ج: 1- قال أيوب البار: "أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ، وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ" (أي 19: 25، 26).
وفي " الترجمة السبعينية": "نعم أنا أعلمُ أنَّه أبدي ذاك الذي سيخلصني على الأرض. أنه سيقيم جسدي الذي عانى هذه الآلام. لأن الرب هو الذي سبَّبها".
وفي " ترجمة الفولجاتا": "أعرِفُ أن فاديَّ حي. وأنا أقومُ على الأرضِ في اليوم الأخير ومن جديد... أرى في الحي إلهي" (راجع الخوري بولس الفغالي - وصايا الآباء الاثني عشر ص 343، 344).
وفي " الترجمة اليسوعية": "فاديَّ حَيّ وسيَقومُ الأخير، على التُّرابِ. وبَعدَ أن يُكونَ جِلْدي قد تَمزَّقَ أعاينُ اللهَ في جَسَدي".
وفي " ترجمة كتاب الحياة": "أمَّا أنَا فإنّي موُقن أنَّ فَاديَّ حيّ، وأنَّهُ لا بُدَّ في النّهايَةِ أنْ يَقُومَ على الأرضِ. وبَعْدَ أن يَفنَى جِلْدي، فإنّي بذاتي أُعاينُ الله".
وفي " الترجمة العربية المشتركة": "أعرِفُ أن شفيعي حَيّ وسأقوُم آجلًا من التُّراب. فتُلبَسُ هذه الأعضاء جِلْدي وبجسدي أُعاينُ اللهَ".
فواضح من الترجمات المختلفة أن أيوب يتكلَّم عن شخص واحد هو الولي الحي، أو الفادي الحي، أو الشفيع الحي، وليس عن شخصين أحدهما الولي والآخر لم يذكر اسمه، ولاحظ قول الكتاب " والآخِرَ " أي أخيرًا، ولم يقل والآخَر (بوضع فتحة على الخاء) كما اعتقد الناقد.
وولي الإنسان هو الأقرب إليه جسديًا، فالولي عليه أن يتزوّج أرملة أخيه أو قريبه ويقيم نسلًا يُدعى بِاسم الميت حتى لا ينقرض اسمه في إسرائيل (را 3: 9، 12، 4: 1)، والولي مُلزم بشراء أرض قريبه الذي مات: "إِذَا افْتَقَرَ أَخُوكَ فَبَاعَ مِنْ مُلْكِهِ، يَأْتِي وَلِيُّهُ الأَقْرَبُ إِلَيْهِ وَيَفُكُّ مَبِيعَ أَخِيهِ" (لا 25: 25) والولي له حق الانتقام لقريبه الذي قُتل: "وَلِيُّ الدَّمِ يَقْتُلُ الْقَاتِلَ. حِينَ يُصَادِفُهُ يَقْتُلُهُ" (عد 35: 19).
ويقول أيوب البار هنا أنه يعلم علم اليقين أن وليَّه حي لأنه هو الله ذاته، وليس إنسانًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقال: "أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ " وقد دعاه أيوب من قبل " شَهِيدِي وَشَاهِدِي" (أي 16: 19) فهو الذي سيحكُم ويبرّر أيوب الذي أدانه أصحابه وسخروا منه، وهذه صرخة جديدة تنطلق من قلب أيوب بعد أن أشرق عليه نور المعرفة الإلهيَّة، فبعد أن كان ينظر لله على أنه خصم وأسد مُفترس، عاد ليراه نصيره ووليه الذي يشهد ببراءته، وأنه بدون جسده حتمًا سيرى الله... كان من قبل يتساءل: إن مات رجل أفيحيا؟ أمَّا الآن فيؤكد حقيقة القيامة والحياة ورؤية الله بعد الموت.
وقالت إحدى الشاعرات الغربيات: "هل أحببتَ يا رب هذا الجنس الذي لم يحبك قط؟ هل لبستَ أزارنًا وصعدت به إلى السماء؟ وهل بجوار النهر البلوري تدافع عنَّا بلسان البشر؟ هل أنت قريبنا الحبيب؟ أيها الإله والقريب المُحب، ما أعظمك أيها الإنسان الكامل المجيد بعد الموت، يا من قطعت بقدميك طريقنا الوعر وتردَّدت في صدرك أنفاس البشر؟!"(1).
ويقول " ى. س. ب. هيفينور": "ما من مسيحي يمكن أن يقرأ الأعداد (25- 27) بدون اكتشاف أن الفقرة مرآة لذاك الذي هو " حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ" (عب 7: 25) الذي " أَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ" (2تي 1: 10). طبعًا، لم يكن أيوب داريًا بالجواهر التي لا تُثمَّن المُغلَّفة في كلماته. يقول مورجان: {كقيثارة تنفخ فيها الريح فتُخرج الموسيقى}. وينتهي الأصحاح بإشارة تحذير، أن ولي أيوب سيعاقب الذين تجمَّعوا ضده مفترضين أنهم شخَّصوا السبب الحقيقي لبلاياه"(2).
2- عندما قال أيوب: "وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ " لم يقصد أن هناك آخَر غير الولي الحي الذي هو الله، بل كان يقصد أن هذا الولي الحي القائم في السماء هو الذي سيقيم الحق على الأرض عندما يتجسَّد في ملء الزمان، ومع نهاية الزمان سيأتي ويُدين العالم: "هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ" (رؤ 1: 7)، ويقول " القمص تادرس يعقوب": " فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ": لقد آمن بالفادي القادم، وأنه يكون هو حياته وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ (في اليوم الأخير)". أنه يترقب مجيء المسيا كلمة الله المُتجسِّد القادم في ملء الزمان مُتجسِّدًا ليسلك بيننا على أرضنا. يرى البعض أنه يتكلَّم هنا عن مجيئه الأخير، حيث يأتي على السحاب، ويلتقي بنا نحن البشر كأرضيين، ويدخل بنا إلى شركة أمجاده... سيأتي على السحاب، لكن كما على الأرض، حيث يأمر الأموات، فيقومون من قبورهم، ويدخل بهم إلى عدم الموت وعدم الفساد"(3).
وقد قال الله على لسان إشعياء النبي: "أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ، وَلاَ إِلهَ غَيْرِي" (إش 44: 6) وقال ليوحنا الرائي: "أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبَدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ يَقُولُ الرَّبُّ الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي... أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ. الأَوَّلُ وَالآخِرُ" (رؤ 1: 8، 11). فلا يوجد شخصان أحدهما الأول وثانيهما الآخَر، بل هو شخص واحد، هو الولي الحي أولًا وأخيرًا.
3- لم يتوقع
أيوب تبريره على هذه
الأرض فقط "
وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ
" لأن
أيوب كان يؤمن بالقيامة العامة بدليل قوله في الآية التالية مباشرة: "وَبَعْدَ أَنْ
يُفْنَى جِلْدِي هذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ"
(أي 19: 26). ويقول " فرانسيس أندرسون":
" أن هناك أسانيد تؤيد إيمان
أيوب بالقيامة العامة، ولذلك لم يكن رجاءه الوحيد
في تبرير نفسه على هذه الأرض فقط، ومن هذه الأسانيد:
أولها: أنه لا يوجد داع لأيوب لأن يُودِع شهادة مكتوبة إذا كان يتوقع أن يتبرَّر قبل موته.
وثانيهما: أن الكلمة المترجمة (أرض) (25) كما اُستخدمت في السفر مرتبطة دائمًا بالهاوية، وعبارة أن " وَلِيِّي حَيٌّ " هي رد مباشر على حقيقة موت الإنسان (أي 14: 10)، وتكرار الكلمة (بعد ذلك) في وضع بارز في بداية عددي (25، 26) يوحي بمرور فترة من الزمن، وحتى لو أن المعنى " أخيرًا" (في الإنجليزية): "وأخيرًا على الأرض يقوم " وليس الآخَر، وهذا يوحي بشيء يقع في العالم الآخر.
وأخيرًا فالقول بأن أيوب لا يتوقع قيامة شخصية كإنسان، لأن هذه الفكرة دخلت اليهودية حوالي نهاية عصر الكتاب المُقدَّس يمكن دحضه في ضوء الأبحاث الحديثة التي تبدي الاهتمام بالحياة الأخرى كاهتمام قديم في العقيدة الإسرائيلية. وبنوع خاص فإن نتيجة دراستنا لمثل تلك الفقرات (أي 14: 13... إلخ.) تُبيِّن أن رجاء القيامة موجود في مركز دائرة إيمان أيوب واعتقاده"(4).
4- جاءت الآيات (أي 19: 25-27) قمة ما نطق به أيوب بالروح القدس، إذ أنه يُعلن ثقته أنه بعد موته وفناء جِلدُه، وبعد أن يُبلى جسده سيعاين الله بروحه، فهو ينطق بهذه الكلمات وهو في ملء الثقة واليقين والإيمان أنه سيرى الله، وأن الله سينصفه، وبعد أن نَطَق أيوب بكلمات الحياة هذه لم يَعُد يشكو لله همومه وأحزانه وآلامه، كما كان أولًا، ويقول القديس جيروم: أن هذه الكلمات تؤكد إيمان أيوب بقيامة الأجساد.
ويقول " متى هنري": "لقد سبق أن قال في هذا الأصحاح أن الله قد حوَّط طريقه (ع 8) وقلع مثل شجرة رجاءه (ع 10)، وبعد ذلك عبَّر عن يأسه في آية تعزية في هذه الحياة (ص 23: 8، 9، 30: 23). ومن أجل هذا يجب أن يعتقد بأنه يعني فداء نفسه من سلطة القبر، وفداءه للمجد الذي تحدَّث عنه المُرنِّم في (مز 49: 15). يجب أن نعتقد بأن أيوب وقتئذ كان بصفة خاصة تحت تأثير الروح القدس الذي رفعه فوق نفسه، وأنار بصيرته، ووضع في فمه كلامًا بكيفية أذهلته.
ويلاحظ البعض أننا لا نجد في أحاديث أيوب بعد هذا أي تذمُّر أو شكوى من الله أو من أعمال عنايته كما فعل من قبل. فإنَّ ذلك الرجاء هدَّأ روحه، وسكَّن العاصفة... عندما نذكر مجيء يوم الله فإن هذا يجعلنا نستهين بحكم الناس (1كو 4: 3، 4) وعندما نكون منتظرين الظهور المجيد الذي لفادينا، وظهور مفدييه في اليوم الأخير، وأنه سوف تكون هناك قيامة لسمعتنا ولأجسادنا، فإننا نتحمل بسهولة افتراءات الناس وتعييراتهم"(5).
ويقول " م. ممدوح شفيق": "إن أيوب برغبة محتدمة في نوال البراءة، يحطم فجأة سور عزلته، وينتقل من حالة التمني الواهم، إلى اقتناع إيجابي، فيعلن ثقته الراسخة أنه بطريقة ما، لا بد أن الله نفسه هو الذي سيُعلن براءته، ويدافع عن ذكراه ويرد له اعتباره.
"وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ": إن الله سينزل من السماء ليتولى الدفاع عن بطلنا، ولو كان هذا الفهم سليمًا فإن أيوب يستعيد موقفه الإيماني بالإله الحي، في نفس اللحظة التي يطرح فيها جانبًا وهم إمكانية أن يدافع عن نفسه أمام الله.
الله يقوم: تُستخدم في العهد القديم كإشارة إلى التدخُّل الإلهي لحسم قضية ما (مز 12: 5) " مِنْ صَرْخَةِ الْبَائِسِينَ، الآنَ أَقُومُ" (انظر أيضًا إش 33: 10). ويبدو الكاتب مُلِمًا بفكرة " آخر الأزمنة " حين يأتي الله ليُخلِّص شعبه، وقتها يصدر حكمه النهائي لأيوب، وليس حكم الناس، ليكون حكم الله هو خاتمة القصة"(6).
5- كان موقف القديس يوحنا الذهبي الفم بالنسبة لإيمان أيوب بقيامة الأجساد، موقف غير ثابت، ففي الرسالة الثانية للشماسة أوليمبيا يقول: "كان أيوب بار (ولكن) لم يكن لديه أي فكرة عن القيامة"(7). وأيضًا قال في تعليقه على (أي 7: 17): "يبدو لي أن أيوب يجهل عقيدة القيامة، لأنه لو عرفها ما كان مثقلًا بهذا المقدار"(8). وفي مواقف أخرى أقرَّ القديس يوحنا الذهبي الفم إيمان أيوب بعقيدة القيامة فقال تعليقًا على (أي 19: 25، 26): "الله هو الذي سيُخلِّصني في الأرض. وماذا يعني هذا؟ لو كان الله خالدًا (وهو بالحق كذلك) فلماذا تريد أن تُكتَب كلماتك، ويبقى تذكارك إلى الأبد بطريقة لا تُمحى؟ لاحظ (أيها القارئ) نفسية مَن هم في البلية. إنهم يريدون، ليس فقط مَن هم معاينون فعليون للأحداث، بل أيضًا الذين سيأتون فيما بعد أن يشهدوا على بلاياهم بطريقة تجتذب -إن جاز القول- من كل الأوجه بعض التعاطف لهم... هل يعلم أيوب بعقيدة القيامة؟ أنا أعتقد بهذا بل وقيامة الجسد"(9).
وعلى قدر محبتنا العظيمة للقديس يوحنا الذهبي الفم خطيب المدينتين، لكننا نُدرِك أن كلامه ليس إنجيلًا، ونحن لا نعترف بعصمة إنسان قط، إلاَّ في حالة تسجيله للأسفار المُقدَّسة فقط، ولذلك لا نتعجب من اختلافات بعض الآباء في بعض القضايا الجانبية، فمثلًا بينما قال القديس يوحنا ذهب الفم أن يهوذا الإسخريوطي تناول من الافخارستيا، كان للآباء رأي آخر، وهو أنه أكل مِن الفصح وانصرف مِن المحفل قبل أن يُعطي الرب جسده ودمه لتلاميذه الأطهار.
_____
(1) أورده القمص بيشوى عبد المسيح - أيوب الصديق تجاربه ونبؤاته ص 155، 156.
(2) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المُقدَّس جـ3 ص 38.
(3) تفسير سفر أيوب جـ2 ص 770.
(4) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - أيوب ص 214، 215.
(5) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير سفر أيوب جـ2 ص 75، 76.
(6) الله والإنسان في سفر أيوب ص 55.
(7) تفسير سفر أيوب - طبعة مكتبة المحبة سنة 2008 ص 143.
(8) المرجع السابق ص 143.
(9) المرجع السابق ص 142، 143.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1565.html
تقصير الرابط:
tak.la/w98fcdg