س122: هل تحتاج الترجمات للتنقيح عبر العصور؟
ج: 1ـــ نعم، هناك ضرورة مُلحة لتنقيح الترجمات مع مرور الزمن، لتسهيل وصول الرسالة الإلهيَّة للمؤمنين، لأن اللغة تتطوَّر، فمع مرور الأيام تخرج منها مفردات وتُهمل وتسقط، فتصير غريبة على السامع، وتدخلها أيضًا مفردات حديثة لم تكن معروفة من قبل، فاللغة ليست ثابتة إنما هيَ في تطوُّر دائم، ومن يطالع كتابًا كُتب منذ ثلثمائة عام يدرك مدى تغير المفردات، ومن يقرأ كتابًا عمره ألف عام سيقف أمام معظم المفردات. لا يدركها إلاَّ من سياق الحديث أو بعد البحث والعناء، ولذلك قال عميد الأدب العربـي "الدكتور طه حسين": "لغتنا العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه في العصر الحديث".
2ــ نعم، هناك ضرورة لتنقيح الترجمات، ومن الناحية المثالية: يجب مراجعة الترجمة كلما اكتشفنا بعض الكلمات التي تحتاج للتنقيح، لأنها لم تعد تُعبّر عن المعنى الذي قصده الكاتب بدقة، ومن الناحية العملية ونظرًا لارتفاع مصاريف الطباعة يتم الانتظار حتى يتجمع القدر الكافي من الكلمات والعبارات التي تحتاج للتنقيح، ومن الناحية العاطفية نجد ارتباط المؤمنين بتعبيرات الترجمة السائدة والتي حفظوهـا واعتادوا عليها منذ نعومة أظافرهم، حتى أنهم يروا أن أي تنقيحات تعد عبثًا لا يليق بكلمة الله... ولا يجب الاستسلام لهذا الاتجاه، فعلى مرّ التاريخ تُنجَز ترجمات تتلوها ترجمات أخرى أدق وأوضح، وتقارب بيننا وبين روح النص الأصلي، فيجب أن يدرك الجميع أن الدافع للتنقيح ليس هو العبث بكلمة الله، أنما الحفاظ على شفافية كلمة الله لتكون دائمًا أكثر دقة وملائمة، وإن تغيَّرت وتبدَّلت الألفاظ، فإن المعنى فلا أحد يستطيع أن يغيّره أو يبدّله، ويشكك فيه، بل ستظل المعاني التي جسَّمها الكاتب الأصلي والتي تعبر عن القصد الإلهي باقية إلى الأبد آمين.
3ـــ هناك كلمات كانت تحمل معاني معينة، والآن تحمل معاني مختلفة، فمثلًا:
أ - كلمة "دَبَّابَاتٍ" (تك 1 : 24) التي خلقها الله، والمقصود بها "الدواب" أي ما يدب على الأرض، أما "الدبابات" في العصر الحديث فأنها تشير إلى معدات قتالية، وليست كائنات حيَّة، ومثلها كلمة "أَرْتَاجُ" (مز 24 : 7، 9) ومفردها "رتاج" أي الباب الكبير أو العظيم، و "أَقْيَانِ" (2مل 24 : 14) ومفردهـا "قيـن" أي حداد، و"أَتَبَلَّجُ" (أي 9 : 27) ومعناها أبدو باسمًا منتعشًا، و "سَجَّسُ" (عد 14 : 36، أع 17 : 5) أي هيَّج أو أحدث شغبًا، و "بُوصٍ مَبْرُومٍ" (خر 25 : 4) أي كتان ناعم، و "عَلاَئِفْ" (لو 3 : 14) أي الأجور أو الرواتب، و "وَظِيفَةً" (دا 1 : 5) أي حصة من الطعام أو غيره، و "أَعْرَاءِ" (أس 9 : 19، زك 2 : 4) ومفردها "عراء" أي المدينة التي لا أسوار لها،، و "بَهْت" (إش 1 : 6) وهو نوع من الرخـام، و "خرم" (خر 28 : 39) أي طرز... إلخ. (راجع الدكتور القس عبد المسيح أسطفانوس - تقديم الكتاب المقدَّس - تاريخه / صحته / ترجماته ص 134، 135).
ب - قول السيد المسيح: "لِمَاذَا وَقَفْتُمْ ههُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ" (مت 20 : 6)، والمقصود ببطالين أي لا تعملون، أما الآن فأنها قد تعني الانحراف الأخلاقي.
جـ ـ قول بولس الرسول: "إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ" (رو 8 : 20)، والمقصود بالبُطل هنا الضياع والفراغ، أما اليوم فيصعب فهم معناها.
د - قال بولس الرسول: "وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ" (1كو 15 : 50)، ومعنى الفساد هنا التحلل والفناء، بينما قد يعني الآن فساد الأخلاق.
هـ - قال بولس الرسول: "لأَنْ مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ اللهِ فَهُوَ فِيهِ النَّعَمْ وَفِيهِ الآمِينُ لِمَجْدِ اللهِ"(2كو 1 : 20)، والمقصود بالمواعيد هنا "الوعود"، بينما يفهمها قارئ اليوم على أنها "المواقيت" مثل مواعيد القطارات والطائرات والمقابلات الرسمية.
و - كلمة "الْمَلْحَمَةِ" (1كو 10 : 25) والتي استخدما بولس الرسول للتعبير عن المكان الذي تُباع فيه اللحوم، أي محلات الجزارة، بينما قد تعني بمفهوم اليوم المعركة حامية الوطيس.
ز - بعض معايير الموازين والأبعاد والمكاييل التي جاء ذكرها في الكتاب المقدَّس لم تعد تُستخدم في هذه الأيام، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فاستخدم الكتاب المقدَّس "الوزنة" وهيَ تساوي 34 كجم في عصر المسيح، و"الشاقل" ويساوي 11.5جم، و"الجيرة" وتساوي 0.6 جم، وبعض الأبعاد مثل "الذراع" ويساوي نحو 0.5 م، و"الغلوة" وتساوي 185م، وبعض المكاييل للمواد الجافة مثل "الكر" ويساوي 320 لترًا، و"الأيفة" وتساوي 32 لترًا، ومكاييل السوائل "البث" ويساوي 32 لترًا، وبعض العملات مثل "الأستار" وتساوي 4 دراهم... إلخ. (راجع الكتاب المقدَّس الدراسي ص 3089).
ح - قـال متى الإنجيلي: "وَجَدُوا إِنْسَانًا قَيْرَوَانِيًّا اسْمُهُ سِمْعَانُ فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ" (مت 27 : 32) وتكـرر المعنى في (مر 15 : 21، لو 23 : 26، أع 2 : 10، 6 : 9، 11 : 20، 13 : 1) وقال النُقَّاد أن منطقة القيروان عُرفت في تونس سنة 670م. والحقيقة أن الكلمة في الأصل اليوناني جاءت "قيرينين" Κνρηυηυ وهيَ تقع في ليبيا، ويقول "الدكتور القس عبد المسيح أسطفانوس" : "وحيث أن القيروان لم تظهر في التاريخ سوى ابتداءً من سنة 670م، وحيث أنها تقع في تونس اليوم، بينما هناك منطقة في ما نسميه ليبيا اليوم كانت معروفة بِاسم قيرين وهيَ أقرب في لفظها للكلمة اليونانية "قيرينين" لذلك يجب ترجمة هذه الكلمة بكلمة قيرين، ومن ينتسبون إليها قيريني أو قيرنيون. لهذه الأسباب... كان ضروريًا أن يتم تحديث الترجمات بصفة مستمرة لتواكب العصر وتخاطب كل جيل بالمفردات المناسبة والأسلوب الواضح"(884).
4- ظل "فاندايك" صاحب الترجمة العربية البيروتية يُنقّح في ترجمته إلى نهاية حياته، ولو طال به العمر أكثر لنقَّح أكثر فأكثر، لأنه أدرك قول معلّمنا بولس الرسول: "الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي" (2كو 3 : 6) وقول الرب يسوع : "اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ" (يو 6 : 63) فالمهم الروح والمعنى وليس الحرف واللفظ، فالألفاظ والمفردات توظَّف لخدمة المعنى، وليس المعنى لخدمة الحرف، ولأجل هذا كان تخيُّر الكلمة المناسبة الدقيقة التي تعبّر عما يقابلها في الأصل اليوناني، ربما كان يستغرق من المُترجِم أيامًا طويلة، وتفهُّم بعض النصوص اليونانية تفهمًا كاملًا قد يستغرق من المترجم شهورًا وهو يبحث ويدرس ويغوص في القواميس واقتباسات الآباء.
_____
(884) تقديم الكتاب المقدَّس - تاريخه / صحته / ترجماته ص 137.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/122.html
تقصير الرابط:
tak.la/rj4zp96