س 1696: هل العظام تنطق: "جَمِيعُ عِظَامِي تَقُولُ يا رب مَنْ مِثْلُكَ" (مز 35: 10)؟ وهل شمت أعداء داود بصلعته: "فِي ظَلْعِي فَرِحُوا وَاجْتَمَعُوا. اجْتَمَعُوا عَلَيَّ شَاتِمِينَ وَلَمْ أَعْلَمْ. مَزَّقُوا وَلَمْ يَكُفُّوا" (مز 35: 15)، حتى أنه قال أيضًا: "لأَنِّي مُوشِكٌ أَنْ أَظْلَعَ وَوَجَعِي مُقَابِلِي دَائِمًا" (مز 38: 17)..؟ وماذا نفهم من قوله: "بَيْنَ الْفُجَّارِ الْمُجَّانِ لأَجْلِ كَعْكَةٍ" (مز 35: 16)، أم أن هذا نص مشوَّه كما شهدت بهذا الترجمة اليسوعية؟
ج: 1- ينبغي أن لا ننسى أن المزامير كُتبت بأسلوب شعري يحوي الصور البلاغية بأشكالها المختلفة، فقال داود النبي: "جَمِيعُ عِظَامِي تَقُولُ يا رب مَنْ مِثْلُكَ الْمُنْقِذُ الْمِسْكِينَ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَالْفَقِيرَ وَالْبَائِسَ مِنْ سَالِبِهِ" (مز 35: 10) والعظام تشير للإيمان، فإيمان داود يخبره بأن الله ليس له مثيل، فهو الذي ينقذ المسكين من القوي والفقير والبائس من سالبه، وفي مزمور ثانٍ يصور داود العظام أنها ترتجف: "ارْحَمْنِي يا رب لأَنِّي ضَعِيفٌ. اشْفِنِي يا رب لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ" (مز 6: 2)، وفـي مزمــور ثالث يصوّر العظام على أنها تبتهج: "أَسْمِعْنِي سُرُورًا وَفَرَحًا فَتَبْتَهِجَ عِظَامٌ سَحَقْتَهَا" (مز 51: 8)، ولو أخذنا بالمعنى الحرفي فإن من تُسحق عظامه تنتهي حياته، فكيف تبتهج؟! أما في لغة الشعر فإننا نقبل أن العظام تنطق، وترتجف، وتنسحق، وتبتهج، وتمرض وتُشفى، فجاء في سفر الأمثال: "الْكَلاَمُ الْحَسَنُ شَهْدُ عَسَل حُلْوٌ لِلنَّفْسِ وَشِفَاءٌ لِلْعِظَامِ" (أم 16: 24)..." اَلْخَبَرُ الطَّيِّبُ يُسَمِّنُ الْعِظَامَ" (أم 15: 30)، فراح بعض النُقَّاد الذين تغافلوا أن سفر الأمثال من الأسفار الشعرية، راحوا يتندرون حول الآية الأخيرة، داعين كل من يعاني من مشاكل العظام عليه أني يستدعي شخصًا محبوبًا ليسمعه بعض الكلمات الحسنة فينال الشفاء... الأمر العجيب أنهم يقبلون هذا في كتابهم وتراثهم وينكرونه على الكتاب المقدَّس، وهم يدركون أو يجهلون أن من يحاول أن يترجم الصوُّر البلاغية إلى تفسيرات حرفية فحتمًا ستشوش أفكاره ولن تستقيم أمور حياته.
2ـ يقول "د. مراد أمين موسى": "العظام تشير هنا إلى الكيان الإنساني كله، وليس فقط القاعدة أو الهيكل الذي يقوم عليه الجسد الإنساني كما في مزمور (34: 20) فمن أعماق قلبه إلى كلمات لسانه، الكل يهتف ويسبح قائلًا: ليس مثل الرب في عطفه وحنانه على المسكين الضعيف وتدخله له المجد وإنقاذه له ممن هو أقوى منه، كما حدث مع داود نفسه، وأنقذه من يد شاول الجبار وكل جيشه، وكما حدث مع الرجال وكيف أنقذهم من نيران آتون نبوخذ نصر" (299).
ويقول "القمص بيشوي كامل": "مَنْ مِثْلُكَ يَا رَبُّ": لو تطلعنا إلى الفلك والنجوم والشمس والقمر نقول كم هيَ جميلة وعظيمة ولكنك أنت خالقها، فمن مثلك يا رب؟! الذين عبدوا الشمس لأجل عظمتها لو عرفوا أنك خالقها لقالوا: من مثلك يا رب؟! الذين عبدوا الملائكة وسجدوا لها، لو عرفوا أنك خالقهم وأنهم لا يساووا شيئًا إلاَّ في وجودك معهم وهم ينظرون إليـك لقالوا من مثلك يا رب؟! الأفضل أن نعبد مع كل الخليقة خالقها، لئلا نعبد الخليقة وننسى الله خالقها. السموات تسبح بمجد الله والفُلك يخبر بعمل يديه. إذًا فلنسبح معها خالقها. إن التعلق بأي شيء في العالم حتى العبادة ينسينا الخالق المستحق كل تعلق وعبادة. على الكنيسة أن تسبح دائمًا وتقول: من مثلك يا رب، لأنه رأسها وقوتها، ومجدها وخلاصها وبرّها، الذي كسر شوكة الخطية والشيطان، الذي وهب لها الميراث الأبدي" (300).
3- قال داود النبي أنه تأثر بمصائب الآخرين الذين كنُّوا له الحقد، حتى أنه حزن ولبس المسح في مرضهم، وكأنهم أخوته، أما هم فقد جازوه عوض الخير شرًا، وفي حزنه شمتوا به " يُجَازُونَنِي عَنِ الْخَيْرِ شَرًّا... وَلكِنَّهُمْ فِي ظَلْعِي فَرِحُوا وَاجْتَمَعُوا. اجْتَمَعُوا عَلَيَّ شَاتِمِينَ وَلَمْ أَعْلَمْ. مَزَّقُوا وَلَمْ يَكُفُّوا" (مز 35: 12، 15)، كما قال داود في مزمور آخر " لأَنِّي مُوشِكٌ أَنْ أَظْلَعَ وَوَجَعِي مُقَابِلِي دَائِمًا" (مز 38: 17). ولأن الإنسان كثيرًا ما يهاجم ما يجهل، لذلك هاجم الناقد هذه الآيات ظنًا منه أن "الظلع" هو "الصلع". ولم يكلف نفسه بالبحث عـن المعنى اللغوي بكلمة "الظلع"، فقـد جـاء فــي "المصباح المنير": "ظلع البعير والرجل ظلعًا من باب نفع غمز في مشيه وهو شبيه بالعرج ولهذا يُقال هو عَرَج يسير" (301). إذًا الظلع هو العرج، وعندما قال داود: "فِي ظَلْعِي" أي في عرجي، عندما تعثرت في طريقي فرحوا وشمتوا بي، وقول داود: "لأَنِّي مُوشِكٌ أَنْ أَظْلَعَ" أي موشك أن تزل قدمـاي فأسقط ويصيبني العرج، وقال إرميا النبي: "لأَنِّي سَمِعْتُ مَذَمَّةً مِنْ كَثِيرِينَ. خَوْفٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. يَقُولُونَ اشْتَكُوا فَنَشْتَكِيَ عَلَيْهِ. كُلُّ أَصْحَابِي يُرَاقِبُونَ ظَلْعِي قَائِلِينَ لَعَلَّهُ يُطْغَى فَنَقْدِرَ عَلَيْهِ وَنَنْتَقِمَ مِنْهُ" (إر 20: 10) أما عن "الصلع" فهو معروف بتساقط شعر الرأس، وجاء في "المصباح المنير" أيضًا:" (صلع) الرأس صلعًا من باب تعب انحسر الشعر عن مقدمه وموضعه، الصلَعة بفتح اللام... فالرجل أصلع والأنثى صلعاء، ورأس أصلع وصليع قال ابن سيناء ولا يَحدُث الصلع للنساء لكثرة رطوبتهن ولا للخصيان لقرب أمزجتهم من أمزجة النساء" (302).
ويقول "القس وليم مارش": "ولكنهم يفرحون بعرجه وهو يتمايل إلى هنا وهناك، وهذا منتهى القساوة إذ ليس في قلوبهم أي شعور بالمؤاساة والعطف. وهم أصحاب السوء الذين يهزأون بنكبات الآخرين وضيقاتهم. بل فعلوا أكثر من ذلك إذ تطاولوا بالشتم مجتمعين هازئين بل قرنوا كلامهم المهين بالأذية وتمادوا في غيهم ولم يرعووا عن ضلالهم" (303).
4ـ يبدو أن داود أصيب في الحروب في ساقه فأخذ يعرج لفترة فشمتوا به، وصار موضع سخرية في جلساتهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. حتى أنهم استعانوا بالفُجَّار المجُّان أي الأشرار الماجنين المهرجين الذين يستأجرونهم في الحفلات ليسخروا من داود مقابل إقامة الولائم لهم، وكُني عن الوليمة بالكعكة، فجاءت الآية في "ترجمة فانديك": "بين الفُجَّار المجَّان لأجل كعكة حرقـوا على أسنانهم" (مز 35: 16) وجاءت في "ترجمة كتاب الحياة": "بَيْنَ الْفُجَّارِ الْمُجَّانِ لأَجْلِ كَعْكَةٍ حَرَّقُوا عَلَيَّ أَسْنَانَهُمْ"، وجاءت في "الترجمة اليسوعية": "مع الفُجَّار يسخرون وعلى الأسنان يصرخون" والمعنى إن كان مقتضبًا في الترجمة اليسوعية إلاَّ أنه واضح وليس مشوهًا كما جاء فـي هامش الترجمـة: "نص مشوَّه"، ولا ننسى أن التعليقات والحواشي في الترجمة اليسوعية لم يضعها الآباء اليسوعيين الذين قاموا بالترجمة نحو عام 1881م، إنما وضعها الذين قاموا بإعادة الطباعة نحو عام 1989م والذين اعتقدوا بأفكار وآراء النقد الأعلى.
5ــ قال داود النبي: "يُجَازُونَنِي عَنِ الْخَيْرِ شَرًّا... أَمَّا أَنَا فَفِي مَرَضِهِمْ كَانَ لِبَاسِي مِسْحًا... وَلكِنَّهُمْ فِي ظَلْعِي فَرِحُوا وَاجْتَمَعُوا. اجْتَمَعُوا عَلَيَّ شَاتِمِينَ وَلَمْ أَعْلَمْ. مَزَّقُوا وَلَمْ يَكُفُّوا. حَرَّقُوا عَلَيَّ أَسْنَانَهُمْ" (مز 35: 12 - 16) حملت جانبًا نبويًا عن السيد المسيح الذي حزن واكتئب وتألم من أجل الخطاة، وهم استهزأوا به.
_____
(299) شرح سفر المزامير ص 286.
(300) تفسير المزامير (31 - 40) ص 50.
(301) المصباح المنير - إصدار مكتبة لبنان ص 146.
(302) المرجع السابق ص 132.
(303) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 93.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1696.html
تقصير الرابط:
tak.la/7zct75b