س137: هل ألقت مخطوطات نجع حمادي الضوء على الخطوط العريضة والعوامل المشتركة بين الفرق الغنوسية العديدة؟
ج: فعلًا الغنوسية لا تمثل فرقة واحدة ولا مذهبًا واحدًا، إنما تعددت الفرق والمذاهب الغنوسية، بعضها ابتعد عن المسيحية واقترب من الفلسفة اليونانية الوثنية، وبعضها اقترب من المسيحية إلاَّ أنه لم يلتزم بالإيمان المسيحي الصحيح، ولذلك فإن هذه الفِرق الكثيرة لا يجمعها قانون إيمان واحد، مثل قانون الإيمان المسيحي الذي تلتزم به جميع الطوائف المسيحية، ومَنْ ينكره أو ينكر جزء منه لا يُحتَسب مسيحيًا. وفيما يلي نُلقي الضوء على بعض الخطوط العريضة التي كادت تتفق عليها جميع الفرق الغنوسية:
1ــ
الثنائية
2ــ تشويه صورة الثالوث
القدوس
3ــ إنكار التجسد الإلهي
4ـــ الروح سجينة الجسد
5 - الخلاص عن طريق المعرفة
6ــ القيامة العامة قبل
الموت
فالغنوسيون يعتقدون بإلهين، إله العهد القديم الذي خلق العالم المادي (والمادة في نظرهم هيَ شر) المليء بالإثم، وهو إله شرير يصوَّرونه في هيئة أفعى أو أسد، عيناه جمرتان من النار، يحيط به الأراكنة من قوى الظلام، وقد خلق هذا الإله الإنسان من مادة الأرض الظلامية، وأخذ روحه من نور الأعالي المسروق وحبسها في قوقعة الجسد، أما الإله الثاني، فهو إله العهد الجديد، وهو إله مُحب وطيب وباذل ومخلص... إلخ...
خلط معظم الغنوسيين بين الأقانيم الثلاثة، الآب والابن والروح القدس، وقالوا أن الروح القدس الخفي هو الإله الحقيقي غير المحدود الذي لا بداية له ولا نهاية، فجاء في بداية "إنجيل يوحنا السري": "هذه تعاليم المخلص، ووحيه بخصوص الأسرار والمسائل الخفية وراء حجاب الصمت، وكل ما نقله إلى تلميذه يوحنا. فلقد حدث في أحد الأيام (بعد صلب المخلص) أن يوحنا أخا يعقوب، وهما ابنا زبدي، صعد إلى الهيكل، فاقترب منه فريسي اسمه أريمانيوس، وقال له: أين هو معلمك الذي سرت وراءه؟ فقال يوحنا: لقد عاد إلى المكان الذي جاء منه، فقال الفريسي: لقد خدعكم هذا الناصري، وملأ أذانكم بالأكاذيب، وقسى قلوبكم وحرَّفكم عن سُنَّة أباءكم.
عندما سمعت أنا يوحنا، هذه الأقوال، توليت عن الهيكل ومضيت إلى الجبل فانتجعت مكانًا قفرًا وقد انتابتني كآبة عميقة. قلت في نفسي: كيف تم اختيار المخلص، ولماذا أرسله أبوه إلى العالم، ومن أبوه الذي أرسله، وما طبيعة المكان الذي سنؤول إليه؟.. وبينما أنا على هذه الحال أتأمل في هذه المسائل، اهتزت الأرض وانشقت السماء، وشعَّ نور ليس من هذا العالم أضاء كل شيء، فخفت وسقطت على الأرض. ثم تراءى لي في النور طفل واقف أمامي. وبينما أنا ناظر إليه تحوَّل شكله إلى رجل عجوز، ثم تبدى لي في هيئة خادم. لم يكن أمامي جمع من الأشكال، وإنما شكل واحد بهيئات مختلفة تشف في النور من خلال بعضها بعضًا.
ثم سمعت صوتًا صادرًا عنه يقول: يوحنا، لماذا تشك ولماذا تخاف؟ أليس الذي تراه أمامك معروفًا لك؟ لا تكن قليل الإيمان، فأني معك دائمًا. أنا الآب وأنا الأم وأنا الابن. أنا الموجود السرمدي، جئت لأكشف لك عن حقيقة ما هو كائن، وما كان، والذي سيكون، فتعرف ما هو ظاهر للأعين وما هو خافٍ عنها، وأطلعك علـى سر الإنسان الكامل، فأرفع وجهك، وأسمع وتعلم ما أقوله لك اليوم، لكي تنقله لأترابك من سلالة الإنسان الكامل القادرين على الفهم، وعندما سألت أن أتعلم قال لي:
الروح كمال قائم بذاته، لا يحكم فوقه أحد. أنه الله الحقيقي أبو الجميع، الروح القدس الخفي الذي يهيمن على الكل. الواحد الموجود بصمديته، القائم بنوره، الذي لا تدركه الأبصار. الروح ليس إلهًا أو كائنًا له صفات وخصائص محدَّدة، بل هو أكثر من مجرد إله. هو البداية. هو البداية التي لا تسبقها بداية، ولم يكن لأحد وجود قبله ليحتاج إليه. الروح لا يحتاج الحياة لأنه سرمدي، ولا يطلب شيئًا سواء لعدم وجود نقص فيه يتطلب التكميل، أنه وراء الكمال، أنه النور، بلا حدود ولا أبعاد لعدم وجود شيء قبله يحده ويقيس أبعاده. خفي لأن أحدًا لا يراه. قيُّوم وموجود أبدًا. بلا أوصاف لأن أحدًا لم يفهم كنهه فيصفه. بلا اسم لعدم وجود أحد قبله يُطلق عليه الاسم. ليس واسعًا وليس ضيقًا. ليس كبيرًا وليس صغيرًا. ليس ماديًا ولا معنويًا. ليس كمًا ولي كيفًا. ليس كيانًا وليس بغير كيان. ليس زمنيًا لأنه وراء الزمان. ليس موجودًا لأنه وراء الوجود. قائم في نفسه ولنفسه"(957).
أنكر الغنوسيون أن السيد المسيح اتخذ في تجسده جسدًا بشريًا حقيقيًا، فقالوا أنه اتخذ جسدًا خياليًا أو شبحيًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. يظهر أنه جسد وهو ليس بجسد، ويظهر أنه يأكل ويشرب وهو لا يأكل ولا يشرب، فجاء في "وثيقة ملكي صادق" عن السيد المسيح أنه: "ليس مولودًا مع أنه وُلِد. لم يأكل مع أنه أكل، لم يشرب مع أنه قد شرب، ليس مختونًا مع أنه قد خُتِن. ليس جسديًا مع أنه جسدي. لم يُسلَّم للعذاب مع أنه عُذّب، لم يقم من بين الأموات مع أنه قام من بين الأموات"(958).
أعتبر الغنوسيون أن الروح البشرية موجودة قبل خلقة الأجساد، فهيَ قبس من روح الله وشرارة من نور الأعالي، وقعت في ظلمة المادة فصارت حبيسة الجسد المادي، حتى صار الإنسان أشبه بالسكران، فجاء في "إنجيل توما" فقرة (28) أن يسوع قال: "وقفت في وسط العالم، وبالجسد ظهرتُ لهم، فوجدتهم كلهم سكارى، ولم أجد بينهم ظمأنًا"(959). كما جاء في "إنجيل الحقيقة": "أن العارف هو الذي تحقق أنه قد جاء من الأعلى، ولذا فإنه عندما يُدعى يسمع، ويستجيب لداعيه... أنه الآن يعرف من أين أتى وإلى أين سوف يمضي، فهو أشبه بالسكران الذي صحا من سكره وعاد إلى نفسه"(960). ويكمن في الإنسان دعوة للصحوة والإفاقة من هذا السكر، فهو يشرع في رحلة المعرفة، ولا يستمد هذه المعرفة من الآخرين ولا من الكتب، بل هيَ معرفة روحية باطنية تقود الإنسان للتعرف على حقيقة روحه، حتى تتحرَّر من سجن الجسد وتعود إلى ديارها الأولى.
فيعتقد الغنوسيون أن الإنسان لا يخلص بإيمانه بالله المتجسد، وبدم المسيح المسفوك من أجله، إنما يعتقدون أن الخلاص يأتي عن طريق المعرفة، فجاء في "إنجيل فيليب": "إن مَن يمتلك معرفة الحق فيغدو حرًّا، والحر لا يرتكب الخطيئة، لأن من يرتكب الخطية هو عبد للخطيئة... إن المعرفة تسمو بقلوب المؤمنين وتحرّرهم وتجعلهم فوق العالم، وهم لا يستعبدون إلاَّ للحي"(961).
في الفكر الغنوسي تبدأ القيامة من الموت هنا على الأرض عندما يصغى الإنسان إلى دعوة المخلص، وجاء في "إنجيل فيليب": "إن من يقول بأن عليه أن يموت أولًا ثم يُبعث بعد ذلك، هو على خطأ، لأن الإنسان إذ لم يختبر القيامة وهو حي، فأنه لن يتلقى شيئًا بعد موته"(962). كما جاء فيه أيضًا: "أن من يقول بأن المسيح قد مات أولًا ثم قام، هو على خطأ، لأن المسيح قد قام أولًا ثم مات".
ويقـول "فراس السواح": "وعلى الرغم من غياب فكرة القيامة العامة للموتى في اليوم الأخيــر عن العقيدة الغنوسيـة، إلاَّ أن بعض نصوص نجـع حمــادي تقدم لنا تصوُّراتها الخاصة عن اليوم الأخير الذي تتزعزع فيه قوى الظلام ويؤول العالــم المادي إلى نهايته. فعندما تُحقّق معظم نفوس البشر تحرُّرها من خلال معرفــة الله، تقترب ساعة نهاية العالم التي يشعر بها الأركون العظيم وبطانته مثلما تشعر المــرأة الحامل بقرب ساعة الولادة، فيحاولون جهدهم منع الكارثة ولكنهم يفشلون في كل سعي وغاية، فتهتز عروشهم وتنقلب، وتنطبق السماء على الأرض هاوية نحو العالم الأسفل. وتنبعث في وسط العالم نار آكلة تأتي على كل شيء ثم تلتهم نفسها قبل أن تنطفئ" (راجع Treatise of the Resurrection, in : Nag Hammadi Library. P 52 - 53)(963).
_____
(957) أورده فراس السواح - الوجه الآخَر للمسيح ص 156، 157.
(958) المرجع السابق ص 165.
(959) المرجع السابق ص 163.
(962) المرجع السابق ص 167.
(963) المرجع السابق ص 167.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/137.html
تقصير الرابط:
tak.la/9qrbh9c