يقول محمد قاسم " أنه جاء في كتاب " العرب واليهود في التاريخ"(1) الذي أورد تعليق " المارشال اللورد مونتجمري " على فترة التيه بأن موسى قد ربته أميرة مصرية وثقفته ثقافة عالية، وربما كانت له علاقة بالجيش المصري، وبالتالي فقد كان ماهرًا في الحكم على ما يمكن إنجازه في الحرب وما لا يمكن في ضوء الإمكانيات المتاحة، ولقد أدرك موسى أنه ليس في الإمكان تحويل شعب مستعبد إلى شعب مقاتل في مدة قليلة، وأنه لا بُد من توافر وقت كبير لإكسابهم روحًا جديدة وتربية جيل جديد مطعم بروح القتال ومدرب على الحرب، بعد موت المتبرمين القدامى من قومه. فإذا أقدم على غزو كنعان بدون استكمال مقومات الحرب الناجحة فأنه كان سيصاب بانتكاسات. وكان تجنب الانتكاسات أمرًا في غاية الأهمية، إذ أن الانتكاس في المعركة كان سيؤدي إلى فقدان الثقة في قيادة موسى. لذلك قرر موسى أن يؤجل خطته بالتقدم إلى أرض كنعان من الجنوب ويجعل بني إسرائيل يتنقلون في الصحراء مدة من الزمن تكفي لتحويلهم إلى قوة وطنية صلبة مدرَّبة على القتال"(2).
ج: 1- أخرج الله شعبه من أرض العبودية ليورثهم أرض الموعد حسبما وعد الآباء، فقد سبق وقال لإبراهيم " لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد" (تك 13: 15) وتكرَّر الوعد لإبراهيم في (تك 15: 18، 17: 8) وكرَّر الله الوعد لإسحق (تك 26: 4) وأيضًا ليعقوب (تك 28: 13، 35: 12) وعندما آن وقت تنفيذ الوعد قال الله لموسى " إني قد رأيت مذلة شعبي... وسمعت صراخهم... إني علمت أوجاعهم. فنزلت لأنقذهم... وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة. إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا.." (خر 3: 7، 8).
وأصعد الرب شعبه بيد قوية وذراع رفيعة وشق أمامهم البحر الأحمر وأغرق فرعون وكل جنوده، وبعد أكثر من عام وصل الشعب إلى برية فاران واقترب من أرض كنعان، ولكن بعد حادثة الجواسيس وتذمر الشعب وبكاءه ومحاولتهم العودة إلى مصر، وقد فقدوا إيمانهم بإلههم الصانع العجائب وحده، ورفضوا نداء يشوع وكالب اللذان قالا " إن سُرَّ بنا الرب يُدخلنا إلى هذه الأرض... لا تخافوا من شعب الأرض لأنهم خبزنا. قد زال عنهم ظلهم" (عد 14: 8، 9) عندئذ جاء الحكم الإلهي عليهم:
أ - بهلاك هذا الجيل " في القفر تسقط جثثكم. جميع المعدودين لكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدًا" (عد 14: 29).
ب- بالتيه في البرية أربعين سنة... ولماذا أربعون سنة بالتمام؟ لأن الجواسيس أمضوا في رحلتهم أربعين يومًا، فجعل الله سنة مقابل كل يوم من أيام التجسس " كعدد الأيام التي تجسَّستم فيها الأرض أربعين يومًا للسنة تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي" (عد 14: 34).
وكان الهدف من فترة التيه هذه تدريب الشعب ليس على القتال والمعارك، ولكن تدريبه على الطاعة، وغرس الإحساس في قلبه بوجود الله معه من خلال خيمة الاجتماع وتابوت العهد وعمود السحاب والنار، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وخلال هذه الفترة لم يتخلَ الله عن شعبه بل أعطاه المن السماوي والماء العجائبي المتفجر من صخرة صماء، بل أن ثياب الشعب لم تتهرأ وأحذيتهم لم تبلى، وتمتع الشعب العنيد بهذه الرعاية الإلهية الفائقة، وبعد انتهاء فترة التيه، صنع الله عجائب مع شعبه، فعبر بهم نهر الأردن وأسقط أمامهم المدن الحصينة، ومنحهم النصرة على الملوك العتاة، وأورثهم أرض الموعد.
2- لم يؤخر موسى شعبه عن دخول أرض الموعد، حتى تتحين له الفرصة لإعداده قتاليًا، فقد اعتاد موسى أن لا ينظر إلى الإمكانات البشرية بل تعود أن عينيه ترنو نحو المعونة الإلهية، شاهد على هذا وقفته أمام البحر وفرعون يسعى لإهلاك شعبه، وبينما كان موسى يطمئن الشعب " لا تخافوا قفوا وانظروا خلاص الرب... الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر 14: 13، 14) كان يصرخ لله في صمت " فقال الرب لموسى مالك تصرخ إليَّ" (خر 14: 15).أما قول مونتجمري القائد العسكري فهو قول متوقع لأنه يفكر بطريقة عقلانية، وهو القائد الذي خاض غمار الحروب، وتعلم كيف تكون له حساباته الدقيقة لكيما يكسب المعركة. بينما خروج بني إسرائيل من أرض مصر، وإعالتهم في برية سيناء أربعين يومًا، وتملكهم أرض الموعد فهو عمل إلهي معجزي فوق مستوى العقل البشري.
3- إني أتعجب من الناقد الذي يتساءل لماذا أتاه الله شعب بني إسرائيل أربعين سنة في البرية بالذات، ويفترض أن موسى أخَّر شعبه عن دخول أرض كنعان لأنهم غير مدربين على القتال، بينما القرآن الذي يؤمن به قد أقر قصة الجواسيس وأن رجلين من الجواسيس (يشوع بن نون وكالب بن يفنه) حفزا الشعب على دخول أرض الموعد، ولكن بقية الجواسيس مع الشعب قالوا أن هناك قومًا جبارون، فغضب الله عليهم وأتاههم أربعين سنة، فجاء في سورة المائدة قول موسى النبي لشعبه " يا قوم أدخلوا الأرض المقدَّسة التي كَتَبَ الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنَّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أَنعم الله عليهما أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. قالوا يا موسى إنَّا لن ندخلها أبدًا... قال (الله) فإنها مُحرَّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.." (سورة المائدة 21 - 26).
_____
(1) ص 490، 491.
(2) التناقض في تواريخ وأحداث التوراة ص 182.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/793.html
تقصير الرابط:
tak.la/8a7avsn