يرى " م. ريجسكي " أن الذين كتبوا سفر أيوب أرادوا التخفيف من حدة أيوب تجاه الله، ولذلك أدخلوا عدة إضافات مثل (أي 27: 8-10، 13-23) بهدف التأكيد على عقوبة الإنسان الشرير، فبينما كان أيوب يركز على سعادة الأشرار، غيَّر رأيه في هذا المقطع واعترف أن الأشرار يعيشون في تعاسة وشقاء، ثم عاد وبكَّت أصدقاءه لأنهم قالوا أن الشرير لا بد أن ينال عقوبته على الأرض، ويقول " م. ريجسكي " عن هذا الإضافات التي أُدخلت لتجميل صورة أيوب: "وفيها يؤكد أيوب على حين غُرة أن الشرير ينتظره حساب عسير من قِبل الإله، ومع أنه في كل فقرات الكتاب الأخرى يهاجم بحزم موضوع الديانة الرسمية، حول أن معاقبة الشرير حتمية أثناء حياته. ولكن أيوب الذي يلتقي مع آراء أصدقائه الثلاثة في المقطع المذكور، يُلقي عليهم بعد حين اللوم لأن كلامهم هراء... هكذا سعى المحرُّرون الورعون (الذين كتبوا السفر) أن يثلموا الطابع الجسور والكافر الذي تحمله أحاديث أيوب، وأن يقدِّموا شكوكه في عدالة يهوه وكأنها مجرد ضعف مؤقت اعترى هذا الإنسان المُعذَب، لكنه تجاوزه وتاب فغفر له الإله"(1).
وجاء في هامش "الترجمة اليسوعية": "من الصعب أن نُنسب إلى أيوب فقرة الخطاب (أي 27: 13-23) ويبدو أنها لأحد أصدقائه، وهو يُعالج هنا إحدى نظرياته، والراجح أنها لأليفاز"(2).
ج: 1- يرى البعض أن أيوب سبق وأوضح نجاح الأشرار (أي 21: 7-13)، وتساءلوا: كيف يناقض أيوب نفسه ويؤكد أن الشرير لا ينجو من دينونة الله العادلة، وأن بنيه يُدفعون للسيف... إلخ. (أي 27: 7-23)، ولذلك قالوا أن ما جاء في هذا المقطع يمثل الخطاب الثالث لصوفر النعماتي الذي لم يرد له ذكر في السفر، ونُسب خطأ لأيوب، وقال آخرون أن هذا المقطع يرجع لأليفاز التيماني. لكن من المعروف أن صوفر تحدَّث مرتين، وأفرغ كل ما في جعبته، ولذلك آثر الصمت في المَرّة الثالثة، ولذلك فإن ما جاء هنا في (أي 27: 7-23) يخص أيوب بعد أن وافق أصدقائه جزئيًا على أن الأشرار غالبًا ما يجازون على شرورهم في هذه الحياة، وليس دائمًا، وبعد أن كان أيوب يؤكد على سعادة الأشرار ونجاحهم في هذه الحياة صرَّح بأنهم يجازون، ووافق أصدقائه على النهاية الكارثية للأشرار. وما جاء في (أي 27: 13-23) عبارة عن قصيدة تُعدُّ صدى لِمَا سبق وقاله: "لِيَكُنْ عَدُوِّي كَالشِّرِّيرِ، وَمُعَانِدِي كَفَاعِلِ الشَّرِّ" (أي 27: 7).
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "كنا نتوقع أن يبدأ صوفر دوره في المباحثة الثالثة، لكنه صمت، فانطلق أيوب يتحدَّث. يكرر أيوب تأكيد براءته (أي 27: 1-6)، ويذكر ثانية التُّهم التي وجهها أصحابه ضده سواء بالتلميح أو صراحة، وهو يقسم بالله الذي نزع حقه، ثم يتكلَّم أيوب عن نهاية الشرير (إش 27: 7-23).
والآن وبدون إنذار يظهر أيوب كمؤمن غيور بنفس اعتقاد أصحابه أن الشر هو سبب النكبة! وأن المرائي سوف يتبيَّن أخيرًا أنه قد خُدع، لأن الله سوف يسلب نفسه، ولن يكون له رجاء عندئذ، وصلاته لن تُستجاب، وسوف يحل به الضيق بالتأكيد، وبالنسبة للأشرار فقد اتفق مع أصحابه أن الله سوف يحاسبهم، ولكنه اختلف معهم بأن القصاص لا يحل عليهم سريعًا، بل يتأخر بعض الوقت، ولكن الدمار سوف يلاحقهم هم وأولادهم"(3).
2-
يرى البعض أن
أيوب قد غيَّر مشاعره وآراءه جزئيًا، ويرى البعض أن
أيوب كان
موافقًا
لأصدقائه من جهة عدالة الله، ولكن اختلف معهم من جهة تطبيق هذه العدالة
عليه، والحكم عليه بأنه إنسان شرير بسبب هذه الشرور التي أصابته، ويقول
"ى. س. ب. هيفينور": "تُقدِّم هذه الفقرة جملة صعوبات. إن الصلة
بين تأكيد
أيوب لبراءته وبين هذه الصورة لنهاية الشرير يصعب الوصول إلى عمقها.
فقد أكد الأصحاب أن الشر هو السبب للنكبة وتبعًا لذلك فقد أنكروا براءة
أيوب.
إن هذا الإنكار هو النتيجة المنطقية لاعتقادهم. والآن، بدون أي إنذار يظهر
أيوب
كمؤمن غيور بنفس الاعتقاد، وثانيًا تضاد الفقرة قطعيًا ما سبق
أيوب وذكر عن
نجاح الأشرار انظر (أي 21: 22 وما بعده، 24: 1 وما بعده)... ومن الجهة الأخرى،
فإن رنين الفقرة يُظهر أنها في مكانها تمامًا على ألسنة الأصحاب. أمامنا
بديلان، فيمكن
أن نحتج بأن
أيوب يغير شعوره السابق (أنه دعم كل حجج أصحابه) هذا تعليق " ج. س. مورجان " على الفقرة، وفي (ص 26) نجده ينافس
بلدد في تفخيم عظمة الله
بدون نبذ اعتقاد أوسع من اعتقاده. وربما، في هذه الفقرة قصد المؤلف أننا نفتكر
في
أيوب كشخص يعطف على الحقيقة العامة في آراء أصحابه، ولكنه لا يرضى أن يقبل
الاعتباط وضيق تطبيقها، والبديل الآخر كثير من العلماء ينسبون هذا القسم
لصوفر، وذلك يجعل كل واحد من الأصحاب يتكلَّم ثلاث مرّات"(4).
3- يقول "فرانسيس أندرسون": "فلا داعٍ إذًا لاعتبار أن (أي 27: 7-23) هو الحديث المفقود الثالث لصوفر، مع أن هذا الاقتراح قد لقى قبولًا واسع النطاق عند الدارسين على مدى قرنين من الزمان. وحيث أن أيوب لا ينكر عدالة الله في أي مكان في السفر، فليس غريبًا أن يؤكد على ذلك هنا. والاختلاف بين أيوب وأصحابه ليس حول ما إذا كان الله عادلًا أم لا، ولكنه الخلاف حول كيفية رؤية عدالة الله وهي تعمل في أحداث معينة وبخاصة في تجارب أيوب. فالأصحاب يعتقدون أنهم يعرفون الجواب وقد قدَّموه إلى أيوب، ويعلم أيوب أنهم مخطئون ليس في تأكيد عدالة الله في قضيته الخاصة، فلا هو بقادر على رفض رأي الأصحاب ولا هو بقادر على الوصول إلى اقتناع عقلي"(5).
4- اتَّهم أصدقاء أيوب أيوب بأنه رجل شرير ولذلك حلَّ ما حلَّ به من نكبات، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. أمَّا أيوب فأراد أن يُعبِّر عن كراهيته للشر فقال: "لِيَكُنْ عَدُوِّي كَالشِّرِّيرِ وَمُعَانِدِي كَفَاعِلِ الشَّرِّ"... فمن هو عدو أيوب ومعانديه..؟ هم الذين اتَّهموه زورًا وبهتانًا، ظلمًا وعدوانًا، وطبقًا لأحكام الشريعة أن من يتَّهم إنسانًا بريئًا بجُرم معين، ثم اتضح جليًا أن هذا المُتهَم بريء، فيطبق الحكم على الشخص الظالم الذي اتَّهمه زورًا، ولهذا طلب أيوب من الله استنزال اللعنات على من اتَّهموه وهو بريء، ولذلك فأنه طبقًا للشريعة فإن عقوبة هذا الجرم ترتد عليهم، وهو ما يتفق مع العدالة الإلهيَّة، وإن كان أصحاب أيوب يدخلون في نطاق المتهمين إياه إلَّا أن اللعنات لم تحلّ عليهم لأن الرب صفح عنهم بعد أن تشفع لهم أيوب البار.
5- قال أيوب البار عن الإنسان الشرير: "إِنْ كَثُرَ بَنُوهُ فَلِلسَّيْفِ، وَذُرِّيَّتُهُ لاَ تَشْبَعُ خُبْزًا. بَقِيَّتُهُ تُدْفَنُ بِالْمَوْتَانِ، وَأَرَامِلُهُ لاَ تَبْكِي" (أي 27: 14، 15).
وفي " الترجمة السبعينية": "والذي يتبقوا له أحياء من بينهم، سيهلكون بميتة شنيعة ولن يشفق أحد على أراملهم".
وفي " الترجمة اليسوعية": "والباقونَ يُدفنونَ بالوَباءِ وأرامِلهُ لا تبكينَ عليهم".
وفي " ترجمة كلمة الحياة": "ذُرّيَّتِهُ تَموُتُ بالوَباءِ، وأرَاملهُم لا تَنُوحُ عَليهم".
وفي " الترجمة العربية
المشتركة": "فيما الباقونَ يموُتونَ بالوبأ، وأرامِلهُم
لا يَبكينَ عليهم".
فواضح من الترجمات المختلفة أن المقصود بالموتان هي الميتة الشنيعة بالوباء، فيدفن الميت سريعًا بدون أية مظاهر للتكريم، وأرامله لا يبكينه لأنه طالما ظلمهن، ويقول "القمص تادرس يعقوب": "بَقِيَّتُهُ تُدْفَنُ بِالْمَوْتَانِ، وَأَرَامِلُهُ لاَ تَبْكِي: تصير ذريته ثقلًا على المجتمع، حتى في موتهم لا يكرمهم أحد، وكما قيل في إرميا: "يُدْفَنُ دَفْنَ حِمَارٍ" (إر 22: 19). متى ماتوا لا تبكي عليهم أراملهم، فأنه ليس من داعٍ للحزن عليهم، إذ تستريح الأرامل منهم، ويحسبن موتهم راحة لهن.
ويقول القديس أمبروسيوس:
يصف أيوب النصيب البائس للأشرار، فإنه وإن كان لهم الكثير من الأطفال، يكونون بلا ذرية، إذ ينقصهم النسل الصالح والأعمال التي تستحق التقدير. بالحقيقة فإن الذرية ليست تلك التي على الأرض، بل في السماء. لذلك مثل هؤلاء ينقصهم ميراثهم، ويكون الموت هو نهايتهم. بالرغم من أنهم يجمعون الثروة فإنهم يشحذون، إذ عندما يموتون يكونون في عوز حيث لا يجدون راحة. ليس من يشفق على أراملهم"(6).
_____
(1) ترجمة الدكتور آحو يوسف - أنبياء التوراة مع النبوات التوراتية ص 240، 241.
(2) الكتاب المقدَّس - العهد القديم - طبعة دار المشرق - بيروت سنة 1991 ص 1084.
(3) تفسير سفر أيوب جـ3 ص 972.
(4) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ3 ص 45.
(5) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - أيوب ص 249، 250.
(6) تفسير سفر أيوب جـ3 ص 986، 987.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1580.html
تقصير الرابط:
tak.la/ph9kajb