء اقتباسه كلام اللَّه... فقد حذف المجرّب الجزء الأخير " لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ "، لأن لنا طرقًا معينة من اللَّه، وما دمنا نسلك فيها يمكننا بضمير صالح أن نتكل عليه كل الإتكال. ولكن إن حدنا عنها واخترعنا لأنفسنا طرقًا أخرى، فلا يكون اللَّه معنا فيها (2 أي 15: 2). لقد طُرح دانيال مثلًا في جُب الأسود حسب إرادة اللَّه فحفظه، ولكن لم يكن من الأمور الجائزة أن يطرح هو نفسه إلى هناك ليجرّب اللَّه أيحفظه أم لا؟" (460).
ب - الوعد الإلهي الذي جاء في المزمور (مز 91: 11، 12) يخبرنا بأن الإنسان لو تعرَّض في حياته للسقوط فإن اللَّه يُرسل ملائكته ليحفظوه، وقد حدث هذا مع الأنبا تكلا هيمانوت، فعندما سقط من جبل شاهق نبتت له ستة أجنحة حملته كما هو واضح من أيقونته فلم يُصب بأذى، وفي العصر الحديث حدث مع أبونا لعازر الأنطوني وهو أحد الآباء المتوحدين وهو يسكن في مغارة على سفح جبل الأنبا أنطونيوس أنه تعثر وأختل توازنه وسقط وتدحرج وكاد يسقط من حافة الجبل إلى هوة عميقة، فصرخ: " يا ربي... يا عدره"، وإذ بيدين تحيطان به وتوقفه عن الإنزلاق، فينجو من موت محقَّق. أما إبليس فأراد من يسوع أن يزج بنفسه في مكامن الخطر، ويطرح نفسه من على جناح الهيكل، مدعيًا أن الملائكة ستحرسه، مقتبسًا في هذا وعدًا إلهيًّا أساء استخدامه، فرد عليه السيد المسيح بوصية إلهيَّة موافقة تمامًا للموقف، فقال له: " لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ".
ويقول "مار ديوناسيوس يعقوب ابن الصليبي" عن اللَّه أنه: " يعلمنا أن لا يجب أن يجرب أحد الرب إلهه، بل يجب أن يستعين به عند التجارب. وأنه غير جائز أن يطرح الإنسان نفسه بإرادته في هوة أو فخ طمعًا في معونة اللَّه، إلاَّ أنه تعالى لا ينجي إلاَّ من داهمته التجارب كُرهًا لا طوعًا وإختيارًا. وإذا خالجنا فكر من هذا القبيل فلنسلم أن مصدره الشيطان إذ أنه منذ البدء رمى بنفسه من فوق وصار سفليًا" (461).
ويقول "وليم باركلي": " معنى هذا أنه ليس من الواجب أن يضع الإنسان نفسه في موقف يهدده بالخطر، ويتوقع أن اللَّه ينجيه منه. إن اللَّه قد يطلب من الإنسان المخاطرة في سبيل الولاء له، ولكنه لا يطلب منه المخاطرة ليرفع مقامه الشخصي، ويعظم ذاته، فضلًا عن أن الإيمان الذي يعتمد على الآيات والعجائب ليس بالحقيقة إيمانًا، بل هو شك يبحث عن برهان. أن قدرة اللَّه المُخلّصة ليست إجراء يعبث به الإنسان، ويجري عليه الإختبارات والتجارب، بل هيَ حقيقة نثق بها في هدوء، خلال حياتنا اليومية" (462).
ويقول "دكتور وليم أدي" عن القصد السيئ لإبليس: " هو الإتكال على الحماية الإلهيَّة في الأحوال التي لم يَعدْ اللَّه فيها بالحماية، وذلك متى دخل الإنسان في الخطر عمدًا... ذلك لم يكن وعدًا بالوقاية من أخطار نأتيها اختيارًا...
لا تجرب: أي لا تطلب برهانًا لما لا يحتاج إلى زيادة برهان، ومعناه هنا لا تطلب من اللَّه أن يبرهن إعتناءه عندما تُلقي ذاتك في خطر لا لزوم لك للدخول فيه. فكأنه قال لا يجوز لي أن أجرب عناية اللَّه وصدقه بطرح نفسي من فوق إلى أسفل لأن هذا يكون طمعًا وليس اتكالًا، وكل من طلب برهان محبة آخر له أظهر الريب في تلك المحبة، فطلب برهان كهذا لا يكرّم اللَّه ولا يُظهِر الاتكال التام عليه وعلى وعده بل الشك فيه" (463).
جـ - لم ينطق إبليس بالآية التالية مباشرة (مز 91: 13) والتي تُكمِل الصورة، كما أراد إبليس أن يضع كلمة اللَّه موضع الإمتحان، فيقول "جون ويسلي": " فالاقتراح هو أن يضع كلمة اللَّه موضع الإمتحان ويحوّل الثقة إلى ثقة طائشة وكبرياء. وربما كان الإقناع (الذي قدمه إبليس) في هذه التجربة لكي يبرهن لمن يعبدوه على الأرض أنه هو الرب الذي يطلبونه " وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ" (ملا 3: 1). وكان من تحت الجبل (الهيكل) يقدمون الذبيحة الصباحية، وحيث كانت تُفتَح ببطء أبواب الهيكل الضخمة، ويُضرَب بالأبواق الفضية لدعوة إسرائيل لبداية يوم جديد ليظهروا أمام الرب. إذًا عليه أن يرمي نفسه محمولًا بقوة السماء في وسط الكهنة والشعب. ما أعظم أصوات التهليل والهتاف لتحيي هذا المنظر! وما أعظم الإكرام والتعبُّد الذي سيُقدَم له!.. والغرض المطلوب الرئيسي يمكن الوصول إليه وهو إيمان إسرائيل" (464).
ويقول "بنيامين بنكرتن": " فكان قصد المجرّب من قوله: " فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ " أي يغوي الرب يسوع على أن يمتحن صدق كلمة اللَّه، ليرى هل اللَّه صادق أم لا... قال العدو: " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ "، وبذلك تتحقق أن اللَّه معك، ولكن يسوع كان متحقّقًا أن اللَّه معه وأن أقواله صادقه، دون أن يُجرّب ذلك بطرح نفسه إلى أسفل. فأجاب وقال: " مَكْتُوبٌ أَيْضًا لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ ".. التردد في تصديق اللَّه، أو الشك في صدق كلمته، ينتج من عدم الإيمان.." (465).
4ــ ليست تلاوة المزامير هيَ التي تطرد الشياطين، إنما الصلاة بالمزامير بإيمان هيَ التي تقهر الشيطان، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. والذي يتلو المزامير كمحفوظات فإن الشياطين تهزأ به، فبولس الرسول كان يطرد الأرواح الشريرة بِاسم يسوع المسيح، فأراد أبناء سكاو السبعة أن يقلدوا بولس دون أن يكون لهم إيمان وصلوات بولس، فماذا فعل بهم الرجل الذي كان عليه الروح الشرير؟.. " فَوَثَبَ عَلَيْهِمُ الإِنْسَانُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الرُّوحُ الشِّرِّيرُ وَغَلَبَهُمْ وَقَوِيَ عَلَيْهِمْ حَتَّى هَرَبُوا مِنْ ذلِكَ الْبَيْتِ عُرَاةً وَمُجَرَّحِينَ" (أع 19: 16). بل أن الشيطان يحفظ جميع ما هو مكتوب في الكتاب المقدَّس بالكامل، وكثيرًا ما يستخدم المكتوب لإسقاط الإنسان، وهذه التجربة خير دليل على الإستخدام الخاطئ للمكتوب.
_____
(459) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص87.
(460) تفسير إنجيل متى ص54، 55.
(461) الدر الفريد في تفسير العهد الجديد جـ 1 ص152، 153.
(462) تفسير العهد الجديد المجلد الأول ص55.
(463) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص41، 42.
(464) تفسير إنجيل متى ص29، 30.
(465) تفسير إنجيل متى ط (3) 1981م ص54.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/235.html
تقصير الرابط:
tak.la/wmhh26f