س233: بأي معنى استخدم الشيطان تعبير "ابن الله" (مت 4: 3)؟ هل كان يقصد ابن الله بالطبيعة أي الله الكلمة، أم أنه كان يقصد ابن الله بالتبني حيث تُطلق على رجال الله الأتقياء؟ وما الذي دعى إبليس للقول بتحويل الحجارة إلى خبز؟ لماذا الحجارة بالذات؟ ومادام المسيح هو الله الكلمة فلماذا لم يُفحِم إبليس بفصاحته وحججه الدامغة عوضًا عن الاستعانة بالكلمة المكتوبة (مت 4: 4)؟ أم أنها محاولة باطنية للربط بين يسوع وشريعة موسى؟
يقول "كمال الصليبي": " ويتبين من ذلك أن قصة تجربة يسوع من إبليس قبل بدايته بدعوته ما هيَ إلاَّ محاولة باطنية للربط بين شخصه وبين شريعة موسى كما هيَ واردة في سفر التثنية، وذلك للإيحاء بأن يسوع ما جاء إلاَّ لتكتمل الشريعة به" (441).
ج: 1ــ تعجب الشيطان واندهش من شهادة الآب السمائي للسيد المسيح قائلًا: " هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت 3: 17)، فراح يجرّبه ليتأكد من حقيقة هذه البنويَّة قائلًا له: " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا" (مت 4: 3)، وتعبير " إِنْ كُنْتَ" في الأصل اليوناني لا تحتمل معنى الشك، إنما تحمل التأكيد، أي بما أنك ابن اللَّه فيجب أن تأتي بعجيبة أنت في أشد الاحتياج إليها، فمادمت أنت ابن اللَّه فلتستعمل حقوقك ومقدرتك للتخلص من الجوع الذي كاد أن يفضي بك للموت. أما السيد المسيح فقد أعلنها صريحة واضحة أنه لم يأتِ لهذا العالم لينفذ مشيئته بل مشيئة الآب الذي أرسله، وأنه جاء لا لكي يأمر بأن تصير الحجارة خبزًا، إنما جاء لكيما يطيع إلى الموت، موت الصليب: " مَعَ كَوْنِهِ ابْنًا تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِه" (عب 5: 8)، فالسيد المسيح لم يفعل إلاَّ ما يريده الأب فقط، ولم يرد السيد المسيح على إبليس بما يفيد الإيجاب ولا ما يفيد السلب أيضًا، لم يقدم له إثباتًا ولا نفيًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لم يقدم إستدلالًا يدرك منه أنه ابن اللَّه عندما يحوّل الحجارة خبزًا، ولم يقدم استدلالًا يدرك منه إبليس أنه ليس ابن اللَّه عندما يعلن أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك، إنما قدم الإجابة التي ترضي اللَّه الآب وتتفق مع مشيئته.
ويقول "وليم مكدونالد": " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّه لا تحتمل معنى الشك، لكنها تعني بالحري: "بما أنك ابن اللَّه"، وهنا يُلمّح الشيطان إلى الكلمات التي استخدمها الآب السماوي لدى معمودية يسوع: " هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ "، وهو يستخدم تركيبة الجملة اليونانية التي تفترض صحة القول، وهكذا يدعو يسوع لممارسة قوته على سبيل تهدئة جوعه" (442).
2ــ لم يتوقع الشيطان قط أن محبة اللَّه للإنسان تصل به إلى درجة أن يتخذ شكل العبد، وهناك احتمالان:
الاحتمال الأول: ظن الشيطان أن يسوع هو أحد الرجال الأتقياء، وإن كان يمثل أنموذجًا فريدًا ليس له مثيل من قبل، ويرى "الخوري بولس الفغالي" إن الشيطان كان يظن في المسيح أنه الملك المسياني المكرَّس للرب، وقد صار ابنًا للَّه بالتبني، فيقول: " ما معنى " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّه "؟. نحن لا نفهمها (في هذا الموضع) كما يفهمها المسيحي اليوم، أي عن الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس، فهذا المعنى سيتوضح خاصة بعد القيامة والعنصرة، أما في فم " إبليس " فأن ابن اللَّه هو لقب ملوكي، لقب مسيحاني بمعنى أن الملك كان يُمسَح بالزيت المقدَّس فيصبح مكرَّسًا للرب، ويُسمى "ابن اللَّه" (يتبناه اللَّه)" (443).
الاحتمال الثاني: وهو الأقل ترجيحًا أن الشيطان كان يظن أن يسوع المسيح هو ابن اللَّه بالطبيعة، ولذلك سأله: " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّه؟ "، فطالما حيَّر هذا السؤال ودوَّخ إبليس، محاولًا عدة مرات انتزاع الاعتراف منه سواء في التجربة على الجبل، أو في أثناء المحاكمة أمام رئيس الكهنة، أو حتى بعد رفعه على الصليب، ويقول "القديس كيرلس الكبير": " فترون أن إبليس يدنوا من المسيح كإنسان كأحد القديسين، ومع ذلك يرتاب في المسيح. ولكن كيف سعى الشيطان ليتحقق من لاهوت المسيح؟. كان يعلم أنه لا يمكن تغيير طبيعة المادة إلى طبيعة أخرى تغايرها في الجوهر إلاَّ بقوة إلهيَّة، فإما المسيح يغير المادة فيرتبك إبليس في أمره، أو يعجز عن القيام بهذا العمل فيُسر الشيطان لأنه لم يجد أمامه سوى إنسانًا ضعيفًا يمكن مقاومته... علم السيد المسيح ما كان يجول بخلد إبليس فلم يغيّر الخبز، ولم يعلن عجزه عن تغييره" (444).
ويصف "متى هنري" مدى إرتياب الشيطان وربكته، فيقول: " هل يُعقَل أن ابن اللَّه وهو " وارث لكل شيء " يتضايق لهذا الحد. وإن كان اللَّه أباك حقًا فأنه لا يحتمل أن يراك تموت جوعًا لأنه له: " حَيَوَانَ الْوَعْرِ وَالْبَهَائِمَ عَلَـى الْجِبَالِ الأُلُوفِ... وَوُحُوشُ الْبَرِّيَّة" (مز 50: 10، 12). صحيح أنه جاءك صوت من السماء: " هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ " ولكن يقينًا أن هذا كان نوعًا من الضلال وأنك قد خُدعت به لأنه إما أن لا يكون اللَّه أبًا لك أو أنه إله قاس" (445).
ويقول "دكتور وليم أدي": " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّه: في هذا القول تلميح إلى الصوت الذي آتى من السماء وقت المعمودية (مت 3: 17)، وقوله: " إِنْ كُنْتَ " يدل على ريب في الأمر يفتقر إلى برهان ينفيه، فكأنه قال: هل يمكن أن يكون ابن اللَّه عرضة للجوع. فجوعك ينزع حق تسميتك ابن اللَّه، فلك سلطان على الطبيعة، فلماذا لا تستعمل هذا السلطان لكي تخلُص من جوعك وتحفظ حياتك من الموت اللازم (الناتج) عن هذا الصوم الطويل. فمن كان هو ابن اللَّه يقدر على كل شيء فإن كنت ابن اللَّه فهيّن عليك أن تبرهّن ذلك وتنجو من الضيق" (446).
3ــ قال يوحنا المعمدان لليهود: " إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْرَاهِيمَ" (لو 3: 8)، فمادام اللَّه قادر على إقامة أولادًا من الحجارة، فمن الأيسر أن يحول الحجارة إلى خبز، مجرد خبز، ليس مأكولات شهية مما لذ وطاب، ولكن مجرد خبز والسيد المسيح في أشد الإحتياج إليه ليسد رمق جوعه، ولاسيما أن الحجارة متوفرة في البرية، وكأن الشيطان يقول ليسوع أن أباك الذي شهد لك في المعمودية قد تخلى عنك، فهل تسأله أن يعطيك خبزًا، بل حوّل أنت بقدرتك الحجارة خبزًا لأعرف من أنت؟! ويقول "متى هنري": " يبدو الأمر لأول وهلة أنه برئ ولا شيء فيه من الضرر، ولكن الواقع هو أنه كلما بدت التجربة محبوبة، وكلما بدأ ظاهرها جميلًا كانت أشد خطرًا. كان ممكنًا أن يطول الحوار حول هذا الأمر ويكثر الأخذ والرد، ولكن يسوع للحال أدرك الحية مختبئة ولم يشأ أن يأتي أمرًا (أولًا) يُشتَم منه رائحة الشك في الصوت الذي سمعه من السماء أو محاولة التثبُّت مما سبق أن تقرَّر وتركَّز.
(ثانيًا) يُشتَم منه رائحة عدم الثقة في عناية أبيه به أو إملاء إرادته عليه بتحديد طريقة واحدة معينة لتهيئة الخبز له.
(ثالثًا) يُشتَم منه رائحة إعداد الطعام لنفسه بنفسه وإستخدام مواهبه لسد حاجته.
(رابعًا) يُشتَم منه رائحة إطاعة الشيطان بإتمام عمل بمجرد إشارته" (447).
4ــ أجاب السيد المسيح إبليس قائلًا: " لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ الله" (مت 4: 4)، فبالرغم من أن السيد المسيح هو اللَّه الكلمة، وكان من السهل أن يرد على إبليس ويفحمه بكلامه وحججه، إلاَّ أنه لم يفعل هذا، بل استخدم ما هو مكتوب (تث 8: 3) ليعلمنا الدرس أن المكتوب فيه كل الكفاية لتحقيق النصرة على عدو الخير، ويقول "بنيامين بنكرتن": " لنلاحظ أهمية وكفاية كلمة اللَّه وقوتها. لأن ربنا يسوع المسيح، مع أنه هو اللَّه ظاهرًا في الجسد، وكان في استطاعته أن يجيب بأجوبة جديدة وسديدة من عنده في مصارعته مع إبليس كالمجرَّب، لم يمتنع عن استعمال كلمة اللَّه المكتوبة للإنسان وكانت شهادة واحدة منها كافية لإخراس العدو وردعه" (448).
أما قول كمال الصليبي بأن قصة التجربة فبركة، فقول مردود عليه، لأن القديس متى الذي تتلمذ على يد الرب يسوع، وكان أمينًا في حياته حتى الدم لا يمكن أن يكذب، ولم يكتب إلاَّ ما حدث بالضبط، سواء إذا كان رؤيا العين أو السماع من السيد المسيح له المجد، فهو لم يخترع شيئًا ولم يؤلّف شيئًا، ولم يكتب رواية من اختراعه، بل كتب إنجيلًا موُحى به من روح اللَّه القدوس الذي كان شريكًا للكاتب وقد عصمه تمامًا من أي خطأ وارد، فثقتنا في عصمة كتابنا المقدَّس ثقة كاملة.
_____
(441) البحث عن يسوع ص53.
(442) تفسير الكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 1 ص40.
(443) من القراءة إلى التأمل مع القديس متى ص34.
(444) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا ص128.
(445) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ 1 ط 1983م ص87.
(446) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل - تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص39.
(447) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ1 ص88.
(448) تفسير إنجيل متى ص 58.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/233.html
تقصير الرابط:
tak.la/xa2wfrw