ويقول " الخوري بولس الفغالي": "نلاحظ أننا هنا أمام ليتورجيا قديمة، وُجدت على ما يبدو عند الشعوب القديمة مثل الحثيين والمصريين، وأهل رأس شمرا، حيث بعل يدور حول المدن، في ذروة عظمته"(1).
ج: 1- أريحا وتعني " مدينة القمر " أو " مكان الروائح العطرية " حيث كثرت أشجار الفاكهة مثل البرتقال والموز، وأشجار الورد (سي 24: 18) وأشجار الجميز (لو 19: 4) والبلسم، وبسبب كثرة النخيل بالمدينة لذلك دُعيت باسم " مدينة النخل" (تث 34: 3، قض 3: 13).
وتقع أريحا غربي نهر الأردن بنحو ثمانية كيلومترات في منطقة تنخفض عن سطح البحر بنحو 250 مترًا، وتبعد أريحا عن البحر الميت بنحو 15 كيلومترًا، ومكانها الحالي تل السلطان غرب أريحا الجديدة بنحو ميل واحد، وكانت أريحا القديمة تقف شامخة تعتد بأسوارها الحصينة، بل وتهزأ بأية جيوش تحاصرها واثقة في متانة أسوارها، ولكن الأخبار أخذت تتوارد عن عزم بني إسرائيل للاستيلاء على المدينة متذرعين بقوة إلههم الذي لا يُهزم، فخاف شعب أريحا وذابت قلوبهم، ولاسيما عندما شق الله نهر الأردن وقت فيضانه وامتلاء شطوطه وعبر شعبه تجاه أريحا، لكن أهل أريحا ظلوا متشبثين بالمدينة على أمل أن الأسوار المنيعة ستحميهم من إله بني إسرائيل، وكان من الصعب أن يتغافل يشوع عن مدينة أريحا لأن العدو سيظل مختبأ خلف الأسوار، يتحيَّن الفرصة ليهجم عليهم. كما أن سقوط أريحا سيشيع الرعب في بقية المدن والشعوب مما يسهل على بني إسرائيل مهمة امتلاك الأرض. وإذ تلقى يشوع وعدًا إلهيًا بامتلاك مدينة أريحا آمن وصدق، وفعلًا انهارت أسوار أريحا بالإيمان وسقطت بدون حرب ولا قتال.
ويقول " دكتور سليم إلياس " عن أريحا " ومن أمنع المدن الحصينة في البلاد التي وقفت أمامهم تمامًا كانت مدينة أريحا العظيمة والغنية، على مسافة قصيرة من محلتهم في الجلجال. فعلى أطراف سهل خصيب غني بمختلف ثمار المناطق الحارة، حيث كانت القصور والهياكل التي كانت مباءة للترف والرذيلة وقفت تلك المدينة المتشامخة خلف استحكاماتها الهائلة تتحدى إله إسرائيل. كانت أريحا من المراكز الرئيسية لعبادة الأوثان وكانت مكرَّسة لعبادة عشتاروت إلهة القمر. وفي الهيكل تركزت كل القبائح، وأشنع وأفسد وأحط ما كانت عليه عبادة الكنعانيين. إن بني إسرائيل الذين مازالوا يذكرون النتائج المخيفة الناجمة عن خطيتهم التي ارتكبوها عند بعل فغور كانوا ينظرون إلى هذه المدينة الوثنية باشمئزاز ورعب"(2).
2- سقوط أسوار أريحا على يد يشوع بن نون حقيقة ثابتة شهد لها الكتاب المقدَّس بصراحة ووضوح وبشئ من التفصيل، فمثلًا ذكر الكتاب ترتيب الموكب الذي طاف حول أسوار أريحا لمدة ستة أيام في صمت، فتقدم الموكب رجال الحرب، يتبعهم الكهنة السبعة ممسكين بالأبواق، ثم الكهنة حاملي تابوت العهد، وأخيرًا الساقة أي جنود المؤخرة، وفي اليوم السابع طافوا سبع مرات، ثم ضربوا بالأبواق وهتفوا فأشاعوا روح الحماس والثقة لدى الشعب، كما أشاعوا الخوف والذعر في قلوب سكان أريحا، وجاءت ضربات الأبواق مع صوت الهتاف تعبيرًا عن الغضب الإلهي " لأن غضب الله مُعلن من السماء على جميع فجور الناس وأثمهم" (رو 1: 18).. " وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافًا عظيمًا فسقط السور في مكانه وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه وأخذوا المدينة" (يش 6: 20) وأكد العهد الجديد هذه الحقيقة عندما قال " بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طِيفَ حولها سبعة أيام" (عب 10: 30).
ويقول " دكتور سليم إلياس": "سار المحاربون في المقدمة وكانوا جماعة منتخبة، لا ليغزوا المدينة الآن بمهارتهم أو شجاعتهم بل ليطيعوا الأوامر الصادرة إليهم من الله، ويتبع هؤلاء سبعة كهنة يحملون أبواق الهتاف، وبعد ذلك أتى تابوت الله تحيط به هالة من المجد الإلهي وهو محمول على أكتاف الكهنة اللابسين اللباس الرسمي الذي يدل على وظيفتهم المقدَّسة. وتبع هؤلاء جيش إسرائيل، وكل سبط يسير تحت رايته. هذا هو الموكب الذي دار حول المدينة المحكوم عليها بالهلاك. لم يكن يُسمع سوى وقع أقدام الجبابرة وأصوات الأبواق التي كان يرن صداها في جوانب التلال وفي شوارع أريحا. فلما أتموا الدورة عاد رجال الجيش إلى خيامهم صامتين ووُضِع التابوت في مكانه في خيمة الاجتماع.
كان حراس المدينة يراقبون كل حركة بدهشة وهلع وأخبروا السلطات الحاكمة بكل شيء. لم يكونوا يدرون شيئًا عن معنى كل هذا العرض، ولكنهم عندما شاهدوا الجيش العظيم يدور حول المدينة مرة كل يوم ومعهم التابوت والكهنة الملازمون له، ملأ سر المشهد قلوب كهنة المدينة وشعبها رعبًا. ومرة أخرى فحصوا مراكز دفاعهم واثقين بأنها ستصمد أمام أعنف الهجمات. وقد سخر كثيرون منهم من الظن بأن أي ضرر يمكن أن يلحق بهم من هذه المظاهرات الشاذة، بينما خاف آخرون وهم يرون الموكب يدور دائرة المدينة مرة كل يوم. لقد ذكروا أن البحر الأحمر قد انشق يومًا أمام هذا الشعب، وأن مياه الأردن قد انفلقت فانفتح لهم فيه طريق وعبروا إلى اليابسة. ولم يكونوا يعلمون أية عجائب أخرى يمكن أن يصنعها الله لهم.
ظل الشعب طوال ستة أيام يدورون حول المدينة مرة كل يوم. فلما بزغ فجر اليوم السابع صف يشوع جيوش الرب. وفي هذا اليوم قيل لهم أن يدوروا دائرة أريحا سبع مرات، وعندما يسمعون أصوات الأبواق العظيمة، عليهم أن يهتفوا بصوت عظيم لأن الرب قد أعطاهم المدينة.
دار ذلك الجيش العظيم بوقار حول الأسوار الموصدة، وكان الجميع صامتين، فلم يكن يسمع غير وقع أقدامهم المنتظم وصوت البوق، في أحيان، مزعجًا سكون ساعات الصباح الباكرة. وقد بدا وكأن أسوار المدينة المبنية من الأحجار المتينة تتحدى أولئك المحاصرين. وكان حراس الأسوار يراقبون، وقد وقفوا على أطراف أصابعهم ليروا الشعب بعدما داروا حول المدينة الجولة الأولى وإذ بهم يدورون حولها مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة. تُرى ما الغرض من هذه الحركات الغامضة؟ وأية حادثة عظيمة تهددهم؟ لم يكن لهم أن ينتظروا وقتًا أطول، ففي نهاية الجولة السابعة توقف الموكب، وإذ بالأبواق التي صمتت أصواتها بعض الوقت تنطلق أصواتها عالية مدوية فتزلزل الأرض، وإذ بالأسوار المبنية بالأحجار المتينة وما فيها من حصون هائلة واستحكامات تهتز وتسقط من أساسها وبصوت تحطيم هائل تصير حطامًا، فشلَّ الرعب تفكير سكان أريحا وقواهم، وتقدمت جيوش إسرائيل وامتلكت المدينة"(3).
3- سقوط أسوار أريحا في عهد يشوع بن نون حقيقة ثابتة بشهادة الآثار، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فقد أمضى " جون جارستان " من جامعة ليفربول سنوات عمره في التنقيب، فعثر على أسوار أريحا، وسجل " أطلس أكسفورد " Oxford Atlas صورة هذه الأسوار، وقد كشف "جارستان" عن آثار سقوط الأسوار وحرق المدينة، وقد جمع نحو 100 ألف قطعة من الخزف المحطم، وأرجع ذلك إلى نحو سنة 1400 ق.م. كما تم اكتشاف بعض المقابر الأثرية شمال منطقة أريحا، وعُثر على نحو 80 جعرانًا أثريًا ترجع إلى عصر الفراعنة " حتشبسوت" و"تحتمس الثالث" و"أمنحوتب الثالث " الذي اعتلوا عرش مصر خلال الفترة 1413 - 1377 ق.م.(4).
ويقول " جوش مكدويل": "خلال أعمال التنقيب التي جرت في أريحا (1930 - 1936م) أكتشف جارستنج شيئًا مذهلًا، فأصدر بيانًا وقَّع عليه هو واثنان آخران من أعضاء فريق البحث يصف فيه هذا الاكتشاف. ويقول جارستنج فيما يتعلق بهذا الكشف: لقد أكدت الاكتشافات بما لا يدع مجالًا للشك أن الأسوار سقطت متجهة إلى الخارج حتى تمكّن الغزاة من الصعود على حطامها والدخول إلى المدينة. وتكمن غرابة هذا الحدث في أن أسوار المدن لا تسقط إلى الخارج بل إلى الداخل. ولكننا نقرأ في (يش 6: 20) {فسقط السور في مكانه وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه وأخذوا المدينة}. ومن ثم تكون الأسوار قد سقطت إلى الخارج(5).
ويذكر " بريانت وود " في صحيفة " الآثار الكتابية " عددًا من أوجه الاتفاق بين الكشف الأثري والنص الكتابي على النحو التالي(6)(7):
1- كانت المدينة محصَّنة للغاية (يش 2: 5، 7، 15، 6: 5، 20).
2- حدث الغزو عقب موسم الحصاد مباشرة في فصل الربيع (يش 2: 1، 3: 15، 5: 16).
3- لم تسنح الفرصة لسكان المدينة للهرب بمزاودهم (يش 6: 1).
4- كان الحصار قصيرًا (يش 6: 15).
5- سقطت الأسوار ربما بفعل زلزال (يش 6: 20).
6- لم تنهب المدينة (يش 6: 17، 18).
7- أُحرقت المدينة (يش 6: 24)".
ويقول " دكتور جون إلدر": "فإن كل مواصفات المدينة (أريحا) تتفق تمامًا مع ما ورد في سفر يشوع 2: 15، فقد كان يحيط بالمدينة جداران يتصلان من أعلى بوصلات عرضية مُقام عليها منازل سكنية، والجدران الآن ساقطة على الأرض في مكانها، وليست غائصة إلى أسفل، وهناك مدخل واحد للمدينة (يش 2: 5 - 7) والمدينة كلها محروقة بالنار كما يتضح ذلك من طبقة الرماد وبقايا الأخشاب المحترقة (يش 6: 24) ولكن الدلائل كلها تشير إلى أن المدينة لم تُنهب قبل إحراقها، فالقمح والعدس والبصل والبلح كلها وُجدت في صوامع من الطين، حتى العجين أُكتشف في أوانيه، لأن يشوع قد حرَّم أخذ أي شيء من المدينة (يش 6: 17، 18) وأخيرًا تشير الدلائل إلى أن المدينة المحترقة تركت كما هي دون أن يُبنى فوقها أي بناء لعدة قرون، وهذا يتفق مع لعنة يشوع التي أثبتها على من يحاول إعادة بناء المدينة " ببكره يؤسّسها وبصغيرة ينصب أبوابها" (يش 6: 26، 1 مل 16: 34) ولقد ثبت أيضًا أن خراب المدينة قد تم في حوالي نهاية القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وهذا يتفق تمامًا وتقرير الوحي المقدَّس بالعهد القديم"(8).
_____
(1) مسيرة الدخول - سفر يشوع والقضاة ص 34.
(2) الموسوعة الكبرى للمذاهب والفرق والأديان - أصل الديانة اليهودية ونشأتها ص176.
(3) الموسوعة الكبرى للمذاهب والفرق والأديان - أصل الديانة اليهودية ونشأتها ص 177، 178.
(4) راجع جون ألدر - ترجمة د. عزت زكي - الأحجار تتكلم ص 62، 63.
(5) Garstang , FBHJJ 146.
(6) راجع أيضًا جوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص 349.
(7) برهان يتطلب قرارًا ص 130، 131 .
(8) ترجمة د. عزت زكي - الأحجار تتكلم ص 83، 84.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/927.html
تقصير الرابط:
tak.la/wztry9c