ج: 1- فعلًا صمت أليهو طوال جولات الحوار الثلاث التي دارت بين أيوب وأصدقائه الثلاثة، ولا ندري كم استغرقت من الأيام. لم ينطق ببنت شفة ولم يُعلِّق على قول أحد منهم، حتى شكَّ البعض في حقيقة شخصيته، ولكن يبدو أن هناك عدد آخر من الأصدقاء حضروا بعض هذه الحوارات ومن هؤلاء أليهو الذي حضر جميع الحوارات، وكان يشعر بصغر سنه وضآلته بجوار هؤلاء الشيوخ " وَقَالَ: أَنَا صَغِيرٌ فِي الأَيَّامِ وَأَنْتُمْ شُيُوخٌ، لأَجْلِ ذلِكَ خِفْتُ وَخَشِيتُ أَنْ أُبْدِيَ لَكُمْ رَأْيِيِ. قُلْتُ: الأَيَّامُ تَتَكَلَّمُ وَكَثْرَةُ السِّنِينَ تُظْهِرُ حِكْمَةً" (أي 32: 6، 7)، ولهذا السبب ظل أليهو صامتًا وكأنه غير موجود، بينما في الحقيقة كان موجودًا بكل كيانه، يصغي للكلمات والعبارات بكل جوارحه، ويضع آمالًا بأن ما سيأتي من أقوال سيُصلح ما سبق منها، ولكن دون جدوى، وأخيرًا تكلَّم مُلخّصًا المشكلة، والأسباب التي أثارت غضبه: "عَلَى أَيُّوبَ حَمِيَ غَضَبُهُ لأنَّهُ حَسَبَ نَفْسَهُ أَبَرَّ مِنَ اللهِ. وَعَلَى أَصْحَابِهِ الثَّلاَثَةِ حَمِيَ غَضَبُهُ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا جَوَابًا وَاسْتَذْنَبُوا أَيُّوبَ" (أي 32: 2، 3)، مع ملاحظة أن أيوب لم يحسب نفسه " أَبَرَّ مِنَ اللهِ " لكنه جعل نفسه بارًا أمام الله، أمَّا أليهو فقد ظن أن أيوب يريد أن يجعل نفسه بارًا أكثر من الله... نعم أليهو ظنَّ ذلك مع أنه لم يحدث، وقال أليهو لأيوب: "قُلْتَ: أَنَا بَرِيءٌ بِلاَ ذَنْبٍ. زَكِيٌّ أَنَا وَلاَ إِثْمَ لِي... هَا إِنَّكَ فِي هذَا لَمْ تُصِبْ" (أي 33: 9، 12).
ويقول " القديس يوحنا الذهبي الفم": "لم يحمى غضب أليهو لكون أيوب أعلن أنه بارٌ، بل لأنه أعلن أنه بارٌ أمام الرب. إذ قد استدعاه كشاهد، أو لأن أليهو ظن أن أيوب أقام دعوى لدى (ضد) الله، لأنه أن يُبرِّر الإنسان نفسه، فهذا شيء ليس له أهمية عظيمة، لكن أن يُبرِّر الإنسان نفسه بنية أن يقيم دعوى لدى (ضد) الله، فهذا هو الأمر غير اللائق، والكتاب يقول: "لا تبرّر نفسك أمام الرب" (سيراخ 7: 5). وبالحق فإن الأصدقاء الثلاثة اغتاظوا أيضًا لهذا السبب وقالوا: "هل يوجد مائت بار أمام الرب" (أي 25: 4) فماذا أضاف أليهو؟ إذ أنهم هم أنفسهم وجهوا له نفس التوبيخات. لكن إن كان هذا صحيح، فأي كفر مرعب من جانب أيوب، لو ظن أنه كان أكثر برًا من الله!
ما الذي حدث (يا أليهو)؟ هذا لم يكن فكر أيوب، إنما أليهو هو الذي فهم هكذا (من ذاته)، لكن أيوب لم يتكلَّم من وجهةٍ أنه كان أكثر برًا من الله، بل بفكرة أن الله كان هو المسئول عن هذه البلايا، ولكنه لم يلم الله كظالم، بل هكذا فهم أليهو. لكنه مُحق في توبيخ الأصدقاء الثلاثة، لأنهم جحدوا وأنكروا دور الله"(1).
2- ظل أليهو طوال جولات الحوار لا يصغي فقط، بل كان يتأمل في الأقوال والآراء التي طُرحت أمامه: "فَتَأَمَّلْتُ فِيكُمْ وَإِذْ لَيْسَ مَنْ حَجَّ أَيُّوبَ، وَلاَ جَوَابَ مِنْكُمْ لِكَلاَمِهِ" (أي 32: 12)، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. فقد دافع أصحاب أيوب عن العدالة الإلهيَّة باتَّهام أيوب، فلو لم يكن أيوب شريرًا أكثر من الكل ما حلَّت به كل هذه الكوارث التي لم تحل بأحد غيره، فالإنسان يحصد ما زرعه، "وَاسْتَذْنَبُوا أَيُّوبَ" بدون وجه حق. أمَّا أيوب فقد دافع عن نفسه بالالتجاء للعدالة الإلهيَّة ملتمسًا أن يقف أمام منبر العدل الإلهي ويُحاكم من الديان العادل.
ويقول " تشارلس ماكنتوش": "وما كانت نصيحة هؤلاء الأفراد إلَّا مجرد كلام خلو من كل معرفة، وما من واحد فيهم عرف داء أيوب، لا بل أكثر من ذلك أنهم لم يعرفوا صفات الله أو غرضه في معاملاته مع عبده المحبوب... لم يعرفوا كيف يصوّرون الله لأيوب، وبالتبعية لم يعرفوا كيف يقودون ضمير أيوب إلى حضرة الله، وبدلًا من قيادته إلى الحكم على الذات جعلوه يتشبث بتبريرها. إنهم فاهوا ببعض حقائق ولكنهم لم يفوهوا بالحق عينه فقد جاءوا بالاختبار والتقليد والقضاء أمَّا الحق فلم يعرفوه... وبدلًا من إسكات أيوب جعلوه يدخل في مناقشة طويلة يكاد لا يكون لها آخر فهو يجيبهم كلمة بكلمة، لا بل أكثر من ذلك... صحيح أن أصحاب أيوب كانوا مخطئين، مخطئين في أفكارهم من جهة الله ومخطئين في طريقتهم التي عاملوا بها أيوب... ما كان ممكنًا لهم البتة الوصول إلى اتفاق أو تفاهم فهو عامل ومُصرّ على تبرير ذاته وهم مصرُّون على عكس ذلك. هو لم يكن في حالة الخضوع والانكسار، وهم لم يزيدوه بطريقتهم التي اتبعوها إلَّا تمسكًا بهذه الحالة... لم يكن مستطاعًا لأيوب أن يرى أي نقص في نفسه، كما لم يكن مستطاعًا لهم أن يروا فيه شيئًا صالحًا. كان هو مُصمِّمًا على التمسك بكماله ولم يكونوا هم أقل تصميمًا منه على إظهار عيوبه ونقائصه، فلم يكن بين الطرفين أن نقطة تماس يمكنهم أن يستخدموها كأساس للوصول إلى تفاهم بينهم.
لم يروا فيه تأوهات الندم والتوبة كما هو لم يرَ فيهم روح العطف والشفقة. فكل من الطرفين كان يسير في جهة مضادة، وما كان ممكنًا لهما أن يتقابلا، وقصاري القول كانت الحالة تتطلب علاجًا يختلف عن هذا تمام الاختلاف وهذا العلاج أو هذه الخدمة نراها في شخص أليهو"(2).
كما يقول " ماكنتوش " أيضًا: "إننا لا نسمع شيئًا عن أليهو إلَّا عند وصولنا الأصحاح الثاني والثلاثين مع أنه واضح جدًا أنه كان موجودًا ومُصغيًا لكل المناقشة، وقد سمع الطرفين بكل صبر وطول أناة وحكم في النهاية على أن كليهما كان على ضلال مُبين، فأيوب كان مخطئًا في الدفاع عن نفسه وأصحابه كانوا مخطئين في محاولتهم إدانته...
إن خدمة أليهو تمتاز بميزة خاصة وتختلف تمام الاختلاف عن خدمة الأصحاب الثلاثة... أنه يُدخِل الله في الأمر، ويضع حدًا نهائيًا للمجادلة بين أيوب وأصحابه... وهذه هي الطريقة الوحيدة لإنهاء كل مجادلة وإسكات كل فم وإبطال كل حرب كلامية... فأصحاب أيوب قد طرقوا كل باب وجالوا في كل ميدان. قالوا أشياء حقيقية كثيرة وجربوا أجوبة عديدة ولكنهم مع كل ذلك لم يجدوا جوابًا! نعم فإنه لا يوجد في دائرة الأرض أو الطبيعة أي جواب للقلب المتمسك ببره الذاتي. الله وحده يستطيع الإجابة على قلب كهذا...
هنا يقف أليهو على طرفي نقيض معهم فهو يقول الحق لأيوب ولكنه لا يثقل يده عليه. قد تعلَّم أليهو تلك القوة السريعة العظيمة المتضمنة في الصوت الخفيف الهادئ"(3).
ويقول " لويس صليب": "كان من الطبيعي أن هؤلاء الأصحاب لا يصلون إلى التفاهم مع أيوب لأنهم طلبوا منه ما لا يمكنه تقديمه، وهو كان محتاجًا إلى ما لم يمكنهم من إعطائه له، فكانوا يتكلَّمون معه على أساس غير صحيح، وفي الوقت نفسه لم يستطيعوا أن يوصلوه إلى الأساس الصحيح لمجاوبتهم، فهو كان يبرّر نفسه وهذه غلطته، وهم كانوا يدينونه وذلك نقصهم... لم يرضَ أن يعترف أمامهم بشيء وهم لم يرضوا أن يتسامحوا معه في شيء، وعلى ذلك انقطع كل أمل في التفاهم.
وهنا برز أليهو فكان الرجل الكفء لهذا الموقف. وُجِد ومعه العلاج الذي يحتاجه أيوب ولم يستطِع أصحابه أن يقدموه له. فقد كان هو الرجل الذي طلبه أيوب وتمنى أن يقف أمامه... لمَّا كفَّ الأصحاب الثلاثة عن الكلام، وتُرِك أيوب متحصنًا في بره الذاتي، حمى غضب أليهو مضاعفًا، ضد أيوب لأنه فشل في تمجيد الله بواسطة الاعتراف ببره تعالَ، وضد الأصحاب لإصرارهم العنيد على اتَّهامهم بينما عجزوا عن إقامة الدليل على صحة دعواهم"(4).
3- صَمتْ أليهو طوال فترات الحوار يعكس تواضعه وحكمته وأدبه، فلم يتدخل حاسبًا نفسه أنه الأصغر والأقل شأنًا من أيوب وأصدقائه، في زمن كانوا يقيمون وزنًا كبيرًا للشيوخ، حتى أن أليفاز التيماني بكَت أيوب قائلًا: "مَاذَا تَعْرِفُهُ وَلاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ؟ وَمَاذَا تَفْهَمُ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَنَا؟ عِنْدَنَا الشَّيْخُ وَالأَشْيَبُ، أَكْبَرُ أَيَّامًا مِنْ أَبِيكَ" (أي 15: 9، 10)، ولم يتكلَّم أليهو إلَّا بعد أن صمت الأصدقاء الثلاثة، وانتهى أيوب من كل ما يريد أن يقول: "فَكَفَّ هؤُلاَءِ الرِّجَالُ الثَّلاَثَةُ عَنْ مُجَاوَبَةِ أَيُّوبَ لِكَوْنِهِ بَارًّا فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ" (أي 32: 1). عندئذ تكلَّم أليهو ملتمسًا فقط مجد الله وليس مجد إنسان، وجاء هذا متوافقًا مع اسمه (إلهي هو)، فكان هو اسمًا على مُسمى.
4- يقول " القمص تادرس يعقوب": "لم يعد أحد على المسرح، فقد جلس أصدقاء أيوب الثلاثة على الأرض ليس لديهم كلمة واحدة ينطقون بعد بها. ولم يعد أمام أيوب بعد دفاع أكثر مما نطق به، فصارت الحاجة إلى تدخل وسيط، وكان أليهو هو ذاك الوسيط الذي ظهر في هذه الأصحاحات... يتعجب بعض الدارسين لتدخل أليهو في النهاية، بدون مقدمات، ودون ذكر له. فظن البعض أن الوحي الإلهي ألْهَمَ أحد رجال الله ليضع هذه الأصحاحات (32-37). لكن تدخل أليهو هنا طبيعي، فهو كشاب كان يليق به أن ينتظر حتى يُفرغ الشيوخ ما في جعبتهم. وهذا ما كان متبعًا في القديم، خاصة في الشرق الأوسط، لم يتدخل قبل ذلك، لأنه لم يرد أن يقاطع الشيوخ، كما أراد أن يتأنى ليرى ويدرس فكر كل شيخ أو فيلسوف منهم، ويرى ما تُسفر عنه هذه المناظرات في النهاية. كان أليهو يجيد الاستماع، ينصت إلى المباحثات والمناظرات بين الشيوخ، الآن يتقدَّم مستأذنًا أن يُعبّر عن رأيه اللاهوتي في المشكلة... فقد خدم أليهو كمن جاء سابقًا لوجه الرب، يُعد له الطريق، حيث يأتي الرب في الزوبعة (ص 38... إلخ.).
يمكن القول أنه قد انتهى ليل المباحثات الطويل، وبدأ فجر يوم الحكمة يشرق ليبدد الظلمة. امتاز أليهو بإدراكه وتقديره لغنى نعمة الله التي لم ينشغل بها الشيوخ كثيرًا، لقد قدم شيئًا جديدًا ونافعًا... وتلمح في أخلاقه الأدب والتواضع، كما يتحلّى بالجراءة واحترام الآخرين غير أنه غير مُستعبد لآراء العامة، بل مُقاد بالروح القدس... أوضح أليهو أنه يوجد سبب آخر للألم، ليس كعقاب للخطية، بل كوسيلة لتشجيع أولاد الله وتنقيتهم وتطهيرهم..."(5).
5- في التراث الإسلامي نجد اعترافًا بأصدقاء أيوب الثلاثة، وأيضًا أليهو، فيقول "الثعلبي" (أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري): "فلما رأى أصحابه الثلاثة ما ابتلاه الله به اتَّهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه. فلما طال به البلاء، انطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه ولاموه وقالوا له: تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت عليه. قال وكان حضر معهم فتى حديث السن وكان قد آمن به وصدَّقه فقال: إنكم تكلَّمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لأسنانكم، ولكنكم قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم. فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم... ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وحبيبه وخيرته وصفوته من أهل الأرض في يومكم هذا... ولا أن أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلى النبيين والصدوقين والشهداء والصالحين. ثم أن بلاءهم ليس دليلًا على سخطه عليهم ولا هوانهم عليه ولكنه كرامة وخيرة لهم..."(6).
_____
(1) سفر أيوب - إصدار مكتبة المحبة ص 179، 180.
(2) ترجمة أحد الإخوة - أيوب وأصحابه ص 41-45.
(3) ترجمة أحد الإخوة - أيوب وأصحابه ص 48، 49، 52، 53، 84.
(4) تفسير سفر أيوب جـ2 ص 115، 116.
(5) تفسير سفر أيوب جـ4 ص 1128، 1129.
(6) قصص الأنبياء المُسَمى عرائس المجالس ص 138.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1594.html
تقصير الرابط:
tak.la/bwwvz3q