س219: ما الذي جذب أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن ليوحنا المعمدان (مت 3: 5)؟ ومن أين جاء يوحنا المعمدان بطقس المعمودية؟ ولماذا استخدم الماء؟ وهل كان يعمد الجميع رجال وسيدات وأطفال؟ وهل معموديته كانت تغفر الخطايا؟
ج: 1ــ لماذا خرجت أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن ليوحنا المعمدان؟.. بعد أن انقطع الوحي الإلهي وصمتت السماء أكثر من ثلثمائة سنة، عادت السماء تتكلم في شخص يوحنا المعمدان، الرجل الشجاع الناري الذي جاء بروح إيليا، فخرج من البراري وكأنه قادم من العصور السحيقة، عجيب في ملبسه وبساطة طعامه، ألهب قلوب البشر، فاجتذب الكثيرين نحوه. أنه الملاك المُرسَل أمام وجه السيد الرب، جاء ليعد الطريق أمامه، فرأى فيه الشعب تحقق نبؤة إشعياء النبي: " كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ وَتَصِيرُ الْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً وَالشِّعَابُ طُرُقًا سَهْلَةً. وَيُبْصِرُ كُلُّ بَشَرٍ خَلاَصَ اللَّه" (لو 3: 5، 6) وتحقق قول رئيس الملائكة جبرائيل لأبيه زكريا: " وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ. وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا" (لو 1: 16، 17).
وجاء في كتاب "التفسير التطبيقي": " لماذا جذب يوحنا الكثيرين إليه؟. لقد كان أول نبي حقيقي على مدى أربعمائة عام. ولقد شن هجومًا عنيفًا على الملك هيرودس والقادة الدينيين، وكان هذا جسارة منه فتنت عامة الشعب. كانت كلمات يوحنا للشعب قوية، إذ كانوا هم أيضًا خطاة في حاجة إلى التوبة. لقد كانت رسالته قوية وصادقة، وكان الشعب في انتظار نبي مثل إيليا (ملا 4: 5) وبدا أن يوحنا هو هذا النبي" (384).
2ــ عندما كان يريد الأممي التهوُّد كان لا بد أن يُختتن، ولأن بعض الشعوب مثل المصريين والإسماعيليين كانوا يمارسون الختان، لذلك من يريد أن يتهوُّد وهو مُختَّتن كان يجوز في معمودية الماء، إذ يُغطَّس بالكامل في الماء مرة واحدة كدليل وعلامة على قبوله الديانة اليهودية، والجديد الذي فعله يوحنا أنه لم يتمّم هذا الطقس للأمميين المتهوّدين، إنما مارسه مع اليهود المختونين، عقب الاعتراف بخطاياهم، كعلامة على توبتهم. وقد مارس يوحنا هذا الطقس ليس من ذاته بل بأمر إلهي، ولذلك قال: " لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ" (يو 1: 33)، ومن أجل تعميده للسيد المسيح كنائب عن البشرية دُعي بيوحنا المعمدان. وقَبِل اليهود منه هذه المعمودية وتوافدوا عليه، مجتهدين في تغيير نمط حياتهم وسلوكهم وتجديد أذهانهم إستعدادًا لإستقبال المسيا، ويوحنا المعمدان لم يكف عن توجيه أنظارهم للمسيا: " أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ. وَلكِنْ فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ... الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِه" (يو 1: 26، 27)، وجاء في "الموسوعة الكنسيَّة": " وقد كانت المعمودية معروفة عند اليهود إذ كانوا يعمدون اليهود الدخلاء عندما ينضمون إليهم. لذا كان العماد مألوفًا لديهم، ولكن الإضافة هنا هيَ التوبة والاعتراف" (385). ويبدو أن اليهود كانوا يتوقعون ظهور المسيح أو إيليا أو النبي، حتى أن يهود أورشليم أرسلوا كهنة ولاويين ليسألوا يوحنا عما إذا كان هو المسيح أو إيليا أو النبي وعندما أجاب بالسلب سأله الفريسيون: " فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا، وَلاَ النَّبِيَّ" (يو 1: 25) وكان اليهود يقبلون المعمودية كنوع من إظهار التبعية لمن يعمدهم، فلم يكن يوحنا المعمدان وحده الذي يعمد، بل أن السيد المسيح عمد أيضًا من خلال تلاميذه: " أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تَلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا. مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تَلاَمِيذُهُ" (يو 4: 1، 2) وكأن الذين تعمدوا صاروا تلاميذًا لمن عمدهم، وبالطبع لم يغضب يوحنا من هذا بل قال: " يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ" (يو 3: 30).
ويقول "مارديوناسيوس يعقوب ابن الصليبي": " فقد اعتمدوا منه لأنه كاهن وابن كاهن وقد أعطاه اللَّه عوض الذبائح المعمودية... وبعد أن كانوا يعترفون بخطاياهم التي ارتكبوها كان يعمدهم للتوبة، ومن الغريب أنهم لم يخافوا أن يظهروا خطاياهم مع أن الناموس كان يأمر بأن من يعترف بخطاياه يموت بلا رحمة" (386).
3ــ استخدم يوحنا المعمدان الماء في المعمودية، لأنه لا حياة بلا ماء، وفي بداية الخلقة كان: " رُوحُ اللَّه يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاه" (تك 1: 2)، وفي بركة بيت حسدا كان ملاكًا ينزل ويحرك الماء فيهبه قوة الشفاء (يو 5: 2 - 4). والماء هو المادة المتوفرة بوفرة في نهر الأردن، وإعتاد اليهود على استخدام المياه بكثرة في الإغتسالات الطقسية والتطهير، حتى أن اليهودي عندما كان يعود من السوق كان يغسل يديه لئلا يكون قد صافح أمميًا فتنجس بنجاسته، وكان اليهود يصرون على غسل الأيدي قبل الأكل، حتى أن التلاميذ عندما أكلوا دون أن يغسلوا أيديهم، عاتب الكتبة والفريسيون السيد المسيح قائلين: " لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُـونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزًا" (مت 15: 2). وكما أن الماء شفاف هكذا تهب المعمودية حياة النقاوة والشفافية.
وجاء في "التفسير التطبيقي": " عندما تغسل يديك القذرتين تظهر النتائج فورًا، لكن التوبة تحدث في الداخل، ولا يظهر التطهير في الحال، لذلك استخدم يوحنا عملًا رمزيًا يستطيع الناس أن يروه، وهو المعمودية. وكان اليهود قد استخدموا المعمودية علامة لقبول معرفة هذا الطقس، الذي استخدمه يوحنا علامة على التوبة ومغفرة الخطايا" (387).
وكما كان الختان يجرى للرجال دون الإناث، فغالبًا كان يوحنا المعمدان يعمد الرجال فقط، وذكر الإنجيل أن الذين كانوا يسألونه من الرجال من العشارين والجنود (لو 3: 10 - 14)، ولم يذكر الإنجيل أنه عمد امرأة أو أن امرأة سألته في أمر ما.
4ــ كانت معمودية يوحنا للتوبة وليست لمغفرة الخطايا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لأن المعمودية تأخذ قوتها من موت وقيامة المسيح، وعندما كان يوحنا يعمد لم يكن المسيح قد صُلِب بعد، فمعمودية يوحنا للتوبة، وهذا ما أوضحه يوحنا المعمدان بقوله: " أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُـوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ" (مت 3: 11) (راجع أيضًا مر 1: 8، لو 3: 16، أع 1: 5). أما المعمودية في المسيحية فهيَ موت وقيامة مع المسيح، تُعطي مغفرة لجميع الخطايا، مع ولادة جديدة، معمودية يوحنا بالماء علامة على التوبة، أما معمودية العهد الجديد فهيَ بالماء والروح القدس.
معمودية يوحنا لتصحيح السلوك الجسدي، أما معمودية العهد الجديد فهيَ لتطهير الجسد والروح.
معمودية يوحنا لا تغفر الخطايا، أما معمودية العهد الجديد فهيَ تغفر الخطايا الأصلية والفعلية. والذين اعتمدوا بمعمودية يوحنا، احتاجوا أن يعتمدوا أيضًا بمعمودية العهد الجديد، فعندما زار بولس الرسول أفسس ووجد تلاميذ سألهم: هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟ قالوا له ولا سمعنا أنه يوجد روح قدس، فسألهم: فبماذا اعتمدتم؟ فقالوا بمعمودية يوحنا: " فَقَالَ بُولُسُ إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ قَائِلًا لِلشَّعْبِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ أَيْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَلَمَّا سَمِعُوا اعْتَمَدُوا بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ" (أع 19: 4، 5). فلو كانت معمودية يوحنا تهب مغفرة الخطايا ما كان هناك داعيًا لعماد هؤلاء الذي سبق أن تعمدوا بمعمودية يوحنا، ولكن لأن المعمودية في المسيحية تختلف كثيرًا عن معمودية يوحنا لذلك عمد بولس هؤلاء التلاميذ.
_____
(384) التفسير التطبيقي ص1872.
(385) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد جـ1 بشارتي متى ومرقس ص29.
(386) الدر الفريد في تفسير أسفار العهد الجديد ص122.
(387) التفسير التطبيقي ص1872.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/219.html
تقصير الرابط:
tak.la/mw62wvp