يقول جيمس فريزر أن الإنسان البدائي اعتقد أن دم القتيل يلوث القاتل، والقاتل يلوث الأرض، ولذلك فرض قانون "أتيكا" على الإنسان المتهم بالقتل بأن يحضر إلى بلده على ظهر سفينة ويظل عليها يدافع عن نفسه، فلا يُسمح له بالنزول على الأرض، ولا يُسمح للسفينة بأن تنزل مرساها على الأرض، ولا يُسمح للقضاة الاتصال بالمتهم، وكذلك يعد القاتل عند سكان مراكش بالمغرب شخصًا نجسًا، ينضح السم من تحت أظافره، فلا يُسمح له بالسير في حقول الخضر، ولا حدائق الفاكهة، ولا يدخل مخازن الغلال، ولا يأكل أحد من لحم الحيوان الذي يذبحه القاتل، بل أن الأرض تطرده إلى المتاهات الكالحة حيث يهيم بلا مأوى أو طعام، لأن الأرض ذات الألوهية قوية فلا تهدأ من دم القتيل إلاَّ بتقديم الذبائح لها، ففي إقليم "البوبو" يقدم القاتل شاتين وكلبًا وديكًا لزعيم القرية التي يقدمها بدوره ضحية للأرض الغضبى، حتى لا تقتل القاتل وكل أسرته(1).
ثم يقول جيمس فريزر أن القاتل يظل مطاردًا من شبح القتيل، وكذلك في قبيلة "نيلوتيك كافيروند" يُعزل القاتل لمدة ثلاثة أيام في كوخ، تطعمه امرأة عجوز لأنه لا يجوز له أن يلمس الطعام، وفي اليوم الرابع يأتي قاتل سابق فيصطحب هذا القاتل الحديث إلى مجرى مائي ويغسل له جسمه، ويذبح نعجة، ويلف شريطًا من جلدها حول رقبة القاتل، وكذلك حول كل معصم يلف شريطًا، كعلامة يأمن بها القاتل من شبح القتيل، ومن عادات "اليابيم " عندما يقبلون دية القتيل يضعون على جبهته علامة بالطباشير حتى لا يتعرض لخطر شبح القتيل، وفي قبيلة "بارياكان" يضع القاتل في المعارك ريشًا أحمر من ريش ذيل الببغاء على رأسه، ويصبغ جبهته باللون الأحمر، حتى ينجو من مطاردة روح القتيل له، وفي قبائل "البانتو" يحلق القاتل رأسه ويدلق جسده بروث البقر حتى ينجو من مضايقات شبح القتيل، والمحاربين من "الماساى " عندما يقتلون بعض الهمجيين، يطلون النصف الأيمن من أجسادهم باللون الأحمر، والنصف الأيسر باللون الأبيض، وفي قبيلة "داجوجو" يرسم القاتل دائرة حمراء حول عينه اليمنى، وأخرى سوداء حول عينه اليسرى، والهنود "الطومسونيين " الذين يقتلون أعدائهم يطلون وجوههم باللون الأسود، والهنود "التشينوكيين" يطلون وجه القاتل بالفحم المعجون بالشحم، وبعد خمسة أيام يزيل القاتل الفحم ليطلي وجهه باللون الأحمر، وعند الفيجيين يطلي الملك جسم القاتل بالكركم، ويعتزل القاتل في كوخ ثلاث ليال لا ينام فيها مستلقيًا(2).
وأيضًا يفترض جيمس فريزر "أن الرب يكون بذلك علَّم قايين بعلامة حمراء أو بيضاء، أو سوداء، وربما مزج بين هذه الألوان ليكون لونًا مناسبًا فعلَّمه به... إن تفسير علامة قايين على هذا النحو من شأنه أن يخلص القصة التوراتية من السخف الواضح فيها. فإن تفسير العلامة بأن الرب علَّم قايين بها لكي يحول بينه وبين أن يُقتل على يدي إنسان آخر، فيع إغفال لحقيقة أنه لم يكن على وجه الأرض من يقتله، حيث أن الأرض لم تكن يُعمّرها آنذاك سوى القاتل ووالديه. أما إذا تبنينا التفسير الذي مؤداه أن العدو الذي كان يخشاه القاتل هو شبح القتيل وليس إنسانًا حيًا، فإننا نتحدث بذلك التهاون التهاون الوقح الممثل في اتهام الرب بزلة في ذاكرته، الأمر الذي لا يتلاءم كلية مع صفات الرب العالم بكل شيء ".
ويقول زينزن كوسيدوفسكي أنه جاء في سفر التهاليل الأبوكريفا "في نهاية ذلك اليوبيل قُتل قايين بعده بعام، وسقط بيته عليه، ومات في وسط بيته، وقُتل بحجارته لأنه قتل هابيل بحجر، ولذلك قُتل هو بحجر قصاصًا وعدلًا. ولذلك كُتب في الألواح المسمارية Cuneiform، الأسلحة التي يقتل بها الإنسان رفيقه سيُقتل. مثلما جرحه، كذلك فأنهم سيجرحونه".
عندما يصمت الوحي الإلهي عن توضيح العلامة التي جعلها الله لقايين، فلا يحق لإنسان أن يتصور من ذاته ما كانت عليه هذه العلامة، ويروح يتصوَّرها تارة بألوان يصبغ بها الوجه أو العينين، أو ريشة ببغاء حمراء توضع على الرأس... إلخ من تخيلات وأساطير وخرافات لا يقبلها العقل.
كيف يدَّعي النُقَّاد أن سفر التكوين أخذ من أساطير الأولين، وراحوا يوردون علامات وعلامات، بينما سفر التكوين أصلًا لم يوضح ماهية هذه العلامة، فعلى أي شيء بنوا مقارناتهم؟! هل بنوها على الأساطير التي ذكرت علامات شتى من جهة وسفر التكوين الذي لم يوضح ماهية هذه العلامة من جهة أخرى؟ وهل تصح مثل هذه المقارنة؟!
يقول أبونا الحبيب القمص تادرس يعقوب "أما العلامة التي قدما الله لقايين حتى لا يقتله كل من وجده، فربما تشير إلى علامة الصليب التي فيها يختفي الخاطئ ليجد أمانًا وسلامًا خلال مصالحته مع الله. هذه هي العلامة التي يوسم بها أولاد الله الذين لا يطيقون الرجاسات فتحفظهم من الملاك المهلك كما رأى حزقيال النبي (حز 9: 6) ويرى القديس أوغسطينوس أنها علامة العهد الذي وهب لرجال العهد القديم كظل للصليب، معلنًا في ناموسهم وطقوسهم، أو يقول (هذه العلامة لليهود إذ أمسكوا بناموسهم واختتنوا وحفظوا السبوت وذبحوا الفصح وأكلوا خبزًا غير مختمر) ".
قال الرب لقايين القاتل "تائهًا وهاربًا تكون في الأرض" (تك 4: 12) وللوقت شعر قايين بالتيهان والخوف والرعبة، ولذلك "قال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يُحتمل. إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض ومن وجهك أختفي وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض. فيكون كل من وجدني يقتلني" (تك 4: 13،14) ولا عجب فإن "الشرير يهرب ولا طارد" (أم 28: 1) ولا بُد أن قاين شك في محبة والديه وأخوته الذي ولدوا أو الذين سيولدوا، لأن الخطية تشوُّه صورة المحبة، وتؤدي إلى فقدان الثقة بين الأخوة، والآباء، ولذلك شك في أن والده، أو أحد إخوته سيقتله، أو أحد الحيوانات سيفترسه، ولذلك طمأنه الله الرحوم "فقال له الرب لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف يُنتقم منه. وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده" (تك 4: 15).
نحن لا نعترف بما جاء في التهاليل الأبوكريفا لأنها مجرد جهود بشرية شابتها الأخطاء، فهي لا تدخل ضمن الأسفار القانونية، ولا توضع بمحاذاتها، وليس من المعقول أن الله الذي أراد أن يحفظ قايين من القتل بأيدي إنسان، يسمح بأن يُقتَل بحجر سقط عليه من بيت منهار.
ننتهز هذه الفرصة لإلقاء الضوء قليلًا على سير جيمس فريزر (1854 - 1941م) فقد وُلِد في مدينة "جلاسجو " باسكتلندا شمال المملكة المتحدة، ودرس الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة كمبردج حتى نهاية حياته، وقد تزوج "جيمس فريزر " من "اليزابث جروف " سنة 1896م التي ساندته في حياته العلمية، ولاسيما في أواخر حياته عندما فقد بصره.
وقد ارتبط اسم "جيمس فريزر " باسم كتابه "الغصن الذهبي " The Golden Baugh الذي كتبه خلال المدة 1890 - 1910م في 12 مجلدًا، وهو عبارة عن دراسة مقارنة في فولكلور المجتمعات البدائية، ومقارنته بما جاء في الكتاب المقدَّس. وقد تأثر جيمس فريزر بنظرية "ادوارد تايلور" (1832 - 1917م) الذي اعتبر أن الدين تطور من عمل الإنسان، ولذلك اعتقد فريزر أن الفكر البشري تطوَّر خلال ثلاث مراحل هي:
1- السحر؛ 2- الدين؛ 3- العلم.
فالدين في نظر فريزر هو مرحلة متطورة لمرحلة السحر، وفي العصور الوسطى تطوَّر الفكر الديني إلى الفكر العلمي، واعتبر فريزر أن الدين هو من صنع الناس الأذكياء بقصد السيطرة على بقية أفراد المجتمع.
وقال العلماء عن جيمس فريزر أنه من أصحاب "علماء المقاعد المريحة " Armchair Scientists الذين اكتفوا بجمع معلوماتهم من كتابتا الإرساليات والبعثات التبشيرية، وبعضها كُتب بطريقة غير دقيقة، حيث أنهم لم يستندوا في جمع معلوماتهم على دراسات ميدانية حقلية، والتي تعتبر الشرط الأساسي لقيام علم الأنثروبولوجي في شكله الصحيح.
ولجيمس فريزر عدة مؤلفات أخرى مثل:
الإله الميت The Dying God (سنة 1911م).
عقيدة الخلود وعبادة الموتى، وكُتب في ثلاث مجلدات خلال الفترة 1913 - 1924م.
الفولكلور في العهد القديم (1919م) وقد ترجمته للغة العربية الدكتورة نبيلة إبراهيم، وجاءت ترجمة متحيزة، ويقول الأستاذ رشدي السيسي "كما يزعم جيمس فريزر في كتابه المشوش (الفولكلور في العهد القديم) وهو عبارات عن أشتات المعلومات، التي لا ترقى بما كتبه هذا الرجل، ومن نسج على منواله، إلى مصاف البحوث التي تتغلغل إلى الأصول، وتتشعب منها أو معها إلى الفروع وتستقصي العلل، وتقيم على أُسسها النتائج والأحكام، ثم تسويتها جميعًا إلى القارئ، في تعمق وتدقيق وأمانة لا محيص عنها لكل باحث " كما يعلق الأستاذ رشدي السيسي على الترجمة العربية لكتاب الفولكلور فيقول "في ترجمة محرَّفة غير أمينة لكتاب بعنوان (الفولكلور في العهد القديم) لمؤلفه "جيمس فريزر " تقول المترجمة المتحاملة... ".
_____
(1) راجع الفولكلور في العهد القديم ج1 ص187 - 195.
(2) راجع الفولكلور في العهد القديم ج1 ص198 - 210.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/287.html
تقصير الرابط:
tak.la/3frck83