ج: 1- كان الطواف حول هذه المدينة بهذه الطريقة العجيبة اختبار لإيمان وطاعة الشعب، وليتعلم الشعب أن الحرب للرب والنصرة من عنده، فتقدم المقاتلون المسلحون الموكب، يتبعهم الكهنة الملتحين بثيابهم الطويلة ينفخون في أبواق فضية، وخلفهم تابوت العهد الذي يمثل الحضرة الإلهيَّة وسط الشعب، وأخيرًا جنود المؤخرة، وطاف هذا الموكب العجيب حول أسوار أريحا وبعيدًا عنها بمسافة آمنة تجنبًا للحجارة أو النبال التي يمكن أن تنطلق من أعلى الأسوار، وكل يوم كانوا يطوفون مرة واحدة حول المدينة وبدلًا من هجومهم على المدينة يعودون إلى معسكرهم، وهكذا تقرّر سير هذا الموكب العجيب ستة أيام، وفي اليوم السابع طافوا حول المدينة سبع مرات منذ الصباح الباكر، وفي كل هذا كان الجنود صامتون، ولم يكن هذا بالأمر السهل، ولكنه اختبار قوي لطاعتهم ومهابتهم الحضرة الإلهيَّة، ورغم أن قواهم أُنهكت في اليوم السابع إذ أنهم طافوا سبع مرات، ولكن شكوى أو تذمر لم يحدث قط بل بإيمان صدقوا الوعد الإلهي " لا ترهب وجوههم لأن الرب إلهك في وسطك إله عظيم ومخوف... ويدفعهم الرب إلهك أمامك ويُوقِع بهم اضطرابًا عظيمًا حتى يفنوا. ويدفع ملوكهم إلى يدك فتمحوا اسمهم من تحت السماء" (تث 7: 21 - 24) وفعلًا سقطت الأسوار، وأخذ بنو إسرائيل المدينة دون أن يفقدوا جنديًًا واحدًا " بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام" (عب 11: 30).
2- هذا الأسبوع كان يمثل الفرصة الأخيرة، وأبواق الإنذار تدوي كل يوم، لعل المدينة تعرف زمن افتقادها وتقدم توبة فتنجوا من الموت والهلاك والخراب، كما نجت مدينة نينوى العظيمة فيما بعد، ولكن للأسف لم تستفد أريحا من فرصة التوبة هذه.
3- كان من الممكن أن تُهدم الأسوار بكلمة واحدة من فم الله، ولكن الله شاء أن يشرك الإنسان في العمل، وإن كان عمل الإنسان بسيطًا لا يُذكر، ولكن يكفي الله إيمان هذا الشعب بأنهم سيمتلكون المدينة العظيمة المحصنة بقوة إله إسرائيل، أعطى الله الإنسان فرصة المشاركة في العمل حتى وإن كان لا يستطيع شيئًا إلاَّ مجرد رفع الحجر من على قبر اليعازر، فليفعل هذا وعندئذ يُبصر مجد الله الذي يقيم الميت الذي أنتَّن.
4- يقول " ف. ب. ماير " عن بني إسرائيل " كان يجب أن يتعلموا أن الأرض إنما هي هبة، تُنال بالإيمان لا بالجهاد. وكل ما أراده الله منهم هو أن يطيعوا، وينتظروا، ويثقوا، بينما القائد الإلهي قد تقدم بجنوده السماوية إلى القتال ليحرز النصر... {فقال الرب ليشوع. أنظر. قد دفعت بيدك أريحا وملكها جبابرة البأس. تدورون دائرة المدينة جميع رجال الحرب. حول المدينة مرة واحدة}.
يقينًا أن هذا كان أعجب منظر شهدته حامية محاصرة، فالجيوش التي حاصرت المدينة لم تحاول الهجوم، أو إقامة المتاريس أو تسلق الأسوار. ولم تحاول إعطاء فرصة للمفاوضات، أو المناقشة في شروط التسليم... وبلا إبطاء بداء جنود إسرائيل يدورون حول المدينة {تدورون دائرة المدينة} أليس الأحرى أن نقول بأن تابوت العهد دار حول المدينة، وأن رجال الحرب ساروا في أثره..؟ هناك نغمة تأكيد خاصة في الكلمات {فدار تابوت الرب حول المدينة}.
كان هذا بعد الفجر بوقت وجيز. ولم تكن الشمس قد ارتفعت في المشرق. وعندئذ خرج حشد عظيم من محلة إسرائيل وبدأ يتحرك. كان في المقدمة رجال الحرب، كل سبط تحت رايته، ثم سبعة كهنة متشحين باللباس الأبيض وضاربين بالبوق، ثم تابوت عهد الرب مغطى بأغطيته لإخفائه عن أعين الإسرائيليين والكنعانيين أيضًا، وأخيرًا سبط دان كمؤخرة للجيش.
أتجه هذا المحفل الغريب صوب المدينة، ملتزمًا الصمت التام، عدا الكهنة الذين يضربون بالأبواق بصفة مستمرة. لم يسمع أي صوت قط سوى صوت الأبواق. لم يسمع أي نداء أو تحد أو تعنيف أو أي هتاف كما يليق بمن يدعي لنفسه السيادة. بل كان كل الجيش يدور صامتًا حول المدينة... وعند انتهاء الدورة كان الكنعانيون يرون ما يذهلهم، فبدلًا من الهجوم المباشر المتوقع كان الجيش يعود إلى المحلة التي خرج منها منذ ساعة أو اثنتين. وينقضي باقي اليوم دون أقل حادث {هكذا فعلوا ستة أيام}.
وفي اليوم السابع تكرر الدوران حول الأسوار سبع مرات، وفي ختام المرة السابعة أرتفع صوت يشوع وسط سكون المساء وصرخ قائلًا {أهتفوا لأن الرب قد أعطاكم المدينة}. بعد ذلك ضرب الكهنة بالأبواق، وهتف الشعب هتافًا داويًا رددت أصداءه الجبال المجاورة، ورددته النساء والأطفال في المحلة، فسقطت أسوار أريحا في مكانها {وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه (مقابل وجهه) وأخذوا المدينة}"(1).
_____
(1) حياة يشوع ص 106 - 108.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/928.html
تقصير الرابط:
tak.la/g3pqrsq