St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد القديم من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

1596- قال أليهو لأيوب عن الله: "كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا" (أي 33: 13)، فلماذا لا يجاوب الله الإنسان عن تساؤلاته؟ هل هذا كبرياء من الله وعدم مبالاة بالإنسان؟ وهل هناك ندرة في الوسطاء لدى الله حتى أن نسبتهم تبلغ واحد في الألف (أي 33: 23)؟ أم أن أليهو يُعظّم نفسه ويحتسب نفسه أنه أفضل من ألف؟

 

ج: 1- تحدَّث أليهو مع أيوب بأسلوب لطيف مفنّدًا أقواله بحكمة وهدوء، فناداه باسمه قائلًا: "اسْمَعِ الآنَ يَا أَيُّوبُ أَقْوَالِي" (أي 33: 1) الأمر الذي لم يفعله أحد من الأصدقاء الثلاثة، وأفصح عن نيته الحسنة قائلًا له: "تَكَلَّمْ. فَإِنِّي أُرِيدُ تَبْرِيرَكَ. وَإِلَّا فَاسْتَمِعْ أَنْتَ لِي" (أي 33: 32، 33). أنت يا أيوب "قُلْتَ: أَنَا بَرِيءٌ بِلاَ ذَنْبٍ. زَكِيٌّ أَنَا وَلاَ إِثْمَ لِي" (أي 33: 9)، ثم قال له: "هَا إِنَّكَ فِي هذَا لَمْ تُصِبْ. أَنَا أُجِيبُكَ، لأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنَ الإِنْسَانِ" (أي 33: 12)، وكأنه يريد أن يقول له: أنت أصبتَ يا أيوب في أمور كثيرة باستثناء هذا الأمر فأنت لم تصب فيه، فالإنسان مولود المرأة كيف يزكو أمام الله العظيم..؟! الله فائق القداسة بينما الإنسان لا تخلو حياته من شوائب الخطايا، فمن يقف أمام النور الإلهي ويتبرَّر..؟! " كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ" (رو 3: 10). مع أن الحقيقة أن أيوب اعترف بخطيته من قبل عندما قال لله: "وَلِمَاذَا لاَ تَغْفِرُ ذَنْبِي، وَلاَ تُزِيلُ إِثْمِي؟" (أي 7: 21)... " لأَنَّكَ كَتَبْتَ عَلَيَّ أُمُورًا مُرَّةً، وَوَرَّثْتَنِي آثَامَ صِبَايَ" (أي 13: 26)، فكان أيوب يرى فقط أنه لم يُخطئ تلك الخطايا الشنيعة التي تستوجب تلك النكبات.

     ويقول " القمص تادرس يعقوب": "صورة رائعة من الجانبين، رجل الله التقي الشيخ ينصت لشابٍ دون تشامخ من جانبه أو استخفاف بصغر السن، ومن جانب الشاب الصغير فمع حواره مع الشيخ بصراحة وانفتاح قلب وشجاعة، كان في غاية الأدب والرقة. إنه يريد أن يُبرّر من هو في سن والده!

     إذ يُقدم أليهو التماسه لأيوب يسأله أن يصغي إليه كصديقٍ مخلص يحبه، ولا يتكلَّم لينتقده أو يرعبه. اقتبس أليهو بعض عبارات من أيوب وأوضح له أن الله أعظم من الإنسان، وليس من حق الأخير أن يطلب تفسيرًا من الله على تصرفاته. ما يليق بأيوب أن يدركه هو أن الله يطلب خلاص الإنسان لا هلاكه"(1).

 

2- يقول أليهو لأيوب أنك اقتربت من مخاصمة إلهك متهمًا إياه بأنه لا يهتم بالإنسان ولا يجيبه على تساؤلاته، وأنك دعيته يا أيوب مرّات ولم يستجب لك: "لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟ لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا" (أي 33: 13) فالإنسان المتكبر هو الذي يتجرأ ويخاصم الله ويحتج لديه قائلًا: لماذا فعلت هذا يا رب..؟! ولماذا لم تفعل هذا يا رب؟! بينما فهم الإنسان قاصر لا يستطيع إدراك عمق الحكمة الإلهيَّة، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. والله ليس مُلزَمًا أن يقدِّم تبريرات عن كل تصرف يأتيه، ويقول " متى هنري " عن الله: "أنه ليس ملتزمًا أن يقدِّم لنا مبررات لِمَا يفعله ولا لِمَا ينوي أن يفعله، بأية طريقة، أو في أي وقت، أو بأية وسيلة، وليس ملتزمًا أن يقول لنا لماذا يتصرَّف معنا هكذا، هو ليس ملتزمًا بأن يبرَّر تصرُّفاته، أو يشبع رغباتنا وطلباتنا، فيقينًا أن أحكامه تبرّر نفسها بنفسها، وإن كنا لا نرضى عنها فنحن المسئولون.

إذًا فإنها لوقاحة منَّا أن نحاكم الله، أو نطالبه بأن يعطي سببًا عن كل أموره. هو يكشف لنا بقدر ما نراه لائقًا لنا أن نعرفه، كما نفهمه فيما بعد من (ع 14) ومع ذلك فلا زالت هناك خفيات ليس لنا أن نعرفها، ولا يليق بنا أن نتدخل فيها"(2).

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الله كثيرًا ما يتنازل ويتحدث مع الإنسان، والإنسان لا يلتفت لصوته، فقال أليهو لأيوب: "اللهَ يَتَكَلَّمُ مَرَّةً، وَبِاثْنَتَيْنِ لاَ يُلاَحِظُ الإِنْسَانُ" (أي 33: 14)، فالله يتكلَّم مع الإنسان من خلال الأحلام والرؤى ليحذر الإنسان (أي 33: 15-18)، وأيضًا من خلال الآلام والأوجاع التي تنقيه مثل الذهب (أي 33: 19-22)، وكذلك بإرسال وسيط ينقذ الإنسان من السقوط في الحفرة (أي 33: 23، 24)... هل اشتهى أيوب أن يعرف لماذا يتألّم دون ذنب جناه..؟ نعم... هل أعلن أيوب إحباطه لأن الله لم يجبه..؟ نعم. وهوذا الآن أليهو يخبر أيوب أن الله حاول أن يجيبه مرّة ومرّتين وأيوب لم يصغِ لصوت الله. إذًا الله المتواضع محب البشر يتكلَّم مع الإنسان من خلال الأحلام والرؤى والأحداث التي تعبر به والإنسان لا يلتفت، ولا يُدرِك أنه موضع عناية ورعاية واهتمام وحب الله.

 

3- قال أليهو: "إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ، وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ اسْتِقَامَتَهُ، يَتَرَاَءَفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ، قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَة" (أي 33: 23، 24) فواضح من النص أن الله مستعد لإرسال خادم وسيط ليترجم للإنسان المريض المتألّم قصد الله، وأن ما يحدث له هو نوع من العناية الإلهيَّة، ففي وقت النكبات نحتاج لمن يضع أمام أعيننا قصد الله الصالح محب البشر، ومثل هذا النوع من الخدام نادر جدًا، وهذا ما دعى أليهو للقول أنه واحد في الألف أو " وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ"، فكل هدفه أن يعلن للإنسان المتألّم استقامة الله وعدله، وعندما يكون الإنسان المريض المتألّم إنسانًا تقيًا فلا داعي لأن يزعجه بعض من حوله محاولين إقناعه بأنه يدفع ثمن خطاياه وتعدياته، فمثل هذا الإنسان الصالح المتألّم يحتاج لخادم مُرسَل من الله وسيط يؤكد للإنسان استقامة الله رغم سماحه بهذه التجارب المُرّة، فهي من أجل خير المريض لينال الحياة الأبدية.

ويقول " لويس صليب": "ليعلن للإنسان استقامته، ولكن استقامة مَن؟ يظن البعض إنها استقامة الإنسان، بمعنى أن الترجمان يعلن للإنسان كيف يعمل لكي يرضي الله... ألم تكن المشكلة التي واجهت أيوب أنه لم يكن يفهم استقامة الله في معاملاته معه؟ أو لم يكن الغرض الذي يستهدفه أليهو أن يجلو حقيقة هذه الاستقامة. أن ينشئ في أيوب الحكم على الذات أن الثقة في استقامة الله هي أساس السلوك المستقيم " قَدْ عَلِمْتُ يَا رَبُّ أَنَّ أَحْكَامَكَ عَدْلٌ، وَبِالْحَقِّ أَذْلَلْتَنِي" (مز 19: 75). استقامة الله أو بره هو إذًا المُعلَن"(3).

وهنا يتحدَّث أليهو أيضًا عن الوسيط الذي يقف مصالحًا الإنسان مع الله، وهذا الوسيط يعلن استقامة الله وصلاحه، حتى يقتنع الإنسان المتألّم ويخضع للمشيئة الإلهيَّة، عندئذ يتراءف الله عليه، ويقبل شفاعة الوسيط عنه، ويسمع لصوت الوسيط: "أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً"، والفدية التي وجدها الوسيط هي دم السيد المسيح المسفوك على عود الصليب عن خلاص جنسنا، وجاء في ترجمة "فانديك" أمام كلمة " وسيط"... " مترجم"، فالوسيط يتكلَّم نيابة عن الله للإنسان، أي يترجم للإنسان القصد الإلهي.

 

4- يقول " ى. س. ب هيفينور": "يتكلَّم عن تدخل ملاك رحمة ليختلس من الملائكة المهلكين فريستهم، وذلك بأن يفسر للمتألّم معنى عصا التأديب والتجاوب الصحيح لها {وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ}"(4).

ولعلّ التفسير السابق يتمشَّى مع الترجمة السبعينية للنص، حيث جاء فيها: "إن وُجِد ألف ملاك للموت لا يقدر واحد منهم أن يجرحه بطريقة مميتة. إن صمم في قلبه أن يرجع إلى الرب عندما يظهر للإنسان اتهامه ضده، ويظهر غباوته، فسيعينه حتى لا يسقط في الموت. ويجدد جسده مثل لصق أملس على حائط. وسيملأ عظامه بالنخاع. ويجعل جسمه غض مثل طفل" (أي 33: 23-25).

وأيضًا يتمشَّى مع " الترجمة القبطية": "فإن كان ألف من الملائكة مُحيطين بهم فلا يضرَّهم واحد، فإن كان هُم تفكَّروا في قلوبهم أن يرجعوا إلى الربّ، ويقرّوا بذنوبهم أمام الناس، فنسمة حياتهم لا تقع، اللهم افتده من الهُبوط إلى الموت، ويتجدَّد جسدهم وتمتلئ عظامهم نخاعًا، ويلين لحمه كالطفل ويقف معزّيًا للبشر" (أي 33: 23-25) فقد رأى البعض في هذا الوسيط ملاك، ورأى آخرون أنه معلم، أو نبي، أو أنه أليهو نفسه(5).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(1) تفسير سفر أيوب جـ4 ص 1149.

(2) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير سفر أيوب جـ3 ص 99.

(3) تفسير سفر أيوب جـ2 ص 138.

(4) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ3 ص 53.

(5) راجع القمص تادرس يعقوب - تفسير سفر أيوب جـ4 ص 1165.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1596.html

تقصير الرابط:
tak.la/6jmjykx