س 1658 : هل لله أجفان يغمضها حين ينام أو حين يشعر بالخطر: " عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ. أَجْفَانُهُ تَمْتَحِنُ بَنِي آدَمَ" (مز 11 : 4)؟.. وكيف تمتحن أجفان الله الإنسان؟.. وهل تمطر السماء نارًا وكبريتًا، وهل هناك رياحًا سامة تقتل الإنسان " يُمْطِرُ عَلَى الأَشْرَارِ فِخَاخًا نَارًا وَكِبْرِيتًا وَرِيحَ السَّمُومِ نَصِيبَ كَأْسِهِمْ" (مز 11 : 6)؟
يقول "زينون كوسيدوفسكي": " لكن علم الكونيات في هذه الأشعار ساذج وبدائي كما هو في أيام إبراهيم، فيهوه يجلس على عرشه في السماء. تحيط به الملائكة والأرض منبسطة يحيط بها المحيط، وغيلان الفوضى والشر تتصارع مع قوى النظام والإبداع، وينتصر يهوه ويحكم نسل داود، في ظل انتصاره على الأرض" (136).
وقال بعض النُقَّاد أن قول المزمـور " الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ" (مز 11 : 4) مقتبس من الحضارة المصرية حيـث دعىَ المصريون "إيزيس" بأنها "الإلهة العرش" (راجع شفيق مقارــ الجنس في التوراة ص 137، وناجح المعموري - أقنعة التوراة ص 87 - 91).
ج : 1ـ اعتاد الكتاب المقدَّس أن ينسب لله الأعضاء البشرية ويخلع عليه الصفات البشرية من الحزن والفرح والغضب والانتقام... إلخ لكيما يُقرّب لنا المعاني الروحية، وطالما تحدث الكتاب عن عين الله التي لا تغفل ولا تنام، وعن أذنه التي تسمع صراخ المساكين المظلومين، ودائمًا العينان تشيران للمعرفة الإلهيَّة والعناية أيضًا، وعينا الرب تخترقان أستار الظلام، تلاحظان وتراقبان كل ما يجري على الأرض في الخفاء. فكل شيء عريان ومكشوف أمامه، فبعد أن تكلم داود النبي عن تفاقم شر الأشرار الذين يمدُّون القوس ويفوّقون السهم في الوتر ليرموا في ظلام الليل مستقيمي القلوب، حتى أنهم يقلبون الأعمدة، فإن عين الله ساهرة والله في مسكنه يضبط كل شر الأشرار ويحفظ الأبرار ويشددهم " لأَنَّ عَيْنَيِ الرَّبِّ تَجُولاَنِ فِي كُلِّ الأَرْضِ لِيَتَشَدَّدَ مَعَ الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ كَامِلَةٌ نَحْوَهُ" (2أي 16 : 9) وهو: " لاَ يَنْعَسُ وَلاَ يَنَامُ" (مز 121 : 4).. " هُوَذَا عَيْنُ الرَّبِّ عَلَى خَائِفِيهِ الرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ" (مز 33 : 18).. "عَيْنَا الرَّبِّ نَحْوَ الصِّدِّيقِينَ وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ" (مز 34 : 15)، وبنفس المنطق قال داود النبي: " اَلرَّبُّ فِـي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ. عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ. أَجْفَانُهُ تَمْتَحِنُ بَنِي آدَمَ"، وفي "ترجمة كتاب الحياة": "مازال الرب في هيكله المقدَّس. الرب في السماء عرشه. تبصر عيناه بني آدم وتتقصاهم أجفانه" (مز 11 : 4).
والأجفان تشير لليقظة والتفرُّس، فأجفان الرب لا تقصر عن مراقبة وفحص أعمال كل إنسان كقول المُرنّم: " مِنَ السَّمَاوَاتِ نَظَرَ الرَّبُّ. رَأَى جَمِيعَ بَنِي الْبَشَرِ. مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ تَطَلَّعَ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ الأَرْضِ. الْمُصَوِّرُ قُلُوبَهُمْ جَمِيعًا الْمُنْتَبِهُ إِلَى كُلِّ أَعْمَالِهِمْ" (مز 33 : 13ــ 15)، ويقول "الأب متى المسكين": " عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ": كلمة تنظر تجئ في العبرية بمعنى الفحص والفهم والاختراق بنظرة نافذة وهيَ تعتبر المسكين كما جاءت في السبعينية: " عينان تنظران المسكين ". أَجْفَانُهُ تَمْتَحِنُ بَنِي آدَمَ: حينما يريد الإنسان أن يفحص شيئًا دقيقًا بعينيه تجده يضغط على أجفانه لتساعده على الرؤيا الفاحصة، وتجئ هنا بمعنى أن عين الله تميـز بنظـرة واحـدة وتفرّق بين الغث والثميـن، أنظر (مز 7 : 9): " فَإِنَّ فَاحِصَ الْقُلُوبِ وَالْكُلَى اللهُ الْبَارُّ " (137).
ويقول "فخري عطية": " أَجْفَانُهُ تَمْتَحِنُ بَنِي آدَمَ: هذا تعبير مجازي مأخوذ من عادة الإنسان إذا ما أراد أن يفحص شيئًا بالتدقيق، فأنه يضيّق جفنيه، وكلمة " تَمْتَحِنُ " في الأصل تحمل معنى التنقية، فهو يميز بين الخير والشر، بين الذهب والزغل، ومَنْ هُم بنو آدم، البشر جميعًا، أمام عينيه الفاحصتين؟ (مز 7 : 9)" (138).
ويقول "الدكتور القس منيس عبد النــور": " لكـن لمــاذا يقـول " أَجْفَانُهُ "؟. ألم يكن كافيًا أن يقول " عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ "؟. وللرد نقول: عندما يريد إنسان أن يتأمل منظرًا، فأنه يحدق البصر فيه، وكأنه يشد جفنيه ليرى كل صورة بوضوح وتدقيق. إذًا عينا الرب تنظران، لكن أجفانه أيضًا تؤكد أنه يرى الموقف كله. عيناه كلهيب نار تخترقان أستار الظلام، تراقبان الصالح والطالح، لتنصف صاحب القضية، ولتنصر الحق" (139).
2ــ في الآية التالية يقول داود النبي: " الرَّبُّ يَمْتَحِنُ الْصِّدِّيقَ، أَمَّا الشِّرِّيرُ وَمُحِبُّ الظُّلْمِ فَتُبْغِضُهُ نَفْسُهُ" (مز 11 : 5)، فالله يمتحن ويجرّب الصديقين لكيما يزكي أعمالهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقوله أن الله يبغض الشرير، فهذا تعبير عن طبيعة الله القدوس الذي لا يقبل الشر على الإطلاق، والله القدوس عندما يمتحن الصديقين بالتجارب، فذلك لكيما يُزكِي إيمانهم ويُظهِر فضائلهم، فحبات البخور لا تفوح رائحتها إلاَّ عندما توضع على النار، ولهذا قال داود النبي: " يا رب قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ" (مز 139 : 1، 2)، وقال بولس الرسول: " هكَذَا نَتَكَلَّمُ لاَ كَأَنَّنَا نُرْضِي النَّاسَ بَلِ اللهَ الَّذِي يَخْتَبِرُ قُلُوبَنَا" (1تس 2 : 4). أما الأشرار فلا توجد حاجة لامتحانهم، لأن أعمالهم الشريرة واضحة تتقدمهم إلى القضاء وتحكم عليهم بالدينونة، ويقول "الراهب القس أوغريس السرياني": " أن الله ينظر أعمال كل البشر، مميّزًا أعمال الخير عن أعمال الشر، ليقضي للأبرار بعدله الإلهي حسب استحقاقاتهم، ويغمض النظر - أجفانه - عن الأشرار السالكين في طريق الخطيَّة والشر وغير تائبين لأنهم يسلمون ذواتهم بإرادتهم الحرة إلى طريق الهلاك... يعتني الرب بكل عبيده ويمتحن كل أحد بحكمته الإلهيَّة، ويتبين الفرق بين الصديق والشرير وكيفية سلوكهما في حالة الشدة والنجاح. يحتمل الصديق بالصبر الضيقات والشدائد، والتأديب عن خطاياه وتطهير نفسه، مقدمًا الشكر والتسبيح لله الذي يعبده، ويؤمن بِاسمه القدوس. أما الشرير فينسب نجاحه لقوته وأعماله، وليس لله، ويتذمر في وقت الشدة، ويرفض حياة التوبة، فيجلب على نفسه غضب الله، وعدم إحساسه بالحياة لانفصاله عن الله مصدر الحياة، فتبغضه حتى نفسه" (140).
3ــ يمثل سفر المزامير شعرًا روحيًّا راقيًا، وليس شعرًا ساذجًا بدائيًا كقول كوسيدوفسكي، وتعبير " فِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ" يعبر عن سلطان الله الممتد على السماء والأرض، وأيضًا يشير للسمو الإلهي، ولا يعني أبدًا أن الله قد تحيَّز بعرش معين مهما كانت عظمة هذا العرش، لأنه هو غير المحدود وغير المتناهي، مالئ السموات والأرض، وبالطبع عند دراسة موضوع معين في الكتاب المقدَّس يجب أن يؤخذ في الحسبان الجوانب المختلفة للموضوع عبر الآيات والأحاديث التي تتناوله، وليس قول الكتاب أن " الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ" مقتبسًا من الأساطير، وليس الفصل بين الصالح والشرير يعني أن غيلان الفوضى والشر تتصارع مع قوى النظام والإبداع، أو أنها أفكار أسطورية، فمن الطبيعي أن الله القدوس العادل يميز بين الصلاح والشر، بيـن الصالحين والأشرار، وهذا ما أوضحه المزمور السابق وغيره.
ويقول "القمص تادرس يعقوب": " يعرض لنا المُرَتِّل التضاد بين السماء والأرض، فقد لاحظ أن الأرض الآن تموج كلها بالفوضى، حيث لا يقدر أحد أن ينال عدالة أو مساواة، ولا توجد وسيلة للخلاص من الظروف العصيبة الحاضرة. إنه لا يثق في إنسان، وإنما في الله الذي يسود ملكوته الجميع، عاملًا دومًا بالبر، مرتفعًا أبدًا على قوى الحقد، لا يتخلى عن دوره كقاضٍ وحاكم للجميع (دون محاباة). لم يقل المُرَتِّل أن الله يسكن في السماء فحسب، وإنما قال يحكم من هناك (فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ)، كما في قصره الملوكي، حيث يوجد عرشه أو كرسيه" (141).
4ـ قال داود النبي: " يُمْطِرُ عَلَى الأَشْرَارِ فِخَاخًا نَارًا وَكِبْرِيتًا وَرِيحَ السَّمُومِ نَصِيبَ كَأْسِهِمْ" (مز 11 : 6).
وفي "الترجمة القبطية": " يمطر الرب على الخطاة فخاخًا. نارًا وكبريتًا وريحًا عاصفة. هذا هو حظ كأسهم".
وفي " ترجمة كتاب الحياة": " يمطر على الأشرار جمرًا وكبريتًا وتكون الريح المحرَقة نصيبهم".
وفي أيام إبراهيم أمطر الله نارًا وكبريتًا على سدوم وعمورة لأن شرهما صعد إلى عنان السماء: " فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ" (تك 19 : 24)، ويذكر بطرس الرسول الحادثة: " Pوَإِذْ رَمَّدَ مَدِينَتَيْ سَدُومَ وَعَمُورَةَ حَكَمَ عَلَيْهِمَا بِالانْقِلاَبِ وَاضِعًا عِبْرَةً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يَفْجُرُوا" (2بط 2 : 6)، وأيضًا يذكرها يهوذا الرسول قائلًا: " كَمَا أَنَّ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَالْمُدُنَ الَّتِي حَوْلَهُمَا إِذْ زَنَتْ عَلَى طَرِيق مِثْلِهِمَا وَمَضَتْ وَرَاءَ جَسَدٍ آخَرَ جُعِلَتْ عِبْرَةً مُكَابِدَةً عِقَابَ نَارٍ أَبَدِيَّةٍ" (يه 7)، وقول الكتاب " يُمْطِرُ" فيه إشارة لوفرة وغزارة العقوبة. أما قول داود " رِيحَ السَّمُومِ " ففيه إشارة للرياح اللافحة التي تهب من الصحراء فتلفح الوجوه والأجساد بحرارتها الشديدة، ومعنى قــول داود: " نَصِيبَ كَأْسِهِمْ" أو "حظ كأسهم" يعني نصيبهم، فنصيب الأشرار هو كأس غضب الله، كقول الله لإرميا النبي: " لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ لِيَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ. خُذْ كَأْسَ خَمْرِ هذَا السَّخَطِ مِنْ يَدِي وَاسْقِ جَمِيعَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ أُرْسِلُكَ أَنَا إِلَيْهِمْ إِيَّاهَا" (إر 25 : 15)، ومن يسجد للوحش وصورته " فَهُوَ أَيْضًا سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ اللهِ الْمَصْبُوبِ صِرْفًا فِي كَأْسِ غَضَبِهِ وَيُعَذَّبُ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ أَمَامَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ" (رؤ 14 : 10).
ويقول "القس وليم مارش": " يهلكهم الرب كما أهلك أهل سدوم وعمورة. يوقعهم في فخاخ هُم نصبوها بأنفسهم، وبعد ذلك يمطرهم بوابل من النار والكبريت دليل حمو غضبه عليهم اقتصاصًا منهم لما اقترفوه من ذنوب. وكذلك ريح السموم المهلكة التي تهب عليهم من الصحراء كأنها تحرقهم حرقًا. وهذه عليهم كأس يجب أن يشربوها لأنها نصيبهم بالنسبة لسوء أفعالهم وشرورهم" (142).
_____
(136) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 284.
(137) المزامير - دراسة وشرح وتفسير جـ 2 ص 109.
(138) دراسات في سفر المزامير جـ 1 ص 171.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1658.html
تقصير الرابط:
tak.la/xdf2phc