س180: هل ولادة يسوع المسيح المعجزية بدون أب (مت 1: 20) مدعاة لدعوته إلهًا؟ وما بالك بآدم الذي خُلق بدون أب وبدون أم، هل هو إلهًا أيضًا؟ ولماذا لم يدَّعي أحد أن ملكي صادق الذي بلا أب وبلا أم، لا بداية أيام له ولا نهاية حياة (عب 7: 1 - 3) أنه إله أيضًا؟
يقول "أحمد ديدات": " مثل آدم: هل مولد عيسى عليه السلام بطريقة تتمثل فيها معجزة يجعل منه إلهًا أو ابنًا مولودًا لَّله سبحانه وتعالى؟ كلا !. يقول القرآن الكريم: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (آل عمران 3: 59). وبعد بيان ووصف تفاصيل المنزلة الرفيعة التي يتبوأها عيسى عليه السلام بصفته رسولًا فيما سبق من آيات كريمة، لنا أن ننكر ونرفض تلك الفكرة السائدة لدى غيرنا من أنه كان إلهًا أو كان "ابنًا لإله "، أو أي إعتبار آخر يعتبره به أكثر من إنسان رسول من رسل اللَّه إلى البشر. ولو قيل لنا أنه وُلِد بغير أب من البشر (فإننا نقول) أن آدم خُلِق هكذا (وبطريقة أكثر إعجازًا من هذا، دون أب ودون أم أيضًا، ولم يدَّعِ أحد أن آدم عليه السلام إلهًا !).
إن المنطق المعقول في هذا الموضوع يتلخص في أنه لو كان مولد عيسى دون أب مدعاة أن نعبده مناظرًا أو مساويًا لإله، فإن آدم عليه السلام لديه فرصة أكبر لنيل هذا الشرف، وهو ما يرفضه أي مسيحي... وأكثر من هذا، لو تشبث المسيحي بأن آدم إنما خُلِق من تراب الأرض، بينما المسيح وُلِد في " رحم مريم " فليدعنا إذًا أن نذكّره بأنه وفق معاييره ذاتها، وبنص إنجيله، هناك من يفوق المسيح في هذا الصدد، وبالتالي يكون أحق منه أيضًا بالربوبية !.. " لأَنَّ مَلْكِي صَادَقَ هذَا مَلِكَ سَالِيمَ كَاهِنَ اللهِ الْعَلِيِّ الَّذِي اسْتَقْبَلَ إِبْرَاهِيمَ... بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ. هذَا يَبْقَى كَاهِنًا إِلَى الأَبَدِ" (عب 7: 1 - 3). هنا ملكي صادق مرشَّح للألوهية الكاملة ذاتها... ولكن، أين ملك ساليم؟. ربما كان نائمًا في مكان ما كأبطال الأساطير" (207).
وأيضًا يقول "أحمد ديدات": " ولكن الشيء المحيّر فيما يتعلق بمثل هذه المبالغة هو أن المسيحيين يبدون كما لو كانوا يقرأون ما كان بولس قد كتبه في رسالته إلى العبرانيين عن "ملك ساليم" حيث كانوا صمًَّا وعميانًا كما وصفهم عيسى حسبما ورد بإنجيل متى، يقول: " لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ" (مت 13: 13). وقد جاء بالقرآن الكريم أيضًا وصف ينطبق عليهم في قوله تعالى: " صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" (سورة البقرة 2: 18)" (208).
ويقول "علاء أبو بكر": " س266: هل ولادة عيسى عليه السلام بدون أب دليل على ألوهيته؟. بالطبع لا، فإن آدم وُلِد من غير أب أو أم، وهو في هذه الحالة يكون (على تفكيركم) أحق من عيسى عليه السلام بالألوهية. وكذلك كان ملكي صادق: ".. بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ. هذَا يَبْقَى كَاهِنًا إِلَى الأَبَدِ" (عب 7: 1 - 3)" (209).
ج: 1ــ نحن لم نؤلّه السيد المسيح لأنه وُلِد من عذراء بدون زرع بشر، ولا لأنه صنع معجزات باهرات... نحن لا نؤمن بإنسان تألَّه ولكننا نؤمن بإله تأنس، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولم يقل أحد قط من آباء الكنيسة أو غيرهم أن المسيح صار إلهًا لأنه وُلِد بدون زرع بشر، بل إيماننا أن اللَّه تجسد وتأنس وأخذ طبيعتنا البشرية دون أدنى تنازل عن طبيعته اللاهوتية، وما أجمل صلوات التسبحة التي تقدم لنا اللاهوت المعاش في أبسط صورة:
" لم يزل إلهًا... آتى وصار ابن بشر... لكنه هو الإله الحقيقي... آتى وخلصنا" (من ثيؤطوكية الخمس).
أما عن مقارنة الناقد بين المسيح الذي وُلِد بدون زرع بشر، وبين آدم الذي خُلق بلا أب ولا أم، فهيَ مقارنة ملتوية، لأنه بالنسبة لآدم كان من الطبيعي أن يخلقه اللَّه بلا أب ولا أم، بل خلقه من أديم الأرض، ولم تكن هذه ميزة إنفرد بها آدم لوحده، بل شاركه في هذا جميع الكائنات الحيَّة من حيوانات وطيور وزواحف... إلخ، فأول أسد، وأول نسر، وأول طاووس كان كل منهم بلا أب ولا أم. ولكن بعد خلقة آدم وحواء ومن قبلهما الكائنات الحيَّة، خضعت جميعها إلى الناموس الطبيعي الذي وضعه اللَّه، عن طريق التزاوج والإنجاب، ولم يحدث قط أن أحد كسر هذا الناموس الطبيعي... فلماذا كسره السيد المسيح؟!.. والإجابة واضحة تمامًا، وهيَ لأنه اللَّه المتجسد، وحتى لا يرث الخطية، فيقول "الأب متى المسكين": " والأمر الأكثر أهمية عندنا هو لماذا يتحتم أن يُولَد المسيح من عذراء ومن الروح القدس، ذلك لأن عملية الفداء تحتم أن المولود يكون قدوسًا بلا أدنى عيب أو خطية، حتى يستطيع أن يحمل خطايا البشرية كلها ويموت بها، دون أن تكون له خطية واحدة وإلاَّ يُحسَب موته عن استحقاق له، وليس باستحقاق آخرين. كما يتطلب معنى الفداء" (210).
2ــ هناك فرق جوهري أيضًا بين يسوع المسيح وآدم، فآدم جُبل من تراب الأرض وإليها يعود ثانية (تك 3: 19)، ومنها سيقوم جسده في اليوم الأخير، أما السيد المسيح فهو الإله الأزلي الكائن قبل كل الدهور، وهو الخالق الذي خلق آدم، لأن: " كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ" (يو 1: 3)، قد حلَّ في الحشا البتولي متخذًا له جسدًا مقدَّسًا قدمه على الصليب ذبيحة من أجل فداء جنسنا.
كما قارن البعض بين حواء والمسيح مدعين أن حواء وُلِدت بدون أم، ويسوع المسيح وُلِد بدون أب، والمقارنة طبعًا بنيت على مغالطة لأن حواء لم تكن بنتًا لآدم، ولا آدم كان أبًا لحواء، إنما جبل اللَّه حواء من جنب آدم لتكون زوجة له ومعينة.
3ــ إذا كان ملكي صادق شخصية مجهولة في الكتاب المقدَّس، فهذا لا يعني على الإطلاق أنه بطل من أبطال الأساطير، وهل بنفس القياس نستطيع أن نقول عن ذي القرنين الذي سار إلى مغرب الشمس فوجدها تغرب في عين حمئة (راجع سورة الكهف 18: 83 - 86) أنه من أبطال الأساطير، أم أننا نقبل تفسير الأئمة بأن ذي القرنين كناية عن الإسكندر الأكبر؟!!، فلماذا لا يسألوننا عن ملكي صادق حتى نجيبهم بحسب معتقداتنا وإيماننا، ولا يفسرون كما يحلو لهم. عندما قال بولس الرسول: " لأَنَّ مَلْكِي صَادَقَ هذَا مَلِكَ سَالِيمَ كَاهِنَ اللهِ الْعَلِيِّ... الَّذِي قَسَمَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عُشْرًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. الْمُتَرْجَمَ أَوَّلًا مَلِكَ الْبِرِّ ثُمَّ أَيْضًا مَلِكَ سَالِيمَ أَيْ مَلِكَ السَّلاَمِ. بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللهِ. هذَا يَبْقَى كَاهِنًا إِلَى الأَبَدِ" (عب 7: 1 - 3)، فإنه كان يقصد من " بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ " أي أن الكتاب المقدَّس لم يذكر لنا اسم أبيه ولا اسم أمه ولا نسبه، ومع هذا فإن شخصية ملكي صادق شخصية تاريخية، ظهر مرة واحدة في سفر التكوين، وكان رمزًا للسيد المسيح: " وَمَلْكِي صَادِقُ مَلِكُ شَالِيمَ أَخْرَجَ خُبْزًا وَخَمْرًا. وَكَانَ كَاهِنًا ِللهِ الْعَلِيِّ. وَبَارَكَهُ وَقَالَ مُبَارَكٌ أَبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَـاوَاتِ وَالأَرْضِ... فَأَعْطَاهُ عُشْرًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" (تك 14: 18 - 20). فملكي صادق هو كاهن اللَّه العلي قدم خبزًا وخمرًا، وبارك إبراهيم، وإبراهيم قدم له العشور، فهو كان رمزًا للمسيح الذي جاء على طقس ملكي صادق فأبطل الذبائح الحيوانية، وقدم جسده ودمه للكنيسة في صورة الخبز والخمر، وهذا ما تنبأ عنه داود النبي قائلًا: " أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبـَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ" (مز 110: 4)، وقال عنه بولس الرسول: " مَدْعُوًّا مِنَ اللهِ رَئِيسَ كَهَنَةٍ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ" (عب 5: 10).
والمقارنة في الرسالة للعبرانيين لم تكن بين شخصين شخص ملكي صادق وشخص المسيح، إنما جاءت المقارنة بين كهنوت هارون وكهنوت المسيح على طقس ملكي صادق، فإبراهيم قدم العشور لملكي صادق، وملكي صادق بارك إبراهيم، فهنا نرى العشور تُقدم من الأصغر (إبراهيم وفي صلبه لاوي) للأكبر (ملكي صادق وهو رمز للمسيح)، والبركة تقدم من الأكبر (ملكي صادق) للأصغر (إبراهيم وفي صلبه كهنوت لاوي)، وبذلك دلَّل بولس الرسول على أن كهنوت المسيح أفضل من الكهنوت اللاوي، لأن كهنوت المسيح هو الدائم إلى الأبد: "حَيْثُ دَخَلَ يَسُوعُ كَسَابِق لأَجْلِنَا صَائِرًا عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ إِلَى الأَبَدِ" (عب 6: 20)، وقول بولس الرسول عن ملكي صادق: " وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ " له، لا يقصد شخصه أنه سيعيش للأبد، إنما قصد أن الكتاب لم يذكر نهاية حياته، فملكي صادق مات كسائر البشر، ولكن كهنوته مستمر إلى الأبد من خلال كهنوت المسيح.
4ــ يقول "قداسة المتنيح البابا شنودة الثالث": " وقد قيل عن ملكي صادق إنه مشبَّه بابن اللَّه. من جهة هذه الأمور... يقول عنه الرسول: " بِلاَ أَبٍ بِلاَ أُمٍّ بِلاَ نَسَبٍ. لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ. بَلْ هُوَ مُشَبَّهٌ بِابْنِ اللَّهِ" (عب 7: 3). ولا نأخذ هذه الكلمات بحرفيتها، وإلاَّ كان ملكي صادق هو اللَّه. بل حتى من جهة الحرف، لا نستطيع أن نقول أنه مشبَّه بابن اللَّه في أنه بلا أم، لأن المسيح كانت له أم هيَ العذراء، ولا نستطيع أن نقول أنه بلا أب، فالمسيح له أب هو الآب السماوي...
بالإضافة إلى هذا، فإن الكتاب لم يذكر لنا شيئًا عن نسب ملكي صادق، ولا من هو أبوه ولا أمه. فكان يقول عنه: بلا أب نعرفه، وبلا أم نعرفها. وماذا أيضًا؟
لاَ بَدَاءَةَ أَيَّامٍ لَهُ وَلاَ نِهَايَةَ حَيَاةٍ... أي أنه دخل التاريخ فجأة، وخرج منه فجأة، دون أن نعرف له بداءة أيام، ولا نهاية حياة. إنما ظهر في وقت ليؤدي رسالة ما، وليكون رمزًا، دون أن نعرف له تاريخًا ولا نسبًا.
أما المسيح، فمن الناحية الجسدية، معروفة أيامه. معروف يوم ميلاده، ويوم موته على الصليب، ويوم صعوده إلى السماء، أما من الناحية اللاهوتية، فلا بداءة ولا نهاية.
ولكن ملكي صادق لم يكن يرمز إلى المسيح من الناحية اللاهوتية... إنما كل الذي ذكره الكتاب سواء في (تك 14) أو في (مز 110) أو في (عب 7) كان بخصوص عمله الكهنوتي"(211)
5ــ قول أحمد ديدات عن المسيحيين أنهم صمًا وعميانًا لأن السيد المسيح قال عنهم هكذا (مت 13: 13) قول جانبه الصواب كثيرًا، لأن السيد المسيح لم يقل هذا عن أتباعه، إنما عن اليهود الذين رفضوه، أما أتباعه الأمناء فقد قال لهم السيد المسيح: ".. طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ" (مت 13: 16).
_____
(207) المسيح في الإسلام وحوار مع قسيس حول ألوهية المسيح ص56، 57.
(208) المرجع السابق ص58.
(209) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 2 ص242.
(210) الإنجيل بحسب القديس متى ص141.
(211) سنوات مع أسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدَّس ص31، 32.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/180.html
تقصير الرابط:
tak.la/3g3bk4z