س22 : هل كان السيد المسيح من جماعة الغيورين؟ وهل تحدّث عنهم بطريقة غير مباشرة، أو على الأقل كان مؤيدًا لمبادئهم، بدليل أنه اختار اثنين منهم ليكونا من تلاميذه وهما سمعان الغيور ويهوذا الإسخريوطي، وأيضًا نادى بمبادئهم (لو 22 : 36) فالسيف أو الخنجر أو الـ"SICAIRE" كان الفعل القوي والعملي في نشاط الغيورين؟
ج:1- لم يتكلم السيد المسيح عن جماعة الغيورين كما أنه لم يتكلّم عن جماعة الأسينيين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لأن هذه وتلك كانتا تعيشان في الخفاء، كما أن جماعة الغيورين كانت مُطاردة بشدة من قِبَل السلطات الرومانية التي طالما باغتتهم وأعملت فيهم السيف والصلب، فاكتفى السيد المسيح بالحديث عن الطوائف المعترف بها من قِبَل الرومان واليهود وهم الكتبة والفريسيين والصدوقيين، بينما قال البعض أن السيد المسيح تكلّم عن الغيورين بطريقة التورية، فمثلًا عندما قال عن يوحنا المعمدان: "مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا. أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ"(مت 11 : 7 - 9) فقالوا القصب (الغاب) لا ينمو في البرية، فكلمة "قصبة" هنا بنفس النطق تحمل معنيين، مثلها مثل كلمة "جُبن" فقد يكون نوع من الطعام مثل قولنا: "أكلت الخبز بالجُبن" وقد يُقصَد بها في نفس العبارة أنني أكلت خبزي بالجُبن أي بالذل والعار والخوف والرعدة. وهكذا كلمة "قصبة" تحمل معنى فرع من الغاب الذي ينمو في المياه الضحلة، وهو المعنى القريب، ولها أيضًا معنى بعيد وهو "غيور"، فاللفظ واحد والمعنى مختلف.
ويقول "الدكتور القس جرجس حنا الخضري": "وكأني بالسيد المسيح يقول للجماهير التي خرجت لتسمع يوحنا المعمدان ماذا خرجتم لتنظروا في البرية؟ أخرجتم لتنظروا "كانا" (Qane بالعبرية "قصبة") شخصًا غيورًا قد اتخذ من الصحراء سكنًا له ومجالًا لعملياته الإجرامية من قتل وذبـح واغتيال؟ كلاَّ، فإن هذا النبي يوحنا الذي كان يسكن في الصحراء يختلف اختلافًا كليًا وجزئيًا عن الغيورين (Qanes).. والمسيح يواصل كلامه ذاكرًا طرفي النزاع، أي السلطة الحاكمة من ناحية والغيورين الذين كانوا يقاومون هذه السلطة من ناحية أخرى، فيقول: "لكن ماذا خرجتم لتنظروا إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة. هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك... "(71).
كما اعتمد البعض على قول السيد المسيح لنثنائيل: "هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ لاَ غِشَّ فِيهِ... قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُي وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ رَأَيْتُكَ" (يو1 : 47 - 48)، فقالوا أن كلمة "تين" بنفس اللفظ تحمل معنيين، المعنى القريب شجرة التيـن، والمعنــى البعيـد "سوكو" Suko بالأرامية أي " سكين " أو " خنجر " وهو إشارة لحاملي الخناجر، ثم لعن السيد المسيح التينة غير المثمرة (مت 21 : 18 - 20)، ويقدم "الدكتور القس جرجس حنا الخضري" رأي كولمان Cullmann O.، قائلًا: "فيقول (كولمن): "إن الأناجيل تحتوي على نوعين من الشهادة بخصوص هذه المشكلة، فإذا حاولنا جمع كل الشواهـد الكتابيــة التي تتكلَّم عن موقف يسوع الإيجابي من الغيورين لرأينا فيه غيــورًا، ولكـن لو حاولنا جمع الشواهد التي تتكلّم عن موقف يسوع السلبي إزاء الغيوريــن لوجدنا أنه لا يتفق وتعاليمهم. وأن علم التفسير وأبسط قواعده لا تسمح لنا بأي حال من الأحوال الاستناد على بعض الآيات التي تؤيد وجهة نظر معينة دون الأخذ في الاعتبار للآيات الأخــرى التـي تؤيد وجهـة النظــر المعارضة. وليس من حقنا فصل هذه الآيات عـن قرينتها" (Oscar Culimann Jesus Eg Les Revalutiomaires P. 10 – 20) (72) (راجع أيضًا تاريخ الفكر المسيحي جـ 1 ص 247 - 262).
2ـــ الذين قالوا أن يهوذا الإسخريوطي من جماعة الغيورين لأن كلمة الإسخريوطي لا ترجع إلى بلدة "إسخريوط" إنما ترجع إلى كلمة "سيكـر" أو "سيكري" التي تعني في اليونانية "سكين" أو "خنجر" أو "حامل السكين أو الخنجر" نسبةً لجماعة حاملي الخناجر أو السكاكين وهم الغيورين. وقول أصحاب هذا الرأي بأن يهوذا كان يظن أن يسوع هو المسيا المنتظر السياسي الذي سيقود الغيورين لتحرير البلاد، وعندما ظن أن يسوع يتعاون مع الرومان لأنه لم يمنع دفع الجزية لذلك دخل الشيطان قلبه وسلَّم سيده لأعدائه، وسواء كان هذا التفسير صائبًا أو خاطئًا، وعلى افتراض أن يهوذا الأسخريوطي كان من الغيورين مثله مثل سمعان الغيور، فإن هذا لا يعني أن السيد المسيح من الغيورين أو يؤيد مبادئهم لأن السيد المسيح حضَّ على محبة الأعداء (راجع التطويبات مت 5 : 38 - 44)، أما الغيورون فقد تفنَّنوا في قَتْل الرومان واغتيالهم، وليس الرومـان فقط، بل والمؤيدين لدفع الجزية من اليهود، وليس هؤلاء فقط، بل والذين يدفعون الجزية كانت حياتهم أيضًا مهددة من قِبَل الغيورين.
3 - إن كان السيد المسيح اختار تلميذًا أو أثنين من الغيورين، فقد اختار لاوي من العشارين، وهذا بالطبع لا يعني أن السيد المسيح كان من جماعة الغيورين أو جماعة العشارين، وأيضًا ليس معنى هذا أنه كان يؤيد الغيورين أو العشارين في مبادئهم.
4ـــ لا يصح أن نستقطع آية من سياقها ونفسرها كما يحلو لنا، بل يجب أن نفسر الآية محل الحوار في سياقها:
أ - الآية التالية لها مباشرة توضح معناها، فبعد أن قال السيد المسيح: "لكِنِ الآنَ مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفًا" (لو 22 : 36)، قال في الآية التالية لها: "لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هذَا الْمَكْتُوبُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ" (لو 22 : 37)، فكيف يدعو السيد المسيح تلاميذه أن يحملوا سيوفًا ويدافعوا عنه، بينما هو جاء ليقدم نفسه فدية وذبيحة، وهذا ما أكده في الآية التالية وهو: ينبغي أن يتم المكتوب... وما هو المكتوب؟.. أُحصي مع أثمة، أنه لا بد أن يُصلَب، كما قال: "كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَــلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِيـنَ" (مت 20 : 28)، وكثيرة عن نبؤات السيد المسيح عن آلامه وصلبه وقيامته.
ب - بعد أن نطق بهذه العبارات اتجه إلى جثسيماني، وساعة القبض عليه، تجاسر بطرس وضرب عبد رئيس الكهنة... فماذا كان رد فعل السيد المسيح؟.. لم يشجعه على هذا، بل أمره قائلًا: "رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ" (مت 26 : 52).
ج - قول السيد المسيح السابق الخاص بشراء السيف يشبـه قــول بولس الرسول: "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ" (أف 6 : 12).
ويقول "الدكتور القس حنا جرجس الخضري": "من هذه الآيات السابقة الذكر، ظن البعض أن موقف المسيح كان موقفًا إيجابيًا بالنسبة للغيورين، بل كان هو نفسه غيورًا. وهذا بلا شك هو الخطر الداهم في علم التفسير، عندما يتخذ الإنسان بعض الآيات منفردة ومنعزلة ويسلخها من قرينتها لكي يدعم بها نظريته وفكره، لأنه ما أكثر الآيات التي يمكن أن نحمّلها ما لا تحتمله وأن نقوّلها ما لا تقوله، عندما نفصلها عن قرينتها، وعندما لا ندرس الظروف والأماكن التي قيلت لأجلها وفيها... فعندما قال الرب هذه الآية كان لا يفصل بينه وبين الموت إلاَّ خطوة واحدة قصيرة، يوم واحد... فالمسيح لا يحض تلاميذه هنا على حمل السيف والحرب لتخليصه من أعدائه، وإنقاذه من الموت إذ أنه يقول في الآية التالية للآية التي تتكلم عن السيـف: " لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هذَا الْمَكْتُوبُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُــوَ مِنْ جِهَتِــي لَهُ انْقِضَاءٌ" (لو 22 : 37).
فالأمانة في التفسير ليست هيَ البحث عن الآيات والنصوص التي نظن أنها تؤيد رأينا وعقيدتنا أو بالمعنى الأصح والأدق، التي نريدها أن تؤيد رأينا وعقيدتنا، بل الأمانة في التفسير تتطلب أن نأتي إلى النص الكتابي لكي نتعلم منه ما يريد أن يعلمه لنا...
ومما لا شك فيه أن تعاليم يسوع وحياته لا تسمح لنا بأي حال من الأحوال بأن نقول بأنه كان غيورًا أو مُشجعًا لحركة الغيورين المتطرفة... وكيف يمكن للمسيـح أن يكون غيورًا، يشترك أو على الأقل يشجع عملياتهم الهجومية لسفك الدماء وتيتيم الأطفال وترمل النساء وإثكالهن، وهو الذي يقول عن نفسه: "وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ" (يو 10 : 10)"(73).
_____
(71) تاريخ الفكر المسيحي جـ 1 ص 249.
(72) المرجع السابق ص 254.
(73) تاريخ الفكر المسيحي جـ 1 ص 255 - 258.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/22.html
تقصير الرابط:
tak.la/rkr69tk