س 1706: قال داود النبي: "بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ. مُحْرَقَةً وَذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ لَمْ تَطْلُبْ" (مز 40: 6)، فلماذا أقتبسها بولس الرسول بصورة مختلفة: "لِذلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ ذَبِيحَةً وَقُرْبَانًا لَمْ تُرِدْ وَلكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا" (عب 10: 5)، حتى أن آدم كلارك قال أن المتن العبري تعرَّض للتحريف؟
ج: قال داود النبي: "بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ. مُحْرَقَةً وَذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ لَمْ تَطْلُبْ" (مز 40: 6).
و" أُذُنَيَّ فَتَحْتَ" جاءت بنفس اللفظ في "الترجمة اليسوعية"، وجاءت في "ترجمة كتاب الحياة": "وهبتني أذنيــن صاغيتين مطيعتيــن"، وفي "الترجمة العربية المشتركة": "لكن أذُنانِ مفتوحتانِ وهبتني".
وبولس الرسول أقتبس بإرشاد من الروح القدس من "الترجمة السبعينية" وهيَ كما نعلم ترجمة تفسيرية تهتم بتوضيح المعنى فعبـارة " أُذُنَيَّ فَتَحْتَ" جاءت " جسدًا هيأتَ لي"، وفي هامش الطبعة البيروتية جاء مقابل عبارة " أُذُنَيَّ فَتَحْتَ" أنها وردت في السبعينة: "جسدًا هيأتَ لي". ومن السبعينية أخذت "الترجمة القبطية" التي جاء فيها: "أخبرتُ وتكلمتُ. كثُرتْ أكثر من العدد. ذبيحةً وقربانًا لم تشأ. بل جسدًا هيأتَ لي. المحرقات والتي من أجل الخطية لم تسرَّ بها"، فجاءت عبارة بولس الرسول: "لِذلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ ذَبِيحَةً وَقُرْبَانًا لَمْ تُرِدْ وَلكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا" (عب 10: 5).
وهنا يبرز السؤال: ما هـيَ علاقة " أُذُنَيَّ فَتَحْتَ" بعبارة " هيأتَ لي جسدًا"؟ والحقيقة أن فهم هذه العلاقة سيفتح أمامنا آفاقًا رائعة:
أ - كانت الشريعة تنص على تحرير العبد العبراني في السنة السابعة أو سنة اليوبيل أيهما أقرب: "إِذَا اشْتَرَيْتَ عَبْدًا عِبْرَانِيًّا فَسِتَّ سِنِينَ يَخْدِمُ وَفِي السَّابِعَةِ يَخْرُجُ حُرًّا مَجَّانًا" (خر 21: 2). أما إذا أحب العبد سيده وأراد أن يُكرّس نفسه لخدمة هذا السيد المحبوب، فإن السيد يثقب أذن العبد دلالة على أن العبد قبِل بإرادته أن يكون عبدًا له إلى الأبد: "وَلكِنْ إِنْ قَالَ الْعَبْدُ أُحِبُّ سَيِّدِي وَامْرَأَتِي وَأَوْلاَدِي لاَ أَخْرُجُ حُرًّا. ُقَدِّمُهُ سَيِّدُهُ إِلَى اللهِ وَيُقَرِّبُهُ إِلَى الْبَابِ أَوْ إِلَى الْقَائِمَةِ وَيَثْقُبُ سَيِّدُهُ أُذْنَهُ بِالْمِثْقَبِ فَيَخْدِمُهُ إِلَى الأَبَدِ" (خر 21: 5، 6)، وهذا هو معنى " أُذُنَيَّ فَتَحْتَ" (مز 40: 6)، أي قبلت العبودية الدائمة بمحض إرادتي.
ب - حملت عبارة " أُذُنَيَّ فَتَحْتَ" معنى نبوي، لأنها إشارة لابن الله المتجسد الذي ارتضى أن يصير عبدًا من أجلنا: "لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ" (في 2: 7)، فالابن قَبِلَ أن يصير عبدًا... كيف؟ أنه ارتضى أن يلبس جسدنا البشري، لذلك يقول الأبن للآب: "هيأت لي جسدًا"، فقبول الابن لهذا الجسد البشري يعني قبوله للعبودية دائمًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. تمامًا مثلما يقبل العبد ثقب أذنه دلالة على قبوله التكريس الكامل المستمر لخدمة سيده. إذًا الترجمة السبعينية نجحت تمامًا في نقل معنى التكريس الذي تضمنه النص العبري والذي يشير إلى السيد المسيح العبد المتألم، فعبارة داود النبي صحيحة، وعبارة بولس الرسول تعبر عن المعنى بأجلي بيان، وكل من داود النبي وبولس الرسول كتب بوحي وإرشاد الروح القدس.
جـ- فسرَّ إشعياء النبي انطباق نبوءة داود " أُذُنَيَّ فَتَحْتَ" (مز 40: 6) على ابن الله الذي لبس جسدنا وأطاع حتى الموت، موت الصليب، فقال: "السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ لِي أُذُنًا وَأَنَا لَمْ أُعَانِدْ. إِلَى الْوَرَاءِ لَمْ أَرْتَدَّ. بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ" (إش 50: 5، 6).
د - جاء في " كتاب الهداية" أنه في التراث الإسلامي: "يجوز النقل بالمعنى، وقرَّر علماء الأصول كما في " جمع الجوامع " جزء (2) صحيفة (113) أنه يجوز نقل الحديث بالمعنى للعارف بمدلولات الألفاظ أو مواقع الكلام بأن يأتي بلفظ بدل آخر مساوٍ له في المراد منه وفهمه لأن المقصود المعنى واللفظ... وهذا الكلام يشمل الأحاديث القدسية، ومن الأدلة السمعية على جواز نقل الحديث بالمعنى ما روى الطبري وغيره من حديث عبد الله بن سليمان الليثي بأن قلت: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث ولا أستطيع أن أرويه كما أسمعه منك يزيد حرفًا وينقص حرفًا، فقال إذا لم تحلُّوا حرامًا، ولم تحرّموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس. فذكر تلك للحسن فقال لولا هذا ما حدثنا والحديث (القدسي) بمنزلة القرآن" (332).
وجاء أيضًا في "كتاب الهداية" أن "ابن الأثير" ضرب عدة أمثلة من القرآن والأحاديث والأشعار توضح أن الإنسان من الممكن أن يأخذ بالمعنى الحرفي أو بالمعنى المجازي، وهو مصيب في كليهما فقال ابن الأثير: "ورد في القرآن " لا تقتلوا أنفسكم " فيراد به القتل الحقيقي أو القتل المجازي وهو الإكباب على المعاصي، فإذا ترجم المُترجم القتل بالمعنى الحقيقي كان مصيبًا وإذا ترجمه بالمعنى المجازي كان مصيبًا. أيضًا قال محمـد: "أطولكن يدًا أسرعكن لحوقًا بي " ومراده من طول اليد كثرة الصدقة، فإذا ترجم المُترجم طول اليد حرفيًا كان مصيبًا وإذا ترجمها بكثرة الصدقة كان مصيبًا أيضًا" (333).
هـ - يقول "نيافة المتنيح الأسقف إيسيذورس": "يجوز النقل بالمعنى كما يجوز بالحرف للعارف بمدلولات الألفاظ ومواقع الكلام ومراده، وقد نسج الرسول بولس على هذا الأسلوب هنا فأورد المعنى المُراد من قول النبي " أُذُنَيَّ فَتَحْتَ " وهو الطاعة المتناهية أو العبودية الاختيارية كما ورد في ناموس موسى... (خر 21: 2 - 5)، فقول المسيح بفم داود (أُذُنَيَّ فَتَحْتَ) فهو خطاب لله يدل على طاعته لأبيه وتقديمه ذاته ضحية للتكفير عن خطايا العالم ولما كانت تلك الجملة غامضة أورد الرسول المراد منها كاشفًا معناها وليس فــي ذلك نقض يؤخذ به" (334).
و- يقول "الدكتور القس منيس عبد النور" ردًا على قول الناقد بأن آدم كلارك قال أن "المتن العبري محرَّف": وللرد نقول: نقل المعترض الأقوال السقيمة، بينما أجمع العلماء على أن بولس الرسول نقـل عبارة النبي داود بالمعنى، وقال آدم كلارك في تفسيره على رسالة العبرانيين أن المعنى في الجميع واحد... ومعنى قوله " أُذُنَيَّ فَتَحْتَ " جعلتني مطيعًا بالاختيار، فإن الأذن هو العضو الدال على الطاعة والانقياد. وهذه العبارة مأخوذة من العادة التي كانت جارية عند العبرانيين (خر 21: 2).. فالكلمة الأزلي يسوع المسيح اتخذ جسدًا باختياره وقدَّم نفسه ذبيحة وكفارة عن خطايانا من تلقاء ذاته. فإن جميع الذبائح التي كانت تشير إليه لم تكن كافية للتكفير عن الخطايا. فعبارة النبي داود وعبارة بولس الرسول تتفقان على أن المسيح تجسَّد للتكفير عن الخطايا باختياره. إذًا عبارة النبي داود صحيحة، وبولس الرسول أعرب عن المعنى الذي قصده الروح القدس، وفسَّر المعنى العبري" (335).
_____
(332) كتاب الهداية - طُبع بمعرفة المرسلين الأمريكان عام 1900م جـ3 ص 226.
(333) كتاب الهداية - طُبع بمعرفة المرسلين الأمريكان عام 1900م جـ3 ص 236.
(334) مشكاة الطلاب في حل مشكلات الكتاب ص 312.
(335) شبهات وهمية حول الكتاب المقدَّس ص 188.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1706.html
تقصير الرابط:
tak.la/s4vg65y