س217: لماذا استخدم متى الإنجيلي عبارة " مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ " كثيرًا (مت 3: 3) بينما استخدم الإنجيليون الآخرون عبارة " مَلَكُوتِ اللَّه "؟ وما هيَ علاقة التوبة بملكوت السموات؟ وهل " مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ " ملكوت أرضي؟ وهل تضاربت آراء المسيحيين فيه؟
يقول "علاء أبو بكر": " س93: ما معنى ملكوت اللَّه، وملكوت السموات الذي هو لُبُّ رسالة يسوع، والذي يختلف فيه علماء المسيحية حتى اليوم؟.. ويجدر بنا هنا الإشارة إلى قول النصارى في ملكوت السموات، فهم لم يتفقوا مطلقًا على معنى موحَّد لمقصد يسوع من ملكوت اللَّه، الذي هو لُبُّ رسالته، والتي لم يأتِ إلاَّ مبشرًا بها، فهي بشارته الحسنة (إنجيله) لبني إسرائيل... ومنهم من يرى أن الملكوت هو ملكوت أرضي وسوف يأسّسه يسوع بعد ألف سنة من نزوله الثاني... منهم من يرى أن الملكوت قد نزل به الروح القدس في اليوم الخمسين لرفع يسوع. ومنهم من يقول أن يسوع لم يرد أن يُظهِر ملكوته، بل تنبأ به فقط. ومنهم من يرى أن الملكوت هو ملكوت يسوع المسمَّر في الصليب. ومنهم من يرى أن يسوع جاء بالملكوت وأعلنه لتلاميذه. ومنهم من يرى أن الملكوت ملكوت روحاني. ومنهم من يراه الضمير...
وراح الناقد يدلل على اعتقاد المسيحيين بالملكوت الأرضي، فأورد بعض العبارات للقس فهيم عزيز من كتابه "ملكوت اللَّه" ص92، ثم قال: " ونفهم منه (القس فهيم عزيز) إن ملكوت اللَّه هو سلطان اللَّه على الشعب، وتحكيم كتاب اللَّه بين الشعب، لأن اللَّه هو الملك الحقيقي... أي هو ملكوت أرضي، وليس ملكوت روحي، وأن هذا الحكم وهذه الحكومة سيتولى إنشائها (المسيا) وهو سيكون نبيًا وليس إلهًا". كما أورد الناقد بعض العبارات للأب متى المسكين من كتابه "ملكوت اللَّه" ص5، 6 ثم قال: " ونفهم منه (الأب متى المسكين) إن ملكوت اللَّه هو ملكوت أرضي، وليس ملكوت روحي.." (375).
ج: 1ــ كتب القديس متى لليهود الذين كانوا يقدّسون اسم اللَّه "يهوه" حتى أنهم لم ينطقوا به، بل أن اليهودي الأسيني لو تجرأ ونطق بهذا الاسم المبارك يُحكم عليه بالموت، ولذلك عندما كان يأتي اسم "يهوه" في القراءات المقدَّسة في الهيكل والمجامع اليهودية، كانوا لا ينطقونه، بل يستبدلونه بِاسم "أدوناي" أي السيد، ولحساسية اليهود المفرطة في استخدام اسم اللَّه، لذلك أكثر القديس متى من استخدام عبارة " مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ" عوضًا عن " مَلَكُوتِ الله" التي استخدمتها بقية الأناجيل، وذكر القديس متى " مَلَكُوتُ السَّماوَات" نحو ثلاثين مرة، واستخدم " مَلَكُوتِ اللَّه" مرات محدودة جدًا، وقد تنبأ دانيال النبي قديمًا عن هذا الملكوت الأبدي عندما قال: " يُقِيمُ إِلهُ السَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا وَمَلِكُهَا لاَ يُتْرَكُ لِشَعْبٍ آخَرَ، وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَد" (دا 2: 44).
ويقول "باسل أتكنسون" Basil F. C. Atkinson: " مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ": هذا التعبير خاص بمتى الذي يستعمله حيث يستعمل بقية البشيرين القول: " مَلَكُوتِ اللَّه "، والتعبير يُنسب إلى الوضع والنظرة اليهوديين لمتى إذ أنه كان يُعتبَر بين اليهود، تجديفًا أن يُشار إلى اللَّه بالاسم، ولذا استبدلوه باصطلاح مثل "السموات". ملكوت اللَّه معناه سيادة أو حكم اللَّه الذي انتظرت التوقعات اليهودية المسيانية أن تراه سائدًا في إسرائيل" (376). فتوقع اليهود أن يأتي المسيا ليملك مُلكًا أرضيًا، أما السيد المسيح فأوضح أن ملكوته ليس أرضيًا، إنما هو ملكوت في القلوب وعلى القلوب قائلًا: " هَا مَلَكُوتُ اللَّه دَاخِلَكُمْ" (لو 17: 21).
2ــ هناك ارتباط وثيق بين التوبة وملكوت السموات، فملكوت السموات لن يدخله إلاَّ التائبين، وبهذا ارتبطت كرازة السيد المسيح بالتوبة، وكذلك يوحنا المعمدان السابق الصابغ نادى بالتوبة، وكلٍ من السيد المسيح أو يوحنا استخدم نفس العبارة التي ربطت بين التوبة والملكوت: " تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَات" (مت 3: 2، 4: 17). وإن كان اليهود قد اختصهم اللَّه باختيارهم شعبًا له، فهم في حاجة دائمة للتوبة ليكونوا شعبًا مقدَّسًا ويستحقوا البركات التي اختصهم اللَّه بها، ويقول "بنيامين بنكرتن": " إن كان للَّه شعب كاليهود، لهم امتيازات منه دون غيرهم، وحالتهم الروحية لا تطابق امتيازاتهم، فالتوبة هيَ أول واجباتهم، لأنه لو باركهم لمجرد كونهم شعبه بغض النظر عن حالتهم الروحية، لكان بذلك مصادقًا على شرورهم، وحاشا له!..
كان اليهود يضجرون من نير الظلم، ومع ذلك افتخروا بنسبتهم الجسدية لإبراهيم ظانين أن الَّله مضطر أن يباركهم بحسب مواعيده وهم رافضون أقواله الأخرى" (377).
3ــ ملكوت اللَّه ليس ملكوتًا أرضيًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقد حسم السيد المسيح هذه القضية فقال: " أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللَّهِ ِللَّهِ" (مت 22: 21)، وعندما طلب واحد منه قائلًا: " قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ. فَقَالَ لَهُ يَاإِنْسَانُ مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِيًا أَوْ مُقَسِّمًا" (لو 12: 13، 14)، فلو كان ملكًا أرضيًا لحكم بينهما، ولهذا عندما عُرِض عليه المُلك رفض ذلك: " وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكًا انْصَرَفَ أَيْضًا إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ" (يو 6: 15)، وقال للجموع: " أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَدًا" (يو 8: 15)، فلو كان ملكوته ملكوت أرضي لكانت الدينونة والحكم الآن من صميم عمله، فبالرغم من أنه هو الذي سيدين المسكونة كلها بالعدل في اليوم الأخير (مت 16: 17، 25: 31 - 46، 2كو 5: 10، 2 تي 4: 1) فإنه رفض أن يدين أحدًا وهو على الأرض، بل سيظل السيد المسيح يحامي عن الإنسان التائب ويشفع فيه شفاعة كفارية، ولكن في اليوم الأخير سيدين الجميع كقاضٍ عادل عالم بكل شيء.
وأيضًا عندما وقف السيد المسيح يُحاكم أمام بيلاطس اعترف أنه ملك: " فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ أَفَأَنْتَ إِذًا مَلِكٌ. أَجَابَ يَسُوعُ أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ" (يو 18: 37) ثم أوضح أن مملكته ليست أرضية: " أَجَابَ يَسُوعُ مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِـنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا" (يو 18: 36).
وقد بدأ ملكوت السموات بالتجسد الإلهي، وامتد بموته على الصليب وقيامته وحلول الروح القدس على الكنيسة، فملكوت السموات مصدره السماء ومهبطه الأرض، يستمد سلطانه وقوانينه وأحكامه من السماء، وينتشر على الأرض، فيسكن القلوب النقية البيضاء، فهو بالحقيقة ملكوت على القلوب، يكمُل بعد المجيء الثاني وسكنى السماء إلى الأبد: " لأَنَّهُ هكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنـَا وَمُخَلِّصِنـَا يَسُـوعَ الْمَسِيحِ الأَبَدِيِّ" (2 بط 1: 11).
4ــ يقول "الدكتور القس منيس عبد النور": "يجب لفهم معنى ملكوت السموات أو ملكوت اللَّه أن نراجع المواضع التي وردت فيها هذه العبارة، ففي (مت 12: 28) قال المسيح: " وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللَّه أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللَّه"، وفي (مر 9: 1) قال لتلاميذه: " الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّه قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ ". وفي مواضع أخرى يصرّح أن هذا الملكوت يبدأ به في حياته، ثم يمتد بعد موته، ويكمُل بعد مجيئه ثانية ليدين المسكونة بالعدل ويحكم بالحق والإنصاف (دا 7: 13، 14، رؤ 11: 15). وأما في الوقت الحاضر فملكوت اللَّه آخذ في الامتداد يوميًا بواسطة الكرازة بالإنجيل ودعوة الناس للدخول فيه (مت 28: 8 - 20). وليس ملكوت السموات نظير ممالك العالم (يو 18: 36) وهو لا يأتي بأبهة عالمية (لو 17: 20) وأعضاؤه هم "المساكين بالروح" (مت 5: 3) لا المتكبرين ولا عظماء هذا الدهر. ولا يقدر أحد أن يدخل هذا الملكوت ما لم يولد من جديد ولادة روحية (يو 3: 3، 5) ومن المستحيل أن يدخل إليه الأشرار (1 كو 6: 9، 10، غل 5: 20، 21، أف 5: 5)" (378).
5ــ يعتبر "المُلك الألفي" هو مُلك السيد المسيح على الأرض في أورشليم لمدة ألف سنة بعد مجيئه الثاني، من بقايا أفكار التهود، فطالما حلم اليهود بالمسيا الذي يحررهم ويجعلهم أمة عظيمة تسوس العالم كله، فهذه البدعة قديمة ظهرت منذ القرن الثاني ورفضتها الكنيسة، وإن كانت بعض الطوائف البروتستانتية تعتقد بها، إلاَّ أن كنيستنا لا تعترف بالمُلك الألفي على الأرض، إنما تعتقد أن المُلك الألفي بدأ منذ أن مَلَكَ السيد المسيح على الصليب وحتى المجيء الثاني، ويعقب المجيء الثاني على الفور الدينونة العامة، ودخول المؤمنين الصالحين إلى الملكوت وذهاب الأشرار للعذاب الأبدي، وأيضًا الكنيسة الكاثوليكية لا تعترف بالمُلك الأرضي، والمجال لا يتسع هنا للحديث عن المُلك الألفي، فيمكنك الرجوع إلى كتابنا: يا أخوتنا البروتستانت... هلموا نتحاور جـ2. وملاحظة على الجانب أن أصحاب المُلك الألفي يعتقدون أن المُلك الألفي يبدأ بعد مجيء السيد المسيح الثاني ويستمر إلى نهاية ألف سنة، أما الناقد فقد نقل هذا المفهوم بطريقة غير صحيحة حيث إدعى أن المُلك الألفي يبدأ بعد المجيء الثاني بألف سنة قائلًا: "سوف يأسسه يسوع بعد ألف سنة من نزوله الثاني"، ولا يوجد مسيحي واحد يؤمن بمفهوم الناقد هذا.
6ــ ما أورده الناقد من أقوال القس فهيم عزيز والأب متى المسكين، لم يقصد أي منهما النظرة المسيحية للملكوت السمائي، إنما كان كل منهما يتكلم عن نظرة اليهود للملكوت، وما نقله الناقد من عبارات الكاتبين توضح هذه الحقيقة، فالقس فهيم عزيز استخدم مفردات مثل بني إسرائيل، والعهد القديم، والأنبياء، فمن العبارات التي اقتبسها الناقد جاء فيها: " في بني إسرائيل لقد كان الملك مسيحًا مقرَّبًا من الرب. ولكن ذلك لكي يكون خادمًا له، يجري عدله وقضاءه بين الشعوب. ولم نسمع في كل العهد القديم أن ملكًا من ملوك اليهود إدعى لنفسه الألوهية... ومما يزيد الأمر وضوحًا هو المركز الذي يتبوأه الأنبياء الذين تكلموا بِاسم الرب. فكم وقف إيليا وأليشع وإشعياء وعاموس وغيرهم في وجه الملوك ليوبخوهم على اعوجاجهم... إلخ" (البهريز جـ4 ص52، 53). وأيضًا من العبارات التي أوردها الناقد للأب متى المسكين والتي توضح حديثه عن المفهوم اليهودي للملكوت: " ملكوت اللَّه أي حكم اللَّه المُطلّق على الإنسان... كما يتضح بدون عناء من فحص دستور مملكة إسرائيل وشريعتها نوع هذه المملكة وطبيعتها... ولكن إسرائيل – في واقع الحال – أخفقت أن تكون مملكة اللَّه، وانحطت جدًا عن ما هو مفروض لها، وذلك بسبب رداءة القضاء والملوك والرؤساء والكهنة وحتى شيوخ الشعب" (البهريز جـ 4 ص53).
_____
(375) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 4 ص 51 - 53.
(376) مركز المطبوعات المسيحية جـ 5 ص19.
(377) تفسير إنجيل متى ص34، 35.
(378) شبهات وهمية حول الكتاب المقدَّس ص287، 288.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/217.html
تقصير الرابط:
tak.la/m6c79qy