س117: هل هناك من تخصَّص في النقد النصي ودراسة القراءات المختلفة بين المخطوطات، محاولًا الوصول للقراءة الصحيحة والنص الأصلي؟
ج : اهتم علماء الكتاب بالنقد النصي جدًا، حتى أن القراءات المختلفة البسيطة الناتجة عن الأخطاء الإملائية نالت اهتمامهم ولم يهملوا شيئًا منها، بل درسوها بدقة وبراعة، واهتموا بكل كبيرة وصغيرة ليصلوا للقراءات الصحيحة والنص الأصلي، وبالطبع أي مؤلَّف أدبي قديم توجد له عدة مخطوطات تجد فيه القراءات المختلفة، ولكن لا يوجد كتاب قديم في العالم كله مثل الكتاب المقدَّس من جهة كثرة عدد مخطوطاته التي تصل للآلاف، وأيضًا من جهة كثرة المشتغلين بدراسته والتحقُّق من كل كلمة وردت فيه. ويقول "فردريك كينيون": "إن هؤلاء العلماء يقومون باختيار أكبر عدد من مخطوطات الكتاب المقدَّس في اللغات الأصلية التي كُتب بها، العبرية واليونانية، وهذه المخطوطات مبعثرة في كل المكتبات العظيمة في العالم، فيزورونها ويدرسونها بعناية... وفي بعض الحالات يكون من السهل رؤية القراءات المتنوعة، أو أين سقطت كلمة بإهمال أو أُسيء قراءة كلمة في الشكل الأصلي الذي نُقل عنه... ثم يصبح من الضروري أن يميز العلماء بين المخطوطات. وقد بنيت الفحوصات المبكرة لعلمائنا أن المخطوطات موثوق بها بصفة عامة وأي المخطوطات تحوي على قراءات متنوعة"(859).
1ــ
جون ميل
2ــ دانييل ويتبي
3ــ ريتشارد بنتلي
4ــ يوهان ألبريخت بينغل
5ــ يوهان ج. ويتشتاين
6ــ سكرايفنز
7ــ نورمين جسلر ووليم نيكس
8ـــ عزرا أبوت
9ــ روبرتسون
10ـــ فيليب شاف
11ــ بروس
في سنة 1707م نشر "جون ميل" كتابه عن النقد النصي للعهد الجديد، بعد عمل شاق لمدة ثلاثين سنة درس فيها مائة مخطوطة يونانية للعهد الجديد، بالإضافة لاقتباسات الآباء في القرون الأولى، وكان جون ميل زميلًا في جامعة كوينز، وأحصى القراءات المختلفة في العهد الجديد بثلاثين ألف قراءة مختلفة، فشك في مصداقية العهد الجديد، وبسبب إفراطه في تناول القهوة مات جون ميل بعد نشره هذا العمل بأسبوعين بسكتة قلبية، وبعد موته توالى الهجوم عليه.
في سنة 1710م نشر "دانييل ويتبي" مجموعة ملاحظات عن تفسير العهد الجديد، وأضاف إليها مائة صفحة تناول خلالها القراءات المختلفة، وأوضح أن القراءات المختلفة لم تفسد النص كما اعتقد جون ميل، بل أنه أعرب عن حزنه وألمه بسبب كتاب ميل الذي شكَّك فيه في مصداقية العهد الجديد، قائلًا: "أنا حزين، ولذلك أنني نكد، أنني وجدت الكثير من الأشياء في كتاب ميل يبدو أنها تُظهِر تقوُّض الثقة المثلى وفي أفضل الحالات فأنها تعطي الآخرين سببًا جيدًا للشك"(860). وأكد "دانييل ويتبي" أن الأغلبية الساحقة من القراءات المختلفة لا تؤثر على مصداقية الكتاب، فقال: "إن ندرة الأخطاء الواردة من قِبل ميل تتضمن مقطعًا من الإيمان أو تشكَّك في السلوكيات، وأن الأغلبية العظمى من اختلافات ميل لا تؤثر على الميثاقية"(861).
رئيس جامعة الثالوث في كمبردج، والخبير بالمخطوطات، أوضح أنه لو كان لأي كتاب مخطوطة واحدة ما ظهر فيها أي تغييرات في النص، ولكن عندما يكون للكتاب الواحد مخطوطتان أو أكثر، لابـد أن تطفو على السطح القراءات المختلفة، ولكن يمكن ضبطها ولا سيما في حالة زيادة عدد المخطوطات والوصول للنص الأصلي، فيقول: " كلما اُكتشفت مخطوطات أكثر وجدت قراءات مختلفة أكثر، ولكن زادت أيضًا احتمالية وجود مكان ما بين تلك الاختلافات يمكن فيه للمرء أن يكشف عن النص الأصلي، ولذا فإن التغييرات الثلاثين ألفًا التي كُشفت من قِبل "ميل" لا تُنقِص من سلامة العهد الجديد، بل أنها تؤمن المعلومات التي يجب على الباحثين العمل عليها لتأسيس النص، نص يكون مُوثقًا بشكل أكبر من أي نص آخر من العالم القديم"(862).
كما قال "ريتشارد بنتلي":
"أنا أجد فيَّ القدرة (على ما يراه النص مستحيلًا) لأعطي نسخة من العهد الجديد اليوناني مشابهة تمامًا لما كانت عليه النماذج الأفضل في وقت مجمع نيقيا... بحيث يصبح الكتاب الذي يُعتَقد من قِبل الإدارة الحالية أنه الكتاب الأقل ميثاقية يحظى بشهادة ميثاقية تسمو فوق الكتب الأخرى، وتضع نهاية مباشرة لكل القراءات المختلفة من الآن فصاعدًا"(863).
واعتمد "ريتشارد بنتلي" في حل مشكلة الاختلافات على المخطوطة الإسكندرية Codex Alexandrinus مع أقدم النسخ اللاتينية، حيث وجد تطابقًا كبيرًا، كما أن طول المدة التي أمضاها في دراسة ومقارنة المخطوطات أكسبته ثقة كبيرة في ضبط القراءات المختلفة، حتى قال أنه يستطيع أن يخفّض قراءات جون ميلر الثلاثين ألفًا إلى مائتي قراءة فقط، وهيَ ليست لها قيمة أيضًا، ولكن بنتلي لم يتمكن من الوصول لهذا العدد بسبب التزاماته الضخمة في جامعة كمبردج ومشاريع كتاباته الأخرى، فمات ولم ينجز ما كان يتمناه من تخفيض القراءات إلى مائتي قراءة مختلفة فقط.
وهو قس بروفيسور ألماني انشغل بالقراءات المختلفة التي سجلها وأحصاها جون ميلر بثلاثين ألف، واجتهد في حلها، ولجأ إلى فكرة تصنيف المخطوطات إلى عائلات، وبلا شك أن كل عائلة من المخطوطات تكون قد أُخذت من مصدر واحد، وبذلك تقل بينها القراءات المختلفة، وهو لاحظ التقارب بين أفراد كل عائلة.
وقد انشغل منذ شبابه بالقراءات المختلفة في العهد الجديد، وبدأ بداية حسنة، وانتهـى بنهاية سيئة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقيل عنه أنه في سن العشرين: "قدم أطروحة في جامعة بازيل عن اختلاف القراءات في نص العهد الجديد، حيث ناقش ويتشتاين البروتستانتي أن هذه الاختلافات لا يمكن أن تؤثر على ميثاقية وقوة الكتاب المقدَّس، والسبب: لقد وضع الله هذا الكتاب في العالم كأداة لكمال الشخصية البشرية، أنه يحتوي كل ما هو ضروري للخلاص سواء كان المعتقدات أو الوصايا. ولذا فإن القراءات المختلفة يمكن أن تؤثر في نقاط صغرى في الكتاب المقدَّس، ولكن الرسالة الأساسية تبقى سليمة، ولا يهم أي قراءة يستخدمها الشخص"(864).
ودرس "يوهان ج. ويتشتاين" المخطوطة الإسكندرية في إنجلترا أثناء رحلته التعليمية سنة 1715م، وشك فيما جاء في رسالة تيموثاوس الأولى: "وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (1تي 3 : 16) حيث جاءت كلمة "اللهُ" بالاختصار οΣ ولاحظ أن الشَّرطة داخل الحرف ثيتا θ أضيفت بقلم آخر، فظن أن أصل الحـرف هو أوميكرون ο، وبذلك يصبح الاختصار οΣ وهو اختصار كلمة "الذي" وبذلك يكون أصل العبارة "الذي ظهر في الجسد "فتشكَّك في ألوهية المسيح، دون أن يسأل هل كلمة "الذي" كانت تكتب بالاختصار أم لا؟! ودون أن يفكر في عشرات الآيات في العهد القديم والجديد والتي تحدثنا عن الوهية المسيح، وبلا شك لو كـان "يوهان ج. ويتشتاين" عاش لعشرينات القرن العشرين وأطلع على مخطوطات البردي التي تـم اكتشافها لكان له رأي آخر، وما كان يتشكَّك في إيمانــه، ويقول عنه "بارت إيهرمان": "مع هذه الصعوبات بدأ ويتشتاين بالتفكير جديًا في قناعاته اللاهوتية، وأدرك أن العهـد الجديد قلما يدعو المسيح بالله، وبدأ ينزعج من القساوسة والمدرسين في مدينة بازيل الذين كانوا يخلطون لغويًا بين الله والمسيح عندما كانوا يتكلمون على سبيل المثال عن الابن كما لو أنهم يتكلمون عن الآب... أثار هذا ضجة ضخمة بين زملاء ويتشتاين الذين أصبح عدد كبير منهم خصومًا له... وعندما دُعي ليُحاسب على آراءه أمام مجلس الكلية الأعلى وُجِد أن لدية آراء عقلانية ترفض الإيحاء التام (الوحي) للكتاب المقدَّس، ووجـود الشيطان والشياطين (إنكار الأرواح) وتركز الاهتمام على الغموض في الكتاب المقدَّس. لقد أُبعد عن الخدمة المسيحية وأُجبر على ترك بازيل"(865). وهكذا فقد "يوهان ج. ويتشتاين" إيمانه بسبب شكه في قضية ثابتة تقوم عليها المسيحية وهيَ قضية الوهية المسيح التي كانت موضع نبوات منذ العهد القديم، وصارت واضحة وضوح الشمس في العهد الجديد (راجع كتابنا: 5 - أسئلة حول ألوهية المسيح هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت).
أحصى القراءات المختلفة في العهد الجديد سنة 1864م، وقدَّر عددها بنحو 150 ألف قراءة مختلفة.
وقال الاثنان أن واحد من ثمانية (1/8) من هذه القراءات المختلفة يعتبر له قيمة، أما بقية الاختلافات فهيَ ليست ذات قيمة، لأنها تمثل اختلافات في النظر والسمع والذاكرة وما شابه ذلك، وجزء من ستين (1/60) من هذه القراءات المختلفة يعد ذو قيمة ويؤثر في المعنى.
يقول: "الحقيقة هيَ أن 95% من هذه القراءات المتنوعة تعوزها الأدلة... و 95% منها لا يؤثر على المعنى، لأنها إملائية أو نحوية أو ترتيب الكلمات. هذا يترك لنا نحو 400 "قراءة متنوعة" قد يكون لها تأثير طفيف على المعنى أو تتضمن إضافة كلمة أو كلمات أو حذفها. والقليل جدًا منها يمكن أن يعتبر هامًا، ولكن بحوث العلماء دلتنا على القراءة الصحيحة الموثوق بها"(866).
قال أن 0.1% (واحد في الألف) من هذه القراءات لها مغزى، 99.9% خالي من الاختلافات التي لها مغزى.
وهو المؤرخ الكنسي الشهير، وفي سنة 1890م قارن بين مخطوطات العهد الجديد باللغة اليونانية وبين الترجمة الأنجليزية، فوجد أن هناك (400) قراءة مختلفة فقط تؤثر على المعنى، وأن (50) منها فقط لها تأثير حقيقي، ولا توجد قراءة واحدة تؤثر علي أي عقيدة أو حقيقة إيمانية أو واجبات المسيحي.
قال في كتابه "الكتب والرقوق" أن: "القراءات المتنوعة في العهد الجديد لا تحتاج إلى تخمين لضبطها، فهناك شاهد واحد على الأقل بين آلاف الشواهد المضبوطة يحتفظ لنا بالقراءة الصحيحة"(867).
_____
(859) أورده القمص عبد المسيح بسيط - الكتاب المقدَّس هل هو كلمة الله؟ ص 70.
(860) أورده بارت إيهرمان - ترجمة فادي مرعشلي - الاقتباس الخاطئ عن المسيح ص 112.
(861) المرجع السابق ص 112، 113.
(862) أورده بارت إيهرمان - ترجمة فادي مرعشلي - الاقتباس الخاطئ عن المسيح ص 114.
(863) المرجع السابق ص 137.
(864) أورده بارت إيهرمان - ترجمة فادي مرعشلي - الاقتباس الخاطئ عن المسيح 144.
(865) المرجع السابق ص 145 - 147.
(866) أورده القمص عبد المسيح بسيط - الكتاب المقدَّس هل هو كلمة الله؟ ص 79.
(867) المرجع السابق ص 79.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/117.html
تقصير الرابط:
tak.la/h4wh7sd