س 1703: ما معنى قول داود: "لأَنَّ خَاصِرَتَيَّ قَدِ امْتَلأَتَا احْتِرَاقًا وَلَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ. خَدِرْتُ وَانْسَحَقْتُ إِلَى الْغَايَةِ. كُنْتُ أَئِنُّ مِنْ زَفِيرِ قَلْبِي" (مز 38: 7، 8)..؟ وما علاقة هذا بعنوان المزمور: "مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ لِلتَّذْكِيرِ"..؟ ثم كيف يكون داود نبيًا وملكًا ويبدو كأصم وأبكم: "وَأَمَّا أَنَا فَكَأَصَمَّ لاَ أَسْمَعُ. وَكَأَبْكَمَ لاَ يَفْتَحُ فَاهُ" (مز 38: 13)؟
ج: 1ـ جاء في عنوان المزمور (38) " لِلتَّذْكِيرِ"، وهذا المزمور من مزامير التوبة السبعة، وفيه يتذكر داود خطيته التي جرت عليه كل هذا الوبال والنكبات، فيصرخ لله لكيما يترآف عليه: "يا رب لاَ تُوَبِّخْنِي بِسَخَطِكَ وَلاَ تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ لأَنَّ سِهَامَكَ قَدِ انْتَشَبَتْ فِيَّ" (مز 38: 1، 2). كما أن كلمة " لِلتَّذْكِيرِ" مرتبطة بخدمة اللاويين في بيت الرب، فداود الملك: "جَعَلَ أَمَامَ تَابُوتِ الرَّبِّ مِنَ اللاَّوِيِّينَ خُدَّامًا وَلأَجْلِ التَّذْكِيرِ وَالشُّكْرِ وَتَسْبِيحِ الرَّبِّ إِلـهِ إِسْرَائِيلَ" (1أي 16: 4)، وجاء في "الموسوعة الكنسية": "هذا المزمور ليتورجي كان يُردَّد مع تقدمة القربان، والتي يوضع معها أيضًا بخور ويُحرَق على المذبح (لا 2: 2) فهو تذكير مُقدِم التقدمة بخطاياه وآثارها ليتوب عنها" (322).
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "استخدم اليهود الأسكينازين Ashkenazi الذين يرجع أصلهم إلى أوروبا الشرقية هذا المزمور في صلوات المساء في اليوم الثالث من الأسبوع... هذه الصرخة المملوءة ألمًا تشترك مع المزمور (70) في العنوان " لِلتَّذْكِيرِ "، ربما يشير إلى " ذبيحة التذكار" (لا 2: 2، 9، 16، 5: 12، أش 66: 3). ربما كان التسبيح بهذا المزمور يصحبه تقديم ذبيحة. وقد اتسع العنوان في الترجوم الأرامي إلى " تقدمة تذكارية يومية "..
مَنْ أو ما هو الذي للتذكر؟
1ــ وضع داود النبي هذا المزمور كتذكار لنفسه كما للغير، حتى لا ينسى سريعًا تأديب الرب له. لقد وضع تذكارات للتجارب التي مرَّ بها. هكذا أيضًا فعل حزقيا الملك (إش 38). كما لـم ينسَ إرميــا آلامه وبؤسه (مرا 3: 20).
2 - تذكُّر الله بالتسبيح بهذا المزمور. نحن أنفسنا... علينا أن نذكّره باحتياجاتنا وأحزاننا وما نحتاج إليه من عون.
3- جاء العنوان بحسب الترجمة السبعينية " تذكُّر من أجل السبت "، فماذا يعني؟ تذكَّر المُرَتِّل الراحة الحقيقية، السبت الروحي، فبينما كان يعاني من الأعداء المنظورين وغير المنظورين يعترف هنا بأنه لا يوجد سوى طريق واحد لبلوغ هذا السبت، وهو التوبة والاعتراف والثقة بالله" (323).
ويقول "الأب متى المسكين": "وقد ذُكر في عنوان المزمور " ليكون في الذاكرة " ونجده أيضًا عنوانًا للمزمور (70) وقد إعتاد الشُرَّاح أن يُرجِعوه إلى ما هو داخل المزمور كتسجيل للآلام أو الصلاة لكي يتقدَّم الشاكي إلى ذاكرة الله. ولكن الأرجح أن يكون العنوان " ليصنع تذكارًا " فيكون ذلك دليلًا على استخدام المزمور ليتورجيًا مع رفع البخور أو عند تقدمة azkara... وكلمة azkara أزكارًا، أو للتذكار كانت اصطلاحًا فنيًا في الطقس اللاوي يُستخدم فيما يأتي:
(أ) من أجل نصيب في تقدمة القربان ممزوجًا بزيت ويُحرق مع بخور على المذبح (لا 2: 2).
(ب) من أجل وضع البخور على خبز الوجوه ثم يُحرق (لا 24: 7).
وقد يكون الاصطلاح أصلًا بمعنى " تقدمة عطـرة " وقـد شُرحت لتعني " للتذكار " لكي يتقدم بها صاحب الذبيحة إلى تذكار الله. وهناك إشارة لاستعمال المزامير في طقس الـ azkara في (1أي 16: 4)" (324).
2- قال داود: "لأَنَّ خَاصِرَتَيَّ قَدِ امْتَلأَتَا احْتِرَاقًا وَلَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ. خَدِرْتُ وَانْسَحَقْتُ إِلَى الْغَايَةِ. كُنْتُ أَئِنُّ مِنْ زَفِيرِ قَلْبِي".
وفي "الترجمة القبطي": "لأن نفسي قد امتلأت مهازئًا. ولا توجد صحة في جسدي. وهنتُ جدًا وانسحقتُ. ومن زئير قلبي زمجرت".
وفي "ترجمة كتاب الحياة": "امتلأ داخلي بألمٍ حارقٍ. فلا صحة في جسدي. تعبت وتذللت جدًا وكنت أئنُّ من تنهد قلبي".
وفي "الترجمة اليسوعية": "امتلأت كليتاي إلتهابًا. ولا صحة في جسدي وهتتُ جدًا وانسحقتُ. ومن زئير قلبي زمجرت ".
وفي "ترجمة كتاب الحياة": "امتلأ داخلي بألمٍ حارقٍ. فلا صحة في جسدي أنا واهن ومسحوق إلى الغاية. وأئنُّ في أوجاع قلبي الدفينة".
وفي "الترجمة العربية المشتركة": "خاصرتايَ امتلأتا احتراقا. وجسدي لا عافية فيه. حائر ومنسحق كثيرًا. وأئنُّ من زفيرِ قلبي".
و " الخصر" هو وَسَط الإنسان (راجع مختار الصحاح طبعة 1926م ص 177).
وجاء في "المصباح المنير": "الخصر": من الإنسان وسطه وهو المستدق فوق الوركين والجمع خصور مثل فِلس وفلوس" (325).
قال داود النبي " خَاصِرَتَيَّ قَدِ امْتَلأَتَا احْتِرَاقًا" أي داخلي أو كُليتاي يحترقان بسبب خطيتي، والكُلى عضو حساس ويشير للشهوة، فيصف داود الحالة السيئة التي آل إليها نتيجة خطيته، حتى أنه أصبح لا يجد راحة لا في جلوسه ولا في قيامه، وشتان بين الإنسان الذي يتحمل هذا نتيجة خطيته، وبين إنسان بار يتحمل نفس الآلام نتيجة حسد الشيطان، مثل " أيوب" الذي قال: "أَمْعَائِي تَغْلِي وَلاَ تَكُفُّ... وَعِظَامِي احْتَرَّتْ مِنَ الْحَرَارَةِ فِيَّ" (أي 30: 27، 30).
وقال داود النبي: "وَلَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ" وهذا تكرار لما قاله من قبل: "لَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ مِنْ جِهَةِ غَضَبِكَ. لَيْسَتْ فِي عِظَامِي سَلاَمَةٌ مِنْ جِهَةِ خَطِيَّتِي" (مز 38: 3)، فخطية الإنسان تجلب عليه الغضب الإلهي، فلا يجد له راحة قط إلاَّ بالعودة إلى أحضان الآب، وقول داود " خَدِرْتُ وَانْسَحَقْتُ" أي وهنت قوتي.
وقال داود النبي أيضًا: "كُنْتُ أَئِنُّ مِنْ زَفِيرِ قَلْبِي" أي كنت أتنهد وأئنُّ وأتأوه من الآلام التي تنتابني نتيجة خطيتي، والزفير عكس الشهيق، فالشهيق هو استنشاق الهواء النقي والزفير هو طرد الهواء الفاسد، وداود النبي مع زفيره وهو يطرد الهواء الفاسد كان يطرد آلامه الداخلية من خلال تأوهاته: "يا رب أَمَامَكَ كُلُّ تَأَوُّهِي وَتَنَهُّدِي لَيْسَ بِمَسْتُورٍ عَنْكَ" (مز 38: 9)، كما سبق وقال " بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي" (مز 22: 1)، وهكذا اجتاز أيوب نفس هذه الآلام النفسية نتيجة حقد الشيطان وحسده، فقال: "لأَنَّهُ مِثْلَ خُبْزِي يَأْتِي أَنِينِي وَمِثْلَ الْمِيَاهِ تَنْسَكِبُ زَفْرَتِي" (أي 3: 24).
ويُعبّر "أحد رهبان دير المحرق" عن مشاعر داود فيقول: "تخدَّرت أعضائي وأصابها الكسل والفتور والأمراض التي كدت لا أعي شيئًا، وانسحقت إلى الغاية من حرقتي بتفكيري بخطيتي. قلبي يئن من زفراتي الكثيرة، والتنهد يقصد به التخفيف عما يكنه القلب في الداخل، فإن الآلام إذا زادت كثيرًا لا يسع الصدر إلاَّ أن يخرجها خارجًا وهكذا فهي علامة عما في الداخل من عواطف مكتومة" (326).
3ــ قال داود النبي: "وَأَمَّا أَنَا فَكَأَصَمَّ لاَ أَسْمَعُ. وَكَأَبْكَمَ لاَ يَفْتَحُ فَاهُ. وَأَكُونُ مِثْلَ إِنْسَانٍ لاَ يَسْمَعُ وَلَيْسَ فِي فَمِهِ حُجَّةٌ" (مز 38: 13، 14)، وفعلًا عندما علم داود خبر اغتصاب ابنه أمنون لابنته ثامار غضب جدًا وكتم غيظه ولم يفتح فاه، إذ كيف يدين ابنه على جريمة قد سبقه إليها، كما أن سقوطه في الخطيَّة طبـع داخله صورة الضعف وكسر نفسه، وعندما هاج أبشالوم وأعلن ثورته على أبيه، خرج داود حافيًا ورأسه مُغطى وهو صامت يبكي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. حتى أن شمعي بن جيرا أخذ يسبه ويرشقه بالحجارة وهو كأصـم وأبكـم لم يفتح فاه (2صم 16: 6)، وقال داود أيضًا: "صَمَتُّ صَمْتًا سَكَتُّ... 9صَمَتُّ. لاَ أَفْتَحُ فَمِي لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ" (مز 39: 2، 9) فالذين ثلبوا داود وذموه وشتموه لم يجيبهم، وإن كانت الخطية تجعل الإنسان أخرس، فإن السيد المسيح عندما طرد الشيطان من إنسان أخرس " فَلَمَّا أُخْرِجَ الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ الأَخْرَسُ" (مت 9: 33).. تصوَّر داود أن خطاياه التي ارتكبها مثل نقاط المياه فإذ هيَ طوفان جارف، فصــرخ: "لأَنَّ آثامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي. كَحِمْل ثَقِيل أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ" (مز 38: 4).
وأيضًا ما نطق به داود (مز 38: 13، 14) حمل بُعدًا نبويًا قويًا إذ وصف بدقة السيد المسيح في صمته أثناء المحاكمات الظالمة: "ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَـحْ فَاهُ" (إش 53: 7).. " الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل" (1بط 2: 23).
_____
(324) المزامير - دراسة وشرح وتفسير جـ 2 ص 386، 387.
(325) المصباح المنير - مكتبة لبنان سنة 1987م ص 65.
(326) تفسير سفر المزامير جـ 1 ص 543.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1703.html
تقصير الرابط:
tak.la/m66v8ts