ج: 1- تربى موسى في قصر فرعون، وعاش كأمير حياة أرستقراطية، ودرس في المعابد، وتعلم حكمة قدماء المصريين، وكان ينتقل بعربة تجرها الخيول السريعة، ويبحر في النيل بزورق فرعون، وقال البعض أنه تعلم فنون القتال حتى صار قائدًا عسكريًا، فيقول يوسيفوس عندما أغار الأثيوبيون على مصر وهدَّدوا مدينة منف، قاد موسى حملة أكتسح بها جيش الأثيوبيين، ووصل إلى عاصمتهم "موروا" التي تقع بين عطبرة ونهر النيل، وعاد إلى مصر مُحمَّلًا بالغنائم(1).
لكن لم يجد موسى راحته وآماله ومستقبله في قصر فرعون وكان يؤرقه منظر أبناء شعبه، والسياط تلهب ظهورهم المنحنية على التراب والقوالب الخشبية، ويعيش داخله قصة شعب الله. وفي أحد الأيام رأى أحد المصريين وربما كان من المراقبين لعمل الإسرائيليين، رجل له قلب الحجر، وقد أخذ يضرب أحد العبرانيين بلا رحمة، فلم يتمالك موسى نفسه، وإذ لم تكن هناك عين بشرية ترقبه، تعدى على هذا الرجل بالضرب، وربما دافع الرجل عن نفسه، وأشتبك مع موسى في معركة لقى مصرعه خلالها، فدفن موسى الرجل المصري في الرمال التي حفظت سره، أما الخبر فقد شاع بين العبرانيين الذين أخذوا يتفاخرون بهذا الأمير العادل، وفي اليوم التالي عندما نبه موسى أحد العبرانيين لظلمه لأخيه، قال له: من جعلك رئيسًا وقاضيًا علينا؟ أتفكر أنت بقتلي كما قتلت المصري بالأمس؟ وفاق موسى على هول الصدمة، فلا بد أن فرعون سيعلم بما كان، فأسرع بالفرار بجلده، وربما أستخدم عربة سريعة لكيما تنقله إلى تخوم مصر الشرقية، وعادت أدراجها، بينما هو أستكمل مسيرته على غير هدى، غير أنه كان يعرف أن هناك شعبًا مديانيًا يقيم في صحراء سيناء ينتسب إلى مديان أحد أبناء إبراهيم من زوجته قطورة، وبما أن موسى من نسل إبراهيم إذًا هناك صلة قرابة بينهم، وسار موسى نحو أراضيهم.
وبعد جهد جهيد وصل إلى أحد الآبار وجلس يتأمل فيما جرى وما كان، وإذ بسبع فتيات آتين ليستقين ماء لقطيعهن، وإذ شرذمة من الرعاة يأتون ويطردون الفتيات بوقاحة ويسخرون منهنَّ، فما كان من موسى إلاَّ أن تحركت فيه الشهامة، وتصدى لهؤلاء الرعاة، ورغم أنه كان مُجهَدًا من مشقة السفر الطويل إلاَّ أن هؤلاء الرعاة هربوا من أمام وجهه، وعادت الفتيات إلى البئر يسقين قطيعهن، ثم عدن إلى بيتهن، وقصصن لأبيهن ما كان، فما كان من يثرون والدهن كاهن مديان إلاَّ أن دعى هذا الرجل الشهم واستضافه، وعرض عليه أن يقيم معه يساعد في رعاية القطيع، فقبل موسى، ثم تزوج من ابنته صفورة.
وتغيَّرت حياة موسى بحسب المقاصد الإلهية فالرجل الذي عاش حياة أرستقراطية في قصر فرعون الذي يعج بالرجال والأحداث يأمر وينهي، وجد نفسه وحيدًا يجلس ربما على حجر هكذا معظم النهار متأملًا في أغنام قطيعه، وبالليل يتطلع إلى القبة الزرقاء التي زينها الخالق بالنجوم، وكان يفكر في حياته: كيف نجى من الموت غرقًا وهو طفل رضيع، وكيف عاش كأمير في قصر فرعون، وكيف آلت حياته إلى ما عليه الآن، ومع مرور الأيام أخذت الصورة الأولى التي عاش فيها كأمير تبهت في حياته، وعاش الواقع، بل بدأ يشعر بالفخر عندما يستمع للمديانيين يمدحون جدهم إبراهيم، وكيف أمضى غربته في الخيام، وكيف اجتاز الامتحان تلو الامتحان بنجاح باهر، وكيف قطع العهد وتلقى الوعود من إله السماء... عاش موسى يسنده إيمانه بإله أبيه إبراهيم، وتتلمذ في مدرسة البرية، وعاش مع زوجته المحبة صفورة حياة بسيطة متواضعة، ورزقه الله بطفلين، ومضى عليه في هذه الغربة أربعين سنة إلى أن نظر ذاك المنظر العجيب، شجرة خضراء تلتهب بالنار ولا تحترق، فاقترب ومال لينظر هذا المنظر العجيب، وسمع صوت الله يطالبه بالعودة إلى مصر ليطلق شعبه من العبودية للحرية، وعاد موسى إلى مصر ليجد أخيه هرون في استقباله، والتقى الاثنان بشيوخ إسرائيل الذين سجدوا لله شكرًا لأنه أفتقد شعبه، والتقى موسى وهرون بفرعون مطالبين بتنفيذ رغبة يهوه في إطلاق الشعب ليعبدوه في البرية، ولم يستجب فرعون بل منع التبن عن الشعب وطالبه بنفس الأداء السابق، فغضبوا من موسى وهرون لأنهما لم يحققا الخروج، بل جلبوا عليهم متاعب شديدة، وتتتابع الأحداث.
2- أما عن خوف موسى، فعندما أكتشف موسى ذيوع أمره خشى من فرعون، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. " فخاف موسى وقال حقًا قد عُرف الأمر" (خر 2: 14) وتوقع موسى أن الخبر سيصل سريعًا إلى فرعون، وهذا ما حدث بالفعل " فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يقتل موسى" (خر 2: 15) لقد خاف موسى ليس على نفسه بقدر خوفه على فشل رسالته التي كان يحلم بها تجاه خلاص شعبه، ومع هذا فإن موسى لم يرتبك، ولم يقل في نفسه أنني مائت مائت، ومن يهرب من يد فرعون؟! حقًا أن الخوف يشل قدرة الإنسان على التفكير، ويفقده حسن التصرف ويسلمه للانهيار. أما موسى القائد الشجاع فقد وضع ثقته في إلهه، وترك مصر وهو غير خائف من غضب الملك الذي قد يفتش عليه في كل شبر حتى يعثر عليه ويقتله، وهذا ما أشار إليه معلمنا بولس الرسول عندما قال " بالإيمان ترك مصر غير خائف من غضب الملك لأنه تشدد وكأنه يرى من لا يُرى" (عب 11: 27) لقد رأى يد الله الحافظة تحيط به وتحميه، وأدرك أن حياته في يد إلهه وليست في يد فرعون على الإطلاق... أنه الإيمان الذي نزع الخوف الطبيعي من قلب موسى رجل الله.
_____
(1) راجع ف.ب ماير - حياة موسى ص 22.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/578.html
تقصير الرابط:
tak.la/6nv3cbt