يقول " الخوري بولس الفغالي": "كيف نفسر هذه المعجزة؟ يبدو أنه يمكن أن ترجع إلى عوامل طبيعية، ففي ليلة 7 - 8 كانون الأول سنة 1267م توقفت المياه في النهر بفعل انهيار، توقفت عن الانحدار نحو البحر الميت 16 ساعة، وكذا حصل سنة 1906م، وفي 11 تموز سنة 1927م حصلت هزة أرضية، فتوقفت مياه النهر عن الجريان 21 ساعة ونصف. ولكن المياه، في هذه الحالة، ما تُعتّم أن تفتح لها مجرى جديدًا"(1)
ويقول " زينون كوسيدوفسكي": "توقفت مياه الأردن فجأة... يسير الأردن هناك في واد ضيق جدرانه من الكلس... وتعاني ضفافه كثيرًا من الهزات الأرضية ذات المنشأ البركاني، لذلك حدث أكثر من مرة أن انهارت الجدران الصخرية على الوادي مُشكّلة بذلك سدًا يمنع سير المياه. ففي عام 1927م أُغلق وادي الأردن بسبب حادثة تشبه الحادثة التي نذكرها ولمدة يوم واحد تقريبًا، فتجمعت المياه إلى الشمال من تل الدامية، وفي الوقت الذي ضحلت فيه في الجزء الجنوبي وحتى البحر الميت لدرجة كان من الممكن معها عبور النهر في أي مكان دون أن تصل مياهه إلى الركبة. نستنتج من ذلك أنه إذا كانت تلك الظاهرة الخارقة للعادة قد حصلت فعلًا عند عبور الإسرائيليين لنهر الأردن، فإن الفضل فيها لا يعود ليهوه بل يعود لتقلبات الطبيعة في تلك المنطقة. لماذا لم يذكر مؤلفو التوراة ولا كلمة واحدة عن هزة أرضية وقعت؟ أظنهم فعلوا ذلك عمدًا... لم تختف قصة الهزة الأرضية تمامًا بل بقيت وذكرت في مواقع أخرى من التوراة... في المزمور الرابع عشر بعد المائة، وهو الذي يتحدث على الغالب عن عصر يشوع بن نون {الأردن رجع إلى الخلف. الجبال قفزت مثل الكباش والآكام مثل حملان الغنم}"(2).
ج: 1- معنى " المخاوض " أي المناطق التي يقل فيها منسوب المياه في النهر، فيستطيع الإنسان أن يخوض فيها ويعبرها وطبقًا لما ذكره " كوندر " أنه يوجد نحو ستين مخَاضة في نهر الأردن خلال المسافة بين بحر الجليل إلى البحر الميت والتي يصل طولها إلى 60 ميلًا، ومعظم هذه المخاضات تقع في المناطق شديدة الانحدار والتي تنحدر فيها مياه النهر بسرعة، وقليل من هذه المخاضات هو القريب من الطرق البرية، وهذه المخاضات تظهر في وقت الجفاف فقط، أما في موسم الفيضان فإن منسوب المياه يرتفع فتختفي هذه المخاضات تمامًا(3).
ويقول " القمص تادرس يعقوب": "توقيت عبور نهر الأردن كان دقيقًا، فنحن نعلم أن النهر مقابل أريحا حوالي 150 - 180 قدمًا عمقًا، وقد تم العبور أثناء الفيضان، ما بين شهري أبريل ومايو، فتكون المياه مضاعفة والنهر متسعًا في عرضه وشديدًا في سرعته"(4).
2- سواء حدث توقف لسريان المياه في مجري النهر عن طريق حدث طبيعي مثل هزة أرضية تسببت في انهيارات سدت مجرى النهر، أو بدون حدث طبيعي، فسيظل الإعجاز قائمًا في ارتباط توقيت الحدث باللحظة التي وطئت فيها أقدام الكهنة حاملي التابوت مياه النهر، ليس قبله وليس بعده، بل بمجرد أن انغمست أقدام الكهنة في مياه الأردن هربت المياه من تحت أقدامهم (يش 3: 15، 16، 4: 7) وأيضًا يظل الإعجاز قائمًا إذ أن المياه لم تعد إلى مجاريها بقوة إلاَّ بعد أن عبر الشعب كله بمواشيه وأغنامه وممتلكاته، وبعد أن حمل الاثني عشر رجلًا أثنى عشر حجرًا من القاع وخرجوا، وبعد أن خرج أخيرًا الكهنة حاملي التابوت (يش 4: 18).
3- لو كان الأمر مرتبطًا بهزة أرضية، فكيف عرف يشوع توقيت الهزة؟! وكيف أدرك قوتها التي ستوقع انهيارات كافية لسد مجرى النهر؟! وكيف تأكد أن هذا السدد سيستمر ساعات طويلة ربما النهار كله لكيما يعبر الشعب كل الشعب؟! وكيف يخاطر بتابوت العهد والكهنة فيجعلهم في قاع النهر، والمياه قد تندفع سريعًا وتغرقهم، وتحمل التابوت الذي كان يمثل الحضرة الإلهيَّة لهم إلى البحر الميت؟!!.
4- نحن نثق في كتابنا المقدَّس الذي علَّمنا الصدق والصراحة دون مواربة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فلو أن المياه توقفت بسبب هزة أرضية فمن المؤكد أنه كان سيخبرنا بهذا، فعندما اهتزت الأرض وقت صلب مخلصنا الصالح، وعادت واهتزت فجر القيامة ذكر الكتاب هذا بكل صراحة. أما قول الكتاب هنا " وقفت المياه المنحدرة من فوق وقامت ندًا واحدًا بعيدًا جدًا عن أدام المدينة التي إلى جانب صرتان" (يش 3: 16) فهذا يوضح أن المياه وقفت كسور بصورة معجزية بدون عائق، وهذا ما أوضحه السفر إذ أرجع هذا الحدث لقوة الله المتحكم في الطبيعة " لكي تعلم جميع شعوب الأرض يد الرب أنها قوية" (يش 4: 24) كما حدث في انشقاق البحر الأحمر عندما وقفت المياه كسور على اليمين وسور على اليسار. أما هنا فقد وقفت المياه كسور واحد على اليمين وجرت المياه التي على اليسار نحو البحر الميت.
5- تصوُّر كوسيدوفسكي بأن الأمر كله ناتج عن هزة أرضية ويخلو من الإعجاز، هو تصوُّر فقير عديم الحجة والسند الكتابي، ولم يكن " كوسيدوفسكي " هناك ليشهد على هذا، ولم ينقل على لسان أحد شاهد هذه الهزة وتلك الانهيارات. كما أن قوله بأن مؤلفوا التوراة قد تغافلوا هذا الأمر قول جانبه الصواب، لأن الحدث ذُكر في سفر يشوع وليس في التوراة، وأن التوراة ليس لها مؤلفين إنما موسى النبي هو الذي سجلها لنا، وأيضًا سفر يشوع ليس له مؤلفين إنما كاتبه واحد وهو يشوع بن نون، وأيضًا اعتماد زينون على ما جاء في المزمور 114 هو محاولة غير موفقة، فالمزمور يحدثنا عن بعض عجائب الله مع بني إسرائيل سواء شق البحر الأحمر " البحر رآه فهرب... مالك أيها البحر قد هربتَ" (مز 114: 3، 5) أو شق نهر الأردن " الأردن رجع إلى خلف... مالك أيها الأردن قد رجعت إلى خلف" (مز 114: 3، 5) فإن فسَّر زينون توقف مياه الأردن نتيجة هزة أرضية فكيف سيفسّر انشقاق البحر الأحمر؟! هل انشق البحر أيضًا بسبب هزة وانهيارات أرضية..؟!! كما أن المرنم استخدم الصوُّر التصويرية عندما قال " ما لكنَّ أيتها الجبال قد قفزتنَّ مثل الكباش وأيتها التلال مثل حملان الغنم. أيتها الأرض تزلزلي من قدام الرب من قدام إله يعقوب... المُحوّل الصخرة إلى غدران مياه. الصوان إلى ينابيع مياه" (مز 114: 6 - 8) فواضح أن المرنم كان يستخدم صوُّر تصويرية، والدليل على هذا أن الصخرة لم تتحوَّل إلى ينابيع مياه، أما المياه الغزيرة فقد نبعت من الصخرة الصماء. وأيضًا لاحظ تعبيرات " كوسيدوفسكي " التي تعتمد على الظن والترجيح وهي بعيدة عن روح اليقين " أظنهم فعلوا ذلك عمدًا".. " وهو يتحدث على الغالب".
6- يقول " ج. ت. مانلي " G.T. Manley: "وما أن توجهوا صوب مجرى الماء الرئيسي حتى نشف أمامهم حوض النهر، لقد صُدَّ المجرى في مساره بعيدًا جدًا عن مدينة أدام. وقد حُدَّد موقع هذه المدينة على بُعد ستة عشر ميلًا من أريحا صعودًا من النهر، ويتراءى من الراجح أن امتدادًا بطول عشرين أو ثلاثين ميلًا من حوض النهر تُرك جافًا. ومن طريف ما جاء على غرار الحادثة المدوَّنة في هذا الإصحاح ما وُجد في الصحائف التي خلفها مؤرخ عربي ويصف فيها كيف أنه في عام 1266م وعلى مقربة من تل الدامية التي يعتبرها كثير من الخبراء بأنها هي نفسها مدينة أدام تُرك حوض النهر جافًا لمدة عشر ساعات نتيجة انهيار أرضي. ويذكر غارستانغ (Garstang) حوادث أخرى مماثلة وقعت عام 1906م، وعام 1927م. إن هذه الحوادث قد تلمح إلى تعليل " طبيعي " لما حصل قبل قرون خلت، غير أن قبول ذاك التعليل لا ينتقص بأية حال من المداخلة الفائقة الطبيعية التي فتحت الطريق لإسرائيل في ذات اللحظة التي كان لزامًا عليهم أن يعبروا فيها. لقد كان الكهنة الذين وقفوا في حوض النهر الجاف ريثما عبرت الأمة قاطبة إلى الجانب الآخر، الآية الدالة على أن ما جرى كان من صنع الرب"(5).
_____
(1) التاريخ الاشتراعي - تفسير أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك ص 46.
(2) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 194، 195.
(3) راجع دائرة المعارف الكتابية جـ1 ص 162.
(4) تفسير سفر يشوع ص 73.
(5) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 1 ص 485.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/921.html
تقصير الرابط:
tak.la/q5s3vkh