س234: هل جرَّب الشيطان السيد المسيح بعد صوم الأربعين يومًا (مت 4: 2، 3)، أم أنه ظل يجربه طوال الأربعين يومًا (مر 1: 13)؟ ولماذا اختلف ترتيب التجربة الثانية (تجربة جناح الهيكل) في إنجيل متى (مت 4: 5 - 7) عنها في إنجيل لوقا، فجاءت الثالثة (لو 4: 9 - 12) عوضًا عن الثانية؟ وكيف يجرؤ الشيطان أن يأخذ المسيح ويوقفه على جناح الهيكل (مت 4: 5)؟ وكيف يترك المسيح الإله نفسه للشيطان ليحمله عوضًا عن أن تحمله المركبة الشاروبيمية؟ وهل طلب الشيطان من المسيح يعد طلبًا منطقيًا أم أنه ضد العقل والمنطق؟
ويقول "علاء أبو بكر": "س231: وأين باقي التجارب؟ هل قام الشيطان بهذه التجارب الثلاث فقط في مدة مقدارها أربعين يومًا؟ فكل ما ذكرته الأناجيل يستغرق على سرعة الإله والشيطان ساعة واحدة. فماذا فعل الشيطان مع الإله في الأربعين يومًا إلاَّ ساعة؟" (449).
ج: 1ــ قال القديس مرقس: " وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (مر 1: 13)، وقال لوقا الإنجيلي: " وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ. أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ" (لو 4: 1، 2)، فمن الواضح أن حروب الشيطان لم تنقطع منذ أن اختلى السيد المسيح بنفسه على جبل التجربة، ولكن هذه التجارب اشتد وطيسها في مراحلها الأخيرة، ولاسيما عندما اشتد الجوع على السيد المسيح، وتمثلت في التجارب الثلاث التي سجلها الإنجيل، وعندما قال القديس متى: " فَبَعْدَمَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ.." (مت 4: 2، 3) لم يذكر أن هذه هيَ بداية التجارب، مثلما قال يوحنا الحبيب عن معجزة تحويل الماء إلى خمر أنها بداءة المعجزات التي صنعها يسوع. ويقول "الأب متى المسكين": "ويلاحظ القارئ المدقّق أن تجربة المسيح دامت على مدى الأربعين يومًا، ولكنها تركزت في الأيام الأخيرة حينما جاع الجسد وصار في متناول شد الشيطان وجذبه" (450).
2ــ جاء ترتيب التجارب الثلاث في إنجيل متى:
أ – تجربة الخبز. ب- تجربة جناح الهيكل. جـ- تجربة ممالك الأرض.
بينما جاء الترتيب في إنجيل لوقا:
أ – تجربة الخبز. ب- تجربة ممالك الأرض. جـ- تجربة جناح الهيكل.
والسبب في هذا أن القديس متى اتبع التسلسل الزمني، بينما ركز القديس لوقا على البُعد الجغرافي، ويقول "نيافة المتنيح الأسقف إيسيذورس": " إن متى سرد تجارب المسيح مراعيًا فيها ترتيب الزمان، أما لوقا فراعى فيها ترتيب المكان، لأن تجربتي المسيح المتعلقتين بتحويل الحجارة خبزًا وطلب السجود للمجرب كانتا في البرية" (451).
وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي": " يسجل لوقا أن الرب يسوع جُرّب طوال الأربعين يومًا التي كان صائمًا فيها، ويبدو أن التجارب التي يسجلها متى ولوقا قد حدثت في ختام هذه الفترة حينما بلغ جوع الرب يسوع أقصى مداه وانخفضت مقاومته. يختلف سرد التجربتين الثانية والثالثة في الإنجيل كما دوَّنه متى عنه في الإنجيل كما دوَّنه لوقا. لعل السبب في ذلك أن متى تتبع التسلسل الزمني حيث أنه في نهاية تجربة الجبل (الثالثة حسب ترتيب متى) يأمر الرب يسوع الشيطان بالرحيل (مت 4: 10). كثيرًا ما يميل كتَّاب الأناجيل، بغرض تأكيد فكرة معينة، إلى الجمع بين أحداث متنوعة دون أن يقصدوا تقديم أحداث مرتبة زمنيًا. لعل لوقا يركز هنا على المكان الجغرافي، إذ يختم هذا الجزء بذكر وصول الرب يسوع إلى أورشليم" (452).
وتعتبر التجربة الثالثة (ممالك الأرض) هي أقوى التجارب الثلاث، ولاسيما أن الفكر الذي كان منتشرًا حينذاك أن اللَّه سيرد المُلك لإسرائيل، ونظرًا لأهمية هذه التجربة وقوتها وخطرها وقد صاحبتها رؤية ممالك العالم، لذلك جعلها القديس متى تأتي في نهاية التجارب التي تعرض لها الرب يسوع، علاوة على تسلسلها الزمني.
3ــ كان جناح الهيكل مرتفعًا عن الأرض حتى أن من ينظر من أعلاه إلى الأرض يُصاب بدوار، فيقول "دكتور وليم أدي" عن جناح الهيكل: " جزء ناتئ عن سطح الهيكل إلى أمامه، أو من رواق سليمان الذي بُني مشرفًا على وادي يهوشافاط، من علوٍ شاهق. قال يوسيفوس... يعتري الناظر منه إلى أسفل دوار" (453).
وعندما أخذ الشيطان السيد المسيح على جناح الهيكل لم يأخذه عنوة رغمًا عنه، إنما طلب منه أن يذهب معه، فذهب معه المسيح باختياره ليخزيه ويسحقه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى.
ويقول "متى هنري" عن إبليس: " إنه أخذ المسيح لا قوة ولا قسرًا بل طلب منه الذهاب إلى أورشليم وذهب معه إليها " ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ " ولا نعلم على وجه التحقيق إن كان المسيح سار على الأرض وصعد على الدرج حتى وصل قمة الهيكل، أو أنه إنطلق في الهواء، ولكن ما حصل أنه " أَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ "، وهنا نلاحظ:
(أولًا) كيف ارتضى المسيح بأن يأتي الشيطان بأسوأ ما عنده ومع ذلك غلبه. أن صبر المسيح الذي تجلى هنا والذي تجلى فيما بعد في آلامه وموته أكثر عجبًا من قوة الشيطان وجنوده. لأنه ليس للشيطان ولا لجنوده سلطان على المسيح لو لم يكونوا قد أُعطوا من فوق (يو 19: 11). مما يعزينا أن المسيح الذي حلَّ قيود قوة الشيطان هذه وأطلقه حرًّا ضد شخصه المبارك لا يطلقه حرًّا ضدنا بل يكبح جماحه " لأنه يعرف ضعفنا ".
(ثانيًا) كيف كان الشيطان ماكرًا خبيثًا في اختيار المكان للتجربة. إذ قصد إغراء المسيح للمباهاة بقوته والفخر الباطل بعناية اللَّه أتى به إلى مكان عام في أورشليم، وهيَ مدينة مزدحمة " فرح كل الأرض "، إلى الهيكل إحدى أعاجيب العالم، الذي كان الجميع يتطلعون إليه باعجاب. هنالك يستطيع أن يُظهِر ذاته فيراه كل أحد، ويبرهن على أنه ابن اللَّه، ليس في زوايا النسيان في البرية كما حصل في التجربة السابقة بل أمام الجماهير في أظهر مكان" (454).
4ــ يرى البعض أن إبليس أخذ يسوع إلى أورشليم فعلًا، فمثلًا يقول "بنيامين بنكرتن": "جرى هذا العمل حقيقة، إذ سمح الرب يسوع لإبليس أن يأخذه من البرية، موضع التجربة الأولى، إلى جناح الهيكل في أورشليم" (455)، ورأى البعض أنه ربما جسَّد الشيطان مدينة أورشليم وجناح الهيكل ليسوع وهو في البرية، دون أن يكون هناك حاجة أن يحمله من البرية إلى أورشليم أو يطلب منه الذهاب إلى أورشليم، فيقول "الأب متى المسكين": " أما كيف أخذه الشيطان إلى المدينة المقدَّسة وأوقفه على جناح الهيكل، فليس من الضروري أن يكون قد انتقل من مكانه وإنما تجسد المنظر المعقول حتى أنه يكون طبق الأصل من الحقيقية... حيث صوَّر (الشيطان) للمسيح كيف أن نزوله في الهواء من هذا العلو الشاهق سيكون معجزة تثبت أنه ابن اللَّه وتقنع الناس للإيمان به"(456).
5ــ بعد أن أوقف إبليس يسوع على جناح الهيكل لم يجرؤ أن يمد له يد الأذى، بأن يدفعه إلى أسفل، بل طلب منه أن يطرح نفسه لينتزع إعجاب الجموع في هذا المكان المزدحم فيعترفون برسالته السمائية، وبالطبع لم يكن طلب إبليس منطقيًا ولا يتفق مع العقل، ويقول "الخوري بولس الفغالي": " وجمع المجرّب الصوُّر، وجعل يسوع في إطار مهيب على قمة الهيكل من حيث يرى الجموع المحتشدة في عيد من الأعياد " إن كنت ابن اللَّه، ارمِ نفسك ". وهكذا يلعب يسوع دور المسيح المنتصر وسط أخصائه بقدرة نالها من اللَّه، ولكنه يتصرف بها على هواه لا بحسب مشيئة اللَّه. عليه أن يلعب دورًا أن " يمثّل " كما يفعل أبطال السينما. ولكن رسالة يسوع هيَ واقع وحقيقة وليست خيالًا وسرابًا. هو لا " يمثل" (كأبطال السينما. لا يتظاهر) فيدل على أنه ابن اللَّه. أنه حقًا ابن اللَّه، وهو لا يأخذ مجده من البشر. مجده هو أن يكون اللَّه وابن اللَّه، وهذا يغنيه عن كل المفاخر البشرية التي تدغدغ الإنسان ولا تملأ فراغ قلبه" (457).
ويحلّل "متى هنري" طلب إبليس من يسوع أن يُلقي بنفسه من على حجاب الهيكل، فيقول:" (أولًا) يعجب بك العالم إذ يراك تحت عناية خاصة من السماء، عندما يرونك لم تُؤذَ بالسقوط من هذا الارتفاع الشاهق يقولون (كما قال البرابرة عن بولس) أنك إله. يقول التقليد أن سيمون الساحر حاول أن يثبت أنه إله بنفس هذه الطريقة، ولكنه فشل في محاولته وسقط وتهشم جسمه.
(ثانيًا) تُستقبَل كأنك قادم برسالة خاصة من السماء. ستنظر كل أورشلم وتقرّر وتعترف بأنك لست أكثر من إنسان فحسب بل أنك أنت " ملاك العهد " الذي " يَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ" (ملا 3: 1)، ومنه ينزل إلى شوارع المدينة المقدَّسة، وبهذا يتم إقناع اليهود سريعًا" (458).
ولقد أراد إبليس أن يراهن على مدى صدق كلمة اللَّه في سفر المزامير (مز 91: 11، 12)، ولم يجبه السيد المسيح عن صدق كلام اللَّه، إنما أجابه بما هو مكتوب في سفر التثنية ويناسب الموقف، فقال له: " لا تجرب الرب إلهك ".
_____
(449) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 4 ص 245.
(450) الإنجيل بحسب القديس لوقا ص89.
(451) مشكاة الطلاب في حل مشكلات الكتاب ط1 1939م ص453.
(452) الكتاب المقدَّس الدراسي ص2425.
(453) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص41.
(454) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص91.
(455) تفسير إنجيل متى ص 54.
(456) الإنجيل بحسب القديس متى ص 190.
(457) دراسات بيبلية - 14 - إنجيل متى - بدايات الملكوت جـ 1 ص 214، 215.
(458) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص92.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/234.html
تقصير الرابط:
tak.la/rhxhz8x