س20 : هل كان بولس الرسول أسينيًا بدليل أن بعض تعاليمه تشبه تعاليم الأسينيين، مثل الثنائية بين النور والظلمة، والخير والشر (2كو 6: 14-17، كو 1: 12، 13، أف 5: 7-13، 6: 10-12، 1تس 5: 4-8)؟ وهل هذا ينطبق أيضًا على يوحنا الرسول الذي تحدث عن الثنائية المتمثلة في الله والشيطان، والنور والظلمة، والحق والكذب، والحياة والموت، وطرق الحياة وطرق الموت؟ وهل تأثرت الكنيسة بالفكر الأسيني فأخذت منه حياة الشركة والتجرد من الممتلكات؟ يقول المؤرخ والناقد "رينان": "ليست المسيحية سوى شكل من الأسينية قُيّض لها النجاح على نطاق أوسع" (65).
ج:1- مفهوم الأسينيين، في ثنائية الخير والشر والنور والظلمة، يختلف عن مفهوم بولس الرسول، فالأسينيون يعتقدون أن الصراع والتصادم قائم بين أبناء النور وأبناء الظلمة، وبين مملكتي الخير والشر، وهذه الحروب ستستمر حتى ينتصر "أمير النور" على "ملاك الظلمة"، بينما قال بولس الرسول: "لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ. وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ. وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ. وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ. وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ... لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ"(2كو 6 : 14 - 17). لم يقصد بولس الرسول تكوين مجموعة منعزلة عن الجميع كما فعل الأسينيون، إنما قصد الاعتزال عن أفكارهم وأفعالهم فلا نشاركهم التصرف، ولا نقبل أفكارهم، ولذلك بعدما قال: "كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ فِي الرِّسَالَةِ أَنْ لاَ تُخَالِطُوا الزُّنَاةَ" (1كو 5 : 9)، أوضح قصده في الآية التالية مباشرة: "وَلَيْسَ مُطْلَقًا زُنَاةَ هذَا الْعَالَمِ أَوِ الطَّمَّاعِينَ أَوِ الْخَاطِفِينَ أَوْ عَبَدَةَ الأَوْثَانِ وَإِلاَّ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَخْرُجُـوا مِنَ الْعَالَمِ" (1كو 5 : 10)، فهو ينفي أن يكون قصده الخروج بعيدًا عن المجتمع، ولذلك قال في موضع آخَر: "وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا" (أف 5 : 11)، وهكذا بقية الشواهد التي جاءت بالسؤال لا تجد في أي منها دعوة للانعزال عن المجتمع.
2ـــ ركز القديس يوحنا في كتاباته على روح الحب، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فإن كان الإنسان لا يحب أخيه الذي يراه فكيف يستطيع أن يحب الله الذي لا يراه، والحب ليس قاصرًا وموجهًا للأبرار بل يشمل أيضًا الأشرار، ومن يقتني المسيح يستطيع أن يقدم الحب لكل الخليقة، ومن يرفضه يتخبط في ظلمة هذا العالم، لأنه هو الطريق والحق والحياة والنور، فبدونه يتوه الإنسان ويضل الطريق، وبينما أطنب يوحنا الحبيب في الحديث عن النور والظلمة، والحيـاة والموت، وطرق الحياة وطرق الموت فأنه لم يدعو أحدًا للخروج من المجتمـع والانعزال عنه، كما فعـل الأسينيون، وقال السيد المسيح: "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ... فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 5 : 14 - 16).
3ـــ كون الكنيسة الأولى عاشت حياة الشركة فليس معنى هذا أنها استمدت هذا المبدأ من جماعة الأسينيين... لماذا؟ لأن حيـاة الشركة لدى الأسينيين كانت تمثل قانونًا لا يمكن مخالفته، حتى أن من يتغيب عن اجتماعهم ثلاث مرات بدون إذن كان يتعرّض للعقوبة، أما حياة الشركة في الكنيسة الأولى فكانت اختيارية، ولم يكن هناك وصية إنجيلية تُلزِم الإنسان المسيحي ببيع ممتلكاته ووضعها تحت تصرف الكنيسة، حتى أن السيد المسيح عندما طلب من الشاب الغني أن يبيع كل شيء ويتبعه حاملًا الصليب لم يلزمه بهذا، بل ترك له حرية الاختيار إن كان يريد حياة الكمال، فقال له: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ. فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي" (مت 19 : 21)، فهذه حالة من حالات الكمال المسيحي لمن يرغب فيها، وقال بطرس الرسول لحنانيا عن الحقـل الخاص به: "أَلَيْسَ وَهُوَ بَاق كَانَ يَبْقَى لَكَ. وَلَمَّا بِيعَ أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ" (أع 5 : 4)، والآن طالبوا الرهبنة المسيحية الذين اختاروا حياة الفقر الاختياري يتصرفون في أملاكهم كما يحلو لهم، ولا يحملونها معهم إلى الدير، إنما يدخل الدير وهو لا يملك شيئًا، وحتى ينتقل من هذا العالم يظل لا يملك شيئًا، بينما من رغب أن يلتحق بجماعة الأسينيين كان عليهم أن يحمل ممتلكاته ويسلمها لهم لتنضم إلى أملاك الجماعة. ونظرة إلى عقائد الأسينيين توضح الفروق الشاسعة بين الأسينية والمسيحية.
4ـــ يقول "الأب بولس إلياس اليسوعي": "إن المسيحية لم تنبثق مطلقًا من الأسينية رغم ما بينهما من وجوه الشبه والتقارب في المبادئ والعادات، ذلك لأن المسيحية تقوم على حدث هام أكثر منها على مبادئ وتعاليم، ألا وهو تجسد ابن الله ودخوله الزمن والتاريخ وموته على الصليب لأجل افتداء البشر، وهذا قد تم في شخص يسوع المسيح. كانت الأسينية مرحلة انتقالية ما بين اليهودية والمسيحية لا غير، وبالأحرى رحلة تحضيرية لمجيء المسيح إلى العالم، علامة انبلاج الفجر المقبل تنبئ بقدوم الشمس وبذوغ النور الحقيقي الآتي إلى العالم الذي سوف يقول يومًا: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ" (يو 8 : 12)، ومعلمًا يدل على الطريق الحي المؤدي إلى الله وذاك الذي سوف يقول أيضًا: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ لَيْسَ أَحَـدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يو 14 : 6)" (66).
_____
(65) أورده الأب بولس إلياس اليسوعي - يسوع المسيح - شخصيته - تعاليمه ص 140.
(66) يسوع المسيح - شخصيته - تعاليمه ص 144.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/20.html
تقصير الرابط:
tak.la/aj9r24p