س218: كيف يقول متى الإنجيلي أن إشعياء النبي تنبأ عن يوحنا المعمدان (مت 3: 3)، بينما يشير مرقس الإنجيلي (ترجمة فاندايك العربية والملك جيمس الإنجليزية) إلى نبوءة ملاخي (مر 1: 2)؟ وكيف تُغيّر ترجمة كتاب الحياة عبارة: " كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ" (ترجمة فاندايك) إلى: " كما كُتِب في كتاب إشعياء" (مر 1: 2)؟ وهل يُعقل أن يوحنا المعمدان كان يأكل حشرات الجراد (مت 3: 4)؟ وهل كان يأكل جرادًا وعسلًا بريًا ويشرب (مت 3: 4)، أم أنه لم يأكل ولم يشرب (مت 11: 18)؟
ج: 1ــ في ترجمة فاندايك العربية جاء النص في إنجيل متى: " فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّـةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً" (مت 3: 3)، وجاء النص في إنجيل مرقس: " كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً" (مر 1: 2، 3)، فقد ذكر القديس متى نبؤة واحدة عن يوحنا المعمدان، وهيَ نبؤة إشعياء النبي: " صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلًا لإِلَهِنَا" (إش 40: 3)، بينما ذكر القديس مرقس نبؤتين، ولذلك قال " كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ" واقتبس النبؤة الأولى من سفر ملاخي: " هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي" (ملا 3: 1) واقتبس النبؤة الثانية من سفر إشعياء (إش 40: 3).. فما العيب في هذا؟!.. ذكر القديس متى نبؤة إشعياء وذكر القديس مرقس نبؤتي ملاخي وإشعياء، والقديس متى عندما ذكر نبؤة إشعياء، لم يقل أن هذه هيَ النبؤة الوحيدة عن يوحنا المعمدان، والقديس مرقس عندما ذكر نبؤة ملاخي، لم يقل أن هذه النبؤة الوحيدة عن يوحنا المعمدان، بل هو نفسه اقتبس نبؤة إشعياء علاوة على نبؤة ملاخي... فعلآم يحتج الناقد؟!!.. هل المطلوب أن يكون إنجيل متى نسخة طبق الأصل من إنجيل مرقس في كلياته وتفصيلاته؟!!.. وإذا كان هذا هو المطلوب، فما هيَ الحاجة لإنجيل متى؟!.
2ــ في ترجمة كتاب الحياة في نص إنجيل مرقس: " كما كُتِب في كتاب إشعياء" (مر 3: 2) بينما جاءت في ترجمة فاندايك: " كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاء".. ويتساءل الناقد كيف غيَّرت ترجمة كتاب الحياة هذه العبارة فعوضًا عن "الأنبياء" جاء "كتاب إشعياء" ونحن نعلم أن ترجمة كتاب الحياة جاءت متأخرة كثيرًا عن ترجمة فاندايك، فخلال هذه الفترة تم إكتشاف مخطوطات أقدم ذُكِر فيها اسم إشعياء بدلًا من الأنبياء، والخلاف لا يذكر لأن إشعياء من الأنبياء الكبار، وتغيير الكلمة لا يترتب عليه أن تغيير في أقل عقيدة، والدارس دائمًا يضع أمامه الترجمات المختلفة لكيما يدرك المعاني بصورة أقوى، وتكمن مشكلة الناقد في أنه يطبق ما يؤمن به وهو الوحي اللفظي على الكتاب المقدَّس، فهو يؤمن بأن الوحي الإلهي يأتي لفظًا ومعنى، نصًا وفصًا، بينما في المسيحية لا نعترف بالنظرية الميكانيكية الإملائية، لأنها تُلغي شخصية الكاتب تمامًا، وتحوّله إلى مجرد آلة يكتب ما يُملأ عليه بالكلمة والحرف.
وجاء في "التفسير التطبيقي": " نرى هنا اقتباسًا مزدوجًا مأخوذًا من (ملا 3: 1) ثم من (إش 40: 3)، ولكن لم يُذكَر إلاَّ اسم إشعياء لأنه كان من عادة كتبة الأسفار الإلهيَّة أن يذكروا الأنبياء البارزين، وتذكر أقدم المخطوطات "إشعياء"، أما المخطوطات الأحدث فتذكر "الأنبياء".." (379).
وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي": " كتاب إشعياء: الاقتباس الذي يلي ذلك مباشرة مأخوذ من (ملا 3: 1).. ولكن ما يليه (الآية 3) مأخوذ من (إش 40: 3).. يحظى إشعياء بامتياز المقدمة هنا لأنه يتصدر قائمة الكتب النبوية" (380).
3ــ لم يكن الجراد من الأطعمة المحرَّمة شرعًا لدى اليهود، بل كان مسموحًا بأكله، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. "هذَا مِنْهُ تَأْكُلُونَ الْجَرَادُ عَلَى أَجْنَاسِه" (لا 11: 22)، والجراد حشرة طائرة نظيفة، وكان يُعتبر طعامًا خفيفًا بسيطًا للفقراء، مع أنه لا يُشْبِع الإنسان لضآلة لحمه، وكان يُشوى على النار ويُعتبر طعامًا مستساغًا، وأحيانًا كان يجفف في الشمس ويضاف له العسل أو الخل، كما كان يُسحَق ويُخلط بالدقيق لعمل كعكة منه، ونحن الآن نأكل الجمبري وهو حشرة بحرية، وبعض سكان أوروبا يأكلون الضفادع المشوية، إذًا ليس هناك ما يدعو للاشمئزاز من أكل الجراد. وقد تربى يوحنا المعمدان في البرية: " وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ" (لو 1: 80) واعتاد على طعام البرية من الجراد المتوفر في المنطقة، وكذلك العسل الذي يصنعه النحل في البرية: " وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا" (مت 3: 4)، وليس معنى هذا أن يوحنا لم يكن يأكل طعامًا آخر غير العسل والجراد، إنما كان هذا هو طعامه في الغالب، ولا سيما في فترات اعتزاله في البراري، وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي": " الجراد والعسل البري: لا أحد يعيش في الصحراء يتردد في أكل الحشرات والجراد اللذين كانا من الأطعمة النظيفة (لا 11: 21 - 22). كانت بساطة طعام يوحنا وملبسه وأسلوب معيشته احتجاجًا ظاهرًا على تذليل الذات" (381).
ويقول "الأب متى المسكين" عن يوحنا المعمدان: " إنه قادم ليس من بيت أبيه أو عشيرته بل من برية اتخذها له وطنًا ومقامًا من صباه (لو 1: 80)، فهو ابن الطبيعة والجبال، وكأنه إنحدر من عصور سحيقة ليظهر كضيف على عالم إسرائيل الموجوع. جاء ليكرز في برية اليهودية... وهيَ برية شاسعة غير مأهولة، جيرية التربة مُغطاة بالحصى وقطع الحجارة وصخور. ويتناثر فيها هنا وهناك مجموعات من نباتات برية وشجيرات قصيرة تحوي تحتها الثعابين" (382).
4ــ عندما جاء يوحنا المعمدان رجلًا ناسكًا متقشفًا قلما يراه البعض وهو يأكل ويشرب، ادعوا أن به شيطان، ورفضوا دعوته، ولا سيما رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، ولذلك عندما سألوا السيد المسيح: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟ سألهم هو بدوره: " مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا مِنْ أَيْنَ كَانَتْ. مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ النَّاسِ. فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ لَنَا فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِه" (مت 21: 25). ثم جاء السيد المسيح يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة وأوصى تلاميذه في رحلتهم الكرازية: ".. فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ" (لو 10: 8) ومع ذلك فإن الذين رفضوا يوحنا المعمدان رفضوا السيد المسيح أيضًا، فشبههم بأولاد يلهون في السوق يقولون بعضهم لبعض: " زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا. لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ فَيَقُولُونَ فِيهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَقُولُونَ هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ... وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا" (مت 11: 17 - 19)، فمن شدة نسك يوحنا قال عنه السيد المسيح لا يأكل ولا يشرب، فقد منع نفسه من أكل المشتهيات وشُرب الخمور، واكتفى بالقليل من الجراد وعسل البرية.
ويقول "القمص تادرس يعقوب": " لقد رفضه الكتبة والفريسيون والصدوقيون... ومن تتلمذوا على أيديهم... أرسل اللَّه لهم من ينوح كيوحنا المعمدان الثائر على الخطية فلم يلطموا كخطاة بالتوبة بل ثاروا ضده. وهوذا يأتيهم السيد نفسه يرمز لهم بمزمار الحب المترفق فلا يرقصون رقصات الروح المتهلل. جاءهم النبي زاهدًا حتى في ضروريات الحياة من أكل وشرب وملبس لكي يسحبهم من الحياة المترفة المدللة فاتهموه أنه به شيطان، وجاءهم ابن اللَّه المتجسد حالًا في وسطهم يشاركهم حياتهم البشرية لكي يجتذبهم إليه بالحب كصديق لهم فإذا بهم يزدرون بسلوكه كمحب للخطاة والعشارين.
حينما تفسد بصيرة الإنسان الداخلية يستطيع أن يجد لنفسه كل المبررات لرفض العمل الإلهي، فلا يحتمل حسب اللَّه وحنانه ولا يتقبل تأديباته، لا تجتذبه الكلمات الإلهيَّة الرقيقة كما لا تردعه التهديدات" (383).
_____
(379) التفسير التطبيقي ص1978.
(380) الكتاب المقدَّس الدراسي ص2243.
(381) الكتاب المقدَّس الدراسي ص2254.
(382) الإنجيل بحسب القديس متى ص171.
(383) تفسير إنجيل متى ص257.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/218.html
تقصير الرابط:
tak.la/pdztbz2