ج: 1- في رد أيوب هنا على أليفاز التيماني أوضح أن هناك الكثيرين من الأشرار يمضون حياتهم في سلام وأمان ولا ينالون أية عقوبة عن خطاياهم في العالم الحاضر، حتى أن الأمور تبدو وكأنها تسير في الطريق الصحيح، وتساءل أيوب: "لِمَاذَا إِذْ لَمْ تَخْتَبِئِ الأَزْمِنَةُ مِنَ الْقَدِيرِ، لاَ يَرَى عَارِفُوهُ يَوْمَهُ؟" (أي 24: 1).
وبادئ ذي بدء نقول أن جميع الأزمنة مكشوفة أمام عين القدير، فهو العالِم بكل شيء وعيناه تخترقان أستار الظلام، فهو يعلم الأزمنة الماضية، والأزمنة الحاضرة هو يدبرها ويعتني بها، والأزمنة المستقبلية مكشوفة أمامه، فقال السيد المسيح لتلاميذه: "لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ" (أع 1: 7) وفي مجمع أورشليم قال القديس يعقوب: "مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ مُنْذُ الأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ" (أع 15: 18)، أمَّا الأشرار فيظنون أن الله لا يعرف الأزمنة الرديئة وما يجري فيها من آثام ومآسي، وينطبق عليهم قول الله لحزقيال النبي: "ثُمَّ قَالَ لِي: أَرَأَيْتَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا تَفْعَلُهُ شُيُوخُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ فِي الظَّلاَمِ، كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَخَادِعِ تَصَاوِيرِهِ؟ لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الرَّبُّ لاَ يَرَانَا! الرَّبُّ قَدْ تَرَكَ الأَرْضَ!" (حز 8: 12)، وأيوب يتساءل: " لِمَاذَا إِذْ لَمْ تَخْتَبِئِ الأَزْمِنَةُ مِنَ الْقَدِيرِ؟ " أي لماذا تختبئ الأزمنة الشريرة إذ يحكم عليها القدير وينهيها؟!، ولماذا يختبئ الأشرار الذي تجبروا في الأرض إذ يحكم عليهم القدير ويفنيهم..؟! وإذا وضعنا بجوار هذه الترجمة بعض الترجمات الأخرى فإن المعنى يتضح أكثر، ففي " الترجمة اليسوعية": "لماذا يفلت الأشرار يا رب من ساعتهم ويتخطوا الحد (المعين لهم)".
وفي " ترجمة كلمة الحياة": "لِماذَا إذًا لم يُحدّد القَدِيرُ أزمِنَةَ المُحاكَمةِ؟ ولِماذَا لا يَرىَ مُتَّقُوهُ يَومَهُ؟".
وجاء في هامش " الكتاب المقدَّس الدراسي": "(24: 1-12) يصف أيوب الظلم الشديد الموجود في العالم، فنهب من لديهم ممتلكات (انظر آية 2)، ومن ليس لديهم شيء (انظر الآيات 3، 4) هو أمر بغيض في عينيه. ولكن ربما جعلته معاناته يتعاطف مع الفقراء الذين يكدون للحصول على الرزق (آية 5) و"يقطفون كرم الشرير" (آية 6)، والمشهد الذي يرسمه أيوب بكلماته يُمزِّق القلب: فهو يصور رجفة العري القاسية في البرد القارص (الآيات 7، 8)، وخطف " اليتامى عن الثدي " (آية 9)، والأيادي ممتلئة بحِزم الحصاد لأناس يعودون جائعين (آية 10)، والذين يعملون في معاصر الكروم ولكنهم يعانون من العطش (آية 11)، والأنين الصاعد من المشرفين على الموت ومن المجروحين (آية 12). لا يقدر أيوب أن يفهم سبب صمت الله وعدم تحركه (الآيتان 1، 12) في مواجهة تلك المآسي، ولكن حقيقة أن الله لا يحرك ساكنًا في تلك المآسي تدحض نظرية المشيرين في أسباب الألم. لم يعد أيوب خارج نطاق نعمة الله"(1).
2- يقول " القمص تادرس يعقوب": "يتساءل أيوب: لماذا لا يقيم الله أيامًا خاصة بالقضاء، لكي ينظر في حال الأيتام والأرامل والمساكين والمظلومين، فإن القضاة البشريين يسقطون أحيانًا في أخذ رشوة من الأغنياء الظالمين (2-4)..؟ يدهش أيوب من الأشرار أنهم وهم خاضعون للزمن، يعيشون إلى حين ثم يرحلون، لا يخشون الله الذي يحتضن كل الأزمنة، ولا يفلت منه زمان، يرى أيوب أن كل إنسان يظهر في زمنٍ معينٍ ثم يختفي بموته، ولا يعلم يوم مجيء الرب لمحاكمته، فكان يليق به ألا يمارس الظلم ضد أخيه، لعله بهذا يحوّل الاتَّهام الموجه ضده إلى أصدقائه الذين لا يخشون الله، ولا يبالون بصديقهم أيوب، بل يمارسون القسوة ضده...
لذا يليق بالأشرار ألا يظنوا
أنهم يفلتون من العدل الإلهي، إذ الماضي كما الحاضر والمستقبل أمام حضرة الله
ليس لهم أن يقولوا: "الرَّبُّ لاَ يَرَانَا! الرَّبُّ قَدْ تَرَكَ
الأَرْضَ!" (حز 8: 12، 9: 9). ليس للأشرار أن يقولوا: بأن أشرارًا عاشوا
في الماضي وعاشوا كل حياتهم في يسر ورخاء ونجاح، فإنهم وإن ماتوا سيقومون
ليدانوا أمام الديان الذي لا يُخفى عنه شيء. لقد أخفى الرب يوم مجيئه عن البشر،
حتى يكف الكل عن شرورهم لئلا يفاجئهم بغتة. يُدعى يوم الدينونة العام يوم الرب
(أع 2: 20) وهو آتٍ حتمًا لكننا لا نعرفه.
ويقول البابا غريغوريوس الكبير:
الأزمنة ليست مخفية عن القدير... نحن نختفي في داخل أقسام الزمن، إذ نحن كائنات مخلوقة، أمَّا الله خالق كل الأشياء، فيحتضن أزمنتنا... وبخصوص الأبدية لنا، مثل هذه الأفكار، فإننا لسنا بعد نعرف الأبدية"(2).
3- ما معنى " يَنْقُلُونَ التُّخُومَ" (أي 24: 2)... أساسًا كانت التُّخوم تستخدم لتحديد مساحات الأراضي الزراعية التي يمتلكها الأشخاص، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وأن المالِك الظالِم الطامِع في أرض جاره ينقل هذه التُّخوم ويجور على أرض جاره، فيغتصب بعض الأجزاء منها، وعوضًا عن تقدِّيم الحب والمعونة للجار يغتصب أجزاء من أرضه، وكان هذا يمثل مخالفة خطيرة لوصية صريحة أعطاها الله لشعبه وهم ما زالوا في أرض سيناء وقبل أن يدخلوا أرض الموعد: "لاَ تَنْقُلْ تُخْمَ صَاحِبِكَ الَّذِي نَصَبَهُ الأَوَّلُونَ فِي نَصِيبِكَ الَّذِي تَنَالُهُ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِكَيْ تَمْتَلِكَهَا" (تث 19: 14)، ولعن من يخالف هذه الوصية: "مَلْعُونٌ مَنْ يَنْقُلُ تُخْمَ صَاحِبِهِ" (تث 27: 17)، وقال سليمان الحكيم: "لاَ تَنْقُلِ التُّخْمَ الْقَدِيمَ الَّذِي وَضَعَهُ آبَاؤُكَ" (أم 22: 28)... " لاَ تَنْقُلِ التُّخُمَ الْقَدِيمَ. وَلاَ تَدْخُلْ حُقُولَ الأَيْتَامِ" (أم 23: 10).
4- يقول " لويس صليب": "أن أيوب يُشيِّر بصفة خاصة إلى الأمر الأول وهو اختلاس الأراضي عن طريق نقل التُّخوم وهي حيلة قديمة يلجأ إليها الناس الأشرار، سيّما المُلاَّك، وخاصة الأقوياء وأصحاب الجاه والنفوذ منهم، فهم إذ يملكون أرضًا تكون لهم الفرصة أن يزحزحوا التُّخوم قليلًا قليلًا، وبذلك يسرقون أرض الآخرين شيئًا فشيئًا. وهذا ما يفعله ليس الناس العاديون فقط بل ما يفعله الملوك أيضًا وسائر الحُكام الاستعماريون، فهم يرون أرضًا جميلة خارج حدود بلادهم تصلح لأن تزيد من روعة امبراطوريتهم، فرويدًا رويدًا يسرقونها أو يغتصبونها من أصحابها، ثم يرون قطة أخرى تعطيهم منفذًا إلى البحر فيسرقونها أو يثيرون حربًا ويغتصبونها بقوة السلاح. هذا ما يحدث في أيامنا وهو عين ما كان يحدث في أيام أيوب، وفي كل عصر وجيل وأيوب يصوِّر الأمور كما هي حادثة حوله"(3).
_____
(1) الكتاب المقدَّس الدراسي ص 1227.
(2) تفسير سفر أيوب جـ3 ص 903، 904.
(3) تفسير سفر أيوب جـ2 ص 40، 41.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1573.html
تقصير الرابط:
tak.la/wk4q9vv