يقول الدكتور محمد بيومي " فهناك الكثير من النصوص التوراتية التي تقص مناقشات لا حصر لها بين الله وبين بني إسرائيل، وليت الذي ألَّف هذه المناقشات فطن إلى الاحتفاظ لها بما ينبغي أن تكون عليه من سمو ووقار، ولكنه أجراها على مستوى من السخف والتفاهة، لا يكون إلاَّ بين الأنداء الحمقى من بني البشر، وقد وصل الإسفاف في هذه المناقشات أحيانًا إلى الحد الذي جعل إله إسرائيل يسأل موسى ذات يوم قائلًا " حتى متى يهينني هذا الشعب" (عد 14: 11) ثم إلى حد التهديد بألاَّ يرى جميع الذين أهانوه الأرض التي حلف بها لآبائهم"(1).
ج: 1- اختص الله موسى النبي بمعَزة خاصة فكان يكلمه وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه، وشبه الرب كأن يعاين، حتى أن الله قال لهرون وموسى " إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استُعْلَن له في الحلم أُكلمه. أما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلم معه لا بالألغاز. وشبه الرب يعاين" (عد 12: 6-8) وعندما كان الله يتجلى في خيمة الاجتماع من خلال عمود السحاب كان " يكلم الرب موسى وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه" (خر 33: 11) وكان التقرير النهائي عن موسى النبي أنه " لم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه" (تث 34: 10) فكما أن الله عظيم في ارتفاعه هو أيضًا عظيم في اتضاعه، ومن اتضاع الله ومحبته أن يقبل أن يتحدث مع الإنسان ويتحاور معه... وقد سبق " فقال الرب هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله" (تك 18: 17) وكأن الله لا يستطيع أن يخفي عن إبراهيم ما سيفعله بسدوم وعمورة، وقال المرنم " سرُّ الرب لخائفيه" (مز 25: 14) وقال الله على لسان عاموس النبي " إن السيد الرب لا يصنع أمرًا إلاَّ وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء" (عا 3: 7) وبعد التجسد قال السيد المسيح لتلاميذه " لا أعود أسميكم عبيدًا لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يو 15: 15) فالأحباء الذين يتقبلون ببساطة تواضع الله لا يرون غضاضة من عبارة الله لموسى النبي " إلى متى يهينني هذا الشعب. وحتى متى لا يصدقونني " أما الذين مازالوا يعيشون بروح العبودية فأنهم يستكثرون على الله قولته هذه.
2- سبق لموسى أن تشفع لشعبه عقب عبادة العجل الذهبي، إذ أراد الله أن يفنيه، وكانت شفاعة موسى قوية ملتمسًا من الرب أن يصفح عن هذا الشعب، حتى أنه تجرأ وقال " والآن إن غفرت خطيتهم. وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 33) فهوذا الله يُشهِد موسى على خطية هذا الشعب وتذمره وعدم إيمانه، وكأنه يريد أن يقول له: هوذا الشعب الذي تتشفع عنه يهينني إذ لا يصدقني... هل يعجبك هذا يا موسى!!.
3- إن كان الله أشهد السموات والأرض والجبال على الإنسان فلماذا نستكثر أن يُشهِد موسى رئيس الأنبياء على خطية شعبه..؟! ألم يقل الله " اسمعي أيتها السموات واصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم. ربيت بنين ونشأتهم أما هم فعصوا عليَّ. الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه. أما إسرائيل فلا يعرف" (أش 1: 2، 3).. "اسمعي أيتها الأرض هأنذا جالب شرًا على هذا الشعب.." (أر 6: 19).. "يا أرض يا أرض اسمعي كلمة الرب" (أر 22: 29) وفي سفر حزقيال أشهد الرب الجبال والآكام والأنهار والأودية (حز 36: 4 - 15)؟!
4- يقول القمص تادرس يعقوب عن الله " كعادته لم ينفذ التأديب في الحال لكنه يعرض الأمر على نبيه موسى، ففي هذا كشف عن معاملات الله مع الإنسان، أنه يود أن يصادقه، يكشف له أسراره ويحدثه في تصرفاته خاصة مع البشرية... ولعل الله أراد بعرضه هذا الأمر على موسى أن يعطيه الفرصة لينذر الشعب لعلهم يقدمون توبة فيغفر لهم، أو لعله أراد أن يعطي فرصة جديدة لموسى النبي أن يشفع عن الشعب المقاوم له فيتزكى بالأكثر إذ يطلب لهم أكثر مما لنفسه. لقد وقف قبلًا أمام الله حين حمى غضب الله على شعبه وتشفع فيهم... (خر 32: 33) ففاق بحبه هذا في عيني الله عن كل ما فعله من آيات وعجائب، وتزكى في عيني السماء والأرض"(2).
5- يتكلم موسى مع الله بسجيته، وأيضًا يجهد كل طاقاته العقلية والقلبية دفاعًا عن شعبه، فتارة يتوسل لله أن يصفح عن الشعب أو يمحوا اسمه من سفر الحياة، وتارة يحتج بشماتة الشعوب إذا أفنى الله شعبه وأنه سيتفوَهون على الله قائلين أنه عجز عن أن يُدخل شعبه أرض كنعان لذلك قتلهم في البرية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولم يقصد موسى أن يُعلم الله أمرًا لا يعرفه، إنما يعلم بأن الله عالِم بكل شيء، فقط يريد أن يحرك مشاعر الله وعطفه وشفقته تجاه هذا الشعب، ويحرك غيرة الله على اسمه ومجده، وللمرة الثانية ينجح موسى في استصدار عفو إلهي عن الشعب، حتى وإن كان العفو هذه المرة لم يكن مطلقًا، إنما منح الشعب فرصة من الوقت حتى ينقرض فيه الجيل الخارج من مصر من سن عشرين سنة فصاعدًا، ويأتي بأولادهم ليملكوا أرض الموعد.
6- يقول الأرشيدياكون نجيب جرجس " فلو سمعت هذه الشعوب الوثنية أنك قتلت شعبك... فإن هذه الشعوب ستجدف على مجدك وعلى قدرتك وتظن أنك لم تقدر أن تدخل شعبك إلى أرض كنعان كما وعدت آباءهم، ولذلك قتلتهم في البرية. ما أعظم احتجاج موسى في شفاعته لأنه طلب من الرب أن يعفو عن شعبه، ليس لأجل محبته للشعب فقط، بل أيضًا من أجل مجده تعالى وسمعته بين الشعوب، لكي تتأكد جميع الشعوب من قدرته وصدق مواعيده وتمتلئ كل الأرض من معرفة الرب ومخافته"(3).
_____
(1) تاريخ الشرق الأدنى القديم - تاريخ اليهود ص 237.
(2) تفسير سفر العدد ص 87.
(3) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر العدد ص 209، 210.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/791.html
تقصير الرابط:
tak.la/bw5b7fk