ويقول " زينون كوسيدوفسكي": "ويستطيع القارئ المتمعن للتوراة المهتم بهذا الموضوع أن يتأكد دون أدنى صعوبة كثرة المتاهات والأخطاء فيها. فهذه المتاهات والأخطاء تظهر للعين المجردة ومن أقل قراءة. نحن نعرف مثلًا أن الإسرائيليين بعد انتصارهم الكبير على حِلف جنوب كنعان دمروا أورشليم وقتلوا سكانها كلهم، بينما تجد في نفس الوقت وفي الإصحاح التالي أن واضعي التوراة يحدثوننا بكل هدوء بأن أورشليم لم تُحتَل وأن اليبوسيين سكنوها في أيامهم"(1).
وهل استولى يشوع على كل أرض كنعان " فأخذ يشوع كل الأرض حسب كل ما كلم به الرب موسى" (يش 11: 23) أم أنه لم يستولي على كل الأرض بدليل قول الرب له " أنت قد شخت تقدمت في الأيام. وقد بقيت أرض كثيرة جدًا للامتلاك.." (يش 13: 1، 2)؟
ويقول الناقد أن الأسباط سكنت مع أصحاب الأرض فسبط يهوذا سكن مع اليبوسيين في أورشليم (يش 15: 63) وسكن الكنعانيون في وسط أفرايم (يش 16: 10) وفي وسط منسى (قض 1: 27) وفي وسط زبولون (قض 1: 30) وفي وسط أشير (قض 1: 31، 32) وفي وسط نفتالي (قض 1: 33) وحصر الأموريون سبط دان (قض 1: 34 - 36).
ج: 1- ضرب يشوع ضربته المؤثرة فقتل الملوك الذين تصدوا له وهزم جيوشهم، ومنهم " أدوني صادق " ملك أورشليم (يش 12: 10). إذًا يشوع قتل ملك أورشليم وهزم جيشه ولكن اليبوسيين ظلوا في يبوس (أورشليم) وظل جبل صهيون قلعة حصينة لهم ولم يقل يشوع قط أنه قضى على اليبوسيين، وبلا شك أن هناك فرق بين انهزام جيش في موقعة حربية وبين سقوط العاصمة، وقد أقرَّ يشوع بهذه الحقيقة قائلًا " وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم" (يش 15: 63) أي إلى يوم تسجيل هذا الخبر في أواخر حياة يشوع، وتكرَّر المعنى أيضًا في (يش 15: 8، 18: 16) فبعد موت يشوع طرد بنو إسرائيل اليبوسيين من أورشليم غير أن حصن صهيون كان مازال في أيدي اليبوسيين.
ويقول " المطران يوسف الدبس": "روى يوسيفوس أنهم افتتحوا المدينة السفلى، وقتلوا أهلها وأحرقوها بالنار، وكانت المدينة العليا محصنة فلم يفتتحوها، لكن النص صريح بأنهم افتتحوا أورشليم، فيطلق عليها كلها. ولذلك قال بعضهم أنهم افتتحوها ولم يتمكنوا من حفظها بل عاد اليبوسيون إليها، ولم يطردوهم منها، فلبثوا فيها مع بني بنيامين"(2).
ويقول " القمص تادرس يعقوب": "من جهة أورشليم فقد حاربوا أهلها واستولوا عليها، ودخلوا بادوني بازق فيها كأسير يموت هناك. غير أن الاستيلاء الكامل أو الدائم لهذه المدينة لم يتحقَّق إلاَّ في عهد داود النبي والملك (2 صم 5: 6، 7) إذ يُقال أن اليبوسيين سكان أورشليم (يبوس) الأصليين رجعوا حصنهم جبل صهيون ونزعوا المدينة عن يهوذا حتى إستولى إسرائيل عليها من جديد في أيام داود. ويرى البعض أن يهوذا أخذ المدينة ولم يأخذ الحصن الذي بقى في يد اليبوسيين حتى أيام داود الملك {وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار} (قض 1: 8).. أما إشعال المدينة بالنار فلا يعني حرقها تمامًا وإنما حرق جزء منها، كالقول بأن الثوب احترق، بالرغم من أن الجزء المحترق صغير. والدليل على ذلك أن المدينة بقيت يسكنها اليبوسيون مع يهوذا وبني بنيامين (قض 1: 21، يش 15: 63)"(3).
وبعد أن مرت السنون والأيام جاء داود الملك واستولى على يبوس وجعلها عاصمة لملكه، فبعد أن ملك في حبرون سبع سنين وستة أشهر " في أورشليم ملك ثلاثًا وثلاثين سنة" (2 صم 5: 5).
2- ما فعله يشوع أنه أزال مصدر الخطر في هذه البلاد وكسر شوكة الملوك والجيوش، فاستطاع شعبه أن يجد له مكانًا يسكن فيه آمنًا، ولكن هذه الشعوب لم تنقرض إنما بقى لها تواجد في طول البلاد وعرضها. بل كان يحدث أحيانًا أن بني إسرائيل يمتلكون بلدًا ويتركونه ليمتلكوا بلدًا آخر، فيعود أهل البلد الأول إليه، ويقوُّون حصونهم ويهاجمون بني إسرائيل، ولعل هذا يفسر لنا أن يشوع أو كالب كان يهاجم المدينة أكثر من مرة.
3- عندما قسم يشوع الأرض على الأسباط كان مازال بعض أصحاب الأرض يعيشون فيها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وكان عليهم تطهير الأرض من هؤلاء الأشرار بحسب وصية الله لعبده موسى " فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم... تملكون الأرض وتسكنون فيها لأني قد أعطيتكم الأرض لكي تملكوها... وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذي تستبقون منهم أشواكًا في أعينكم ومناخس في جوانبكم ويضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها" (عد 33: 52 - 55) ولكن الشعب تقاعس عن هذا لسبب أو لآخر.
ويقول " الأرشيدياكون نجيب جرجس": "عجز بنو يهوذا عن محاربتهم كان إما من خوفهم منهم وعدم إيمانهم الكامل، وعدم اتكالهم على الرب، وإما لتكاسلهم في الحرب، وإما لرغبتهم في التباهي والزهو وطمعًا في أن يجعلوا منهم عبيدًا لهم يسخرونهم في أعمالهم ويأخذون منهم الجزية، وقد سلكت بعض الأسباط الأخرى مسلك يهوذا فتساهلت مع بعض الشعوب الوثنية كما سنرى، وقد كانوا جميعًا مخالفين لوصية الرب لشعبه بطرد الشعوب الوثنية من الأرض (عد 33: 52 - 56) وبمرور الأجيال سببت هذه الشعوب عثرات روحية ومتاعب اجتماعية كثيرة لشعب الله"(4).
4- قال الرب ليشوع " أنت قد شخت وتقدَّمت في الأيام وقد بقيت أرض كثيرة جدًا للامتلاك. هذه هي الأرض الباقية. كل دائرة الفلسطينيين وكل الجشوريين.." (يش 13: 1 - 6) وذكر السفر بعض هذه المناطق مثل المدن الخمس الفلسطينية غزة وأشدود وأشقلون وجت وعقرون والتي تقع في جنوب أرض كنعان وشرق البحر المتوسط، ومقادة التي سكنها الصيدونيون وأرض جبل (جبيل) وجبل حرمون... إلخ فهذه الأرض لم يمتلكها بنو إسرائيل، وكان هذا بسماح من الله، إذ سمح بترك هؤلاء الأمم ليمتحن بهم طاعة شعبه له، وهذا ما جاء بيانه في سفر القضاة " فحمى غضب الرب على إسرائيل وقال من أجل أن هذا الشعب قد تعدوا عهدي... فأنا لا أعود أطرد إنسانًا من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته. لكي أمتحن بهم إسرائيل أيحفظون طريق الرب ليسلكوا بها كما حفظها أباؤهم أم لا. فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعًا ولم يدفعهم بيد يشوع" (قض 2: 20 - 23).
أما قول الكتاب " فأخذ يشوع كل الأرض حسب كل ما كلم به الرب موسى " فهو ينسحب على معظم الأرض التي امتلكوها فعلًا. أما بقية الأرض والتي قيل عنها "بقيت أرض كثيرة جدًا للامتلاك" فقد كان من المفروض أن تسعى الأسباط لامتلاكها، ولكنها تقاعست عن هذا، مع أن الله قد وهبها لهم مثلها مثل الأرض التي امتلكوها بجهاد يشوع، أما هم فقد تقاعسوا عن امتلاكها إما خوفًا من جهاد أو طمعًا في جزية كما رأينا من قبل.
_____
(1) الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 184.
(2) تاريخ الشعوب المشرقية في الدين والسياسة والاجتماع جـ 2 ص 198.
(3) تفسير سفر القضاة ص 19.
(4) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر يشوع ص 260، 261.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/958.html
تقصير الرابط:
tak.la/nw4z5wx