يقول " علاء أبو بكر": "أنبياء يسبُّون ربهم!!! فماذا نفعل تجاه هؤلاء الأنبياء قدوتنا؟ (أي 16: 11، 12) " دَفَعَنِيَ اللهُ إِلَى الظَّالِمِ... وَأَمْسَكَ بِقَفَايَ فَحَطَّمَنِي، وَنَصَبَنِي لَهُ غَرَضًا". (أي 19: 6-11) " فَاعْلَمُوا إِذًا أَنَّ اللهَ قَدْ عَوَّجَنِي، وَلَفَّ عَلَيَّ أُحْبُولَتَهُ... وَأَضْرَمَ عَلَيَّ غَضَبَهُ، وَحَسِبَنِي كَأَعْدَائِهِ"(1)(5).
ج: 1- أراد أيوب أن يُعبِّر عما بداخله ويكشف عن مدى شقائه ومعاناته النفسية القاسية بسبب إحساسه بأن الله غاضب عليه بشدة، وهو بريء، فقال: "دَفَعَنِيَ اللهُ إِلَى الظَّالِمِ، وَفِي أَيْدِي الأَشْرَارِ طَرَحَنِي" (أي 16: 11)... فماذا يقصد أيوب بالظالم والأشرار..؟ أنه يقصد الغزاة من السبئيين والكلدانيين الذين سلبوا الأبقار والأتن والجمال وضربوا الرعاة بحد السيف (أي 1: 15، 17)، فلو أن الله بسط حمايته على أيوب وممتلكاته ما استطاع الغزاة أبدًا سلب ممتلكاته، ولكن لأن الله تخلّى عنه، فإن في هذا موافقة ضمنية مِن الرب على تسليمه للظالم ويد الأشرار، مثل القائد الذي يتخلّى عن أحد جنوده وهو في مأزق ويتركه ليد الأعداء لينتقموا من هذا القائد في صورة هذا الجندي المسكين... فهل هذا يُعتبر سب لله؟!!
لم يسبَّ أيوب الله، ولم يتفوَّه بما لا يليق، لكنه يبث همومه وشكواه من أتون الألم، وحتى لو صدر من أيوب تعبير لا يليق فيجب أن يُنظر إليه بعين الرأفة نظرًا لمعاناته الرهيبة ولا نُحمِّله ذنبًا لم يقترفه ونتَّهمه بأنه قد سبَّ إلهه... لقد وقف أصدقاء أيوب موقفًا مُحيّرًا تجاه أيوب، فإن نطق محاولًا تبرير نفسه يتهمونه بالكبرياء وأنه متمسك ببره الذاتي، وإن صمت وسكت اعتبروا هذا علامة موافقة على اتهاماتهم له بأنه رجل شرير.
2- تابع أيوب عرض شكواه قائلًا: "كُنْتُ مُسْتَرِيحًا فَزَعْزَعَنِي، وَأَمْسَكَ بِقَفَايَ فَحَطَّمَنِي، وَنَصَبَنِي لَهُ غَرَضًا".
وفي " الترجمة السبعينية": "وعندما كنت في سلام زعزعني (حرفيًا شتتني)، وأمسكني من شعري ونزعه، وجعل مني هدفًا".
وفي " الترجمة القبطية": "كنتُ في دعةٍ فهشَمني، أخَذَ بقفايَّ فحطَّمني، ونصَّبني هدفًا له".
فكون أيوب كان مستريحًا يعيش في سلام، فهذه حقيقة لا مراء فيها، ولأن الله كُفَّ عن حمايته، فهو بذلك زعزعه وشتَّته وهشمه وحطمه، ثم قال أيوب: "وَنَصَبَنِي لَهُ غَرَضًا" وكأن الله اختار أيوب من بين جميع البشر ونصَّبه كهدف وغرض ونقطة نيشان، وبدأ يصوِّب نحوه سهامه. هذا هو إحساس أيوب الذي عبَّر عنه من قبل قائلًا: "لأَنَّ سِهَامَ الْقَدِيرِ فِيَّ وَحُمَتَهَا شَارِبَةٌ رُوحِي. أَهْوَالُ اللهِ مُصْطَفَّةٌ ضِدِّي" (أي 6: 4)... " لِمَاذَا جَعَلْتَنِي عَاثُورًا لِنَفْسِكَ" (أي 7: 20).
3- عاد أيوب يؤكد لأصحابه بأن ضرباته ليست من إنسان بل هي من عند الله لحكمة لا يعلمها، وليست هذه البلايا التي حلَّت به بسبب خطاياه، لأنه لم يفعل الخطايا التي تستوجب كل هذه الكوارث، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقال لأصحابه: "فَاعْلَمُوا إِذًا أَنَّ اللهَ قَدْ عَوَّجَنِي، وَلَفَّ عَلَيَّ أُحْبُولَتَهُ. هَا إِنِّي أَصْرُخُ ظُلْمًا فَلاَ أُسْتَجَابُ. أَدْعُو وَلَيْسَ حُكْمٌ. قَدْ حَوَّطَ طَرِيقِي فَلاَ أَعْبُرُ، وَعَلَى سُبُلِي جَعَلَ ظَلاَمًا. أَزَالَ عَنِّي كَرَامَتِي وَنَزَعَ تَاجَ رَأْسِي. هَدَمَنِي مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَذَهَبْتُ، وَقَلَعَ مِثْلَ شَجَرَةٍ رَجَائِي، وَأَضْرَمَ عَلَيَّ غَضَبَهُ، وَحَسِبَنِي كَأَعْدَائِهِ" (أي 19: 6-11).
فَاعْلَمُوا إِذًا أَنَّ اللهَ قَدْ عَوَّجَنِي، وَلَفَّ عَلَيَّ أُحْبُولَتَهُ: عوَّجَنِي أي الله قد ابتلاني، ولفَّ عليَّ أحبولته أي لفَّ عليَّ شبكته، وقد سمح الله بكل هذه البلايا أن تأتي على أيوب لحكمة سامية لم يُدرِكها أيوب، الذي نظر لله على أنه مصدر نكباته، وقال لزوجته: "أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟ " فأيوب رأى أن الله هو الذي أرسل عليه هذا الشر، وقد لفَّ عليه شبكته لكيما يصطاده، بل نظر أيوب لله كأنه وحش يفترسه: "غَضَبُهُ افْتَرَسَنِي وَاضْطَهَدَنِي" (أي 16: 9) وأنه يريد أن يحطم رأسه: "أَمْسَكَ بِقَفَايَ فَحَطَّمَنِي" (أي 16: 12) وأنه أرسل عليه رماته: "أَحَاطَتْ بِي رُمَاتُهُ. شَقَّ كُلْيَتَيَّ وَلَمْ يُشْفِقْ. سَفَكَ مَرَارَتِي" (أي 16: 13) وأنه يهجم عليه يريد أن يصرعه: "يَقْتَحِمُنِي اقْتِحَامًا عَلَى اقْتِحَامٍ. يَعْدُو عَلَيَّ كَجَبَّارٍ" (أي 16: 14)، وقد نطق أيوب بقوله هذا عن جهل لأنه لم يفهم أبعاد القضية، ولم يطّلع على المنظر السمائي الذي تكرَّر مرتين عندما مثل أبناء الله أمام العرش الإلهي، وجاء الشيطان يحتج ويشتكي على أيوب، ومما زاد من آلام أيوب النفسية أن الله احتسبه شريرًا كقول المُرنِّم: "الرَّبُّ يَحْفَظُ الْغُرَبَاءَ. يَعْضُدُ الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ، أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ" (مز 146: 9)... كان أيوب يشعر أن الله يلف حوله شبكته لكيما يصطاده، ولم تكن مشاعر أيوب هذه حقيقية، لأن الله كان يعامله كابن وصديق وشَهَدَ باستقامته في محضر السمائيين. وظل أيوب يردَّد صرخته محتجًا بأن صرخاته ضاعت أدراج الرياح، فهو يصرخ ولا مجيب، ولم يدرك أيوب أن السماء قد استجابت لصرخاته، وأنه في الوقت المناسب سيتجلى الله لأيوب ويصطحبه في رحلة عجائبية ويُعلن برُّه ويرد نفسه ويضاعف أملاكه، وهذا ما لم يكن يخطر على ذهن أيوب، مما جعله يقول:
" قَدْ حَوَّطَ طَرِيقِي فَلاَ أَعْبُرُ": وتردَّد صدى هذه الصرخة عبر الزمن، فنجد المُرنِّم يقول: "عَلَيَّ اسْتَقَرَّ غَضَبُكَ، وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي. أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي. جَعَلْتَنِي رِجْسًا لَهُمْ. أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ" (مز 88: 7، 8).
أَضْرَمَ عَلَيَّ غَضَبَهُ: وغضب الله مُضرَم في جهنم النار، والأشرار الفُجار الذين لا يرهبون نار الغضب الإلهي في هذه الحياة، يسقطون فيها بعد الدينونة، أمَّا الأبرار مثل أيوب الذين يخشون ويفزعون من نار الغضب الإلهي على هذه الأرض، فيوم الدينونة ينجون منها.
وَحَسِبَنِي كَأَعْدَائِهِ: وقال أيوب من قبل: "لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ وَتَحْسِبُنِي عَدُوًّا لَكَ" (أي 13: 24).
4- قال بلدد الشوحي لأيوب أن الرجل الشرير يسقط في الشبكة: "لأَنَّ رِجْلَيْهِ تَدْفَعَانِهِ فِي الْمِصْلاَةِ فَيَمْشِي إِلَى شَبَكَةٍ. يُمْسِكُ الْفَخُّ بِعَقِبِهِ، وَتَتَمَكَّنُ مِنْهُ الشَّرَكُ" (أي 18: 8، 9)، فردَّ عليه أيوب هنا موضحًا أن الشبكة لم تتمكن منه بسبب شره، ولكن بسبب أن الله هو الذي أوقعه في هذه الشبكة، وهذا المعنى واضح في " الترجمة السبعينية": "فاعلموا أن الرب هو الذي كدرني"، وفي " ترجمة كتاب الحياة": " فاعلموا إذًا أن الله هو الذي أوقعني في الخطأ وألقى شباكه عليَّ". والفعل الذي استخدمه أيوب في قوله " عَوَّجَنِي " هو نفس الفعل الذي استخدمه بلدد عندما قال: "هَلِ اللهُ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ" (أي 8: 3)، وهو نفس الفعل الذي سيستخدمه أليهو فيما بعد: "فَحَقًّا إِنَّ اللهَ لاَ يَفْعَلُ سُوءًا، وَالْقَدِيرَ لاَ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ" (أي 34: 12).
5- يقول " فرانسيس أندرسون": "فليس المستفاد من ذلك الحديث أن الله قد عوَّج أيوب، ولا يتَّهم أيوب الله بالتقلُّب... فالقاضي لم يقل كلمته بإدانة أيوب في تلك المرحلة، ولم يكن ذلك إلاَّ مجرد استنتاج قال به الأصدقاء بتطبيق نظرياتهم على اختبار أيوب، وما زال أيوب ينتظر أن يسمع الحكم من الله بكل الوسائل، وعندما يتكلَّم الله (حتى لو انتظر أيوب لما بعد الموت لأجل ذلك) فسوف يعلن براءة أيوب. إن على أيوب أن يتحمل تأخير العدالة وليس إجهاضها أو إنكارها"(2).
6- يقول " متى هنري " أن: "أيوب قال لأصحابه: "إن كنتم تهزأون بكل كلمة شكوى أنطق بها، وتسيئون فهمها، وتستخدمونها حجة ضدي، فتأملوا في الباعث على الشكوى، وضعوه في الميزان قبل أن تصدروا حكمًا على الشكوى وتعيروني بها... لقد أرادهم أن يذكروا ثلاثة أشياء:
(1) أن تعبه كان ثقيلًا جدًا. لقد " هُدِمَ " وعجز عن أن يغيث نفسه، لقد أحاطت به شبكة وعجز عن أن يفلت منها.
(2) أن الله هو منشئ هذا التعب، وأنه قد حاربه: "إن يد الله هي التي هدمتني، وهو الذي طرح شبكته حولي"، ولذلك لا مُبرِّر لكم لكي تهجموا عليَّ بهذه الكيفية. إن لدي ما يكفيني لكي أكافح إزاء غضب الله. لا داعي لكي تغضبوا عليَّ أنتم أيضًا. لتنته مناقشة الله معي قبل أن تبدأ مناقشتكم. من القسوة والوحشية أن تطردوا الذي ضربه الله، أو أن تتحدثوا عن وجع الذي جرحه الله" (مز 69: 29).
(3) لم يكن لديه أي رجاء في تخفيف أحزانه (ع 7): "ها إني أصرخ ظلمًا فلا أُستجاب وأدعوا وليس حُكمٌ". لقد شكا من آلامه فلم يجد راحة، توسل لكي يعرف سبب نكبته فلم يعرف، لجأ إلى محكمة الله لإعلان براءته لكن لم يستمع إليه أحد، بل لم يجد حُكمًا في استئنافه"(3).
7- يقول " القمص تادرس يعقوب": "فَاعْلَمُوا إِذًا أَنَّ اللهَ قَدْ عَوَّجَنِي وَلَفَّ عَلَيَّ أُحْبُولَتَهُ": لعله أراد القول بأن ما حلَّ به هو بسماح من الله، فتهدمت حياته، وسقط في شبكة، كصيد في شبكة صيادٍ، وليس مِن مهربٍ. أتركوا الله يحكم عليَّ... يرى البعض هنا إشارة إلى ما اعتاد الفارسيون والرومان والغوصيون أن يفعلوه في معاركهم، ففي بعض المعارك الرومانية كان أحد الجنود يمسك بسيفه ودرعه بينما بجواره آخر يمسك برمحٍ وشبكة. فالأخير يبذل كل الجهد لكي يُلقي بالشبكة على رأس خصمه، فإن نجح في هذا يسحبه في الحال بالشبكة الملتفة حول رقبته والتي بها شرك يجره على الأرض ويضربه بالرمح الذي في يده. فمتى أُلقيت الشبكة على رأسه وصار في داخلها، يصير لا حول له ولا قوة، مصيره في يد الغالب.
"هَا إِنِّي أَصْرُخُ ظُلْمًا فَلاَ أُسْتَجَابُ. أَدْعُو وَلَيْسَ حُكْمٌ": شعر أيوب كأن الله قد أخذ موقفًا مضادًا منه، وإن ما حلَّ به ليس له ما يفسره به. يشعر أنه تحت الظلم، وها هو يدعو الله، والله لا يستجيب. كأنه يقول لهم: لماذا تربكون نفسي وتسحقونها؟ أتركوني أصرخ إلى إلهي، وألح عليه، فيفسر لي علة ما حلَّ بي...
"قَدْ حَوَّطَ طَرِيقِي فَلاَ أَعْبُرُ وَعَلَى سُبُلِي جَعَلَ ظَلاَمًا": فبدأ يُعلِّق على ما سمح به الله له من مَرارة، لعلهم يترفقون به ويتركونه. يُصوّر الله كمن يعترض طريقه، فلا يسمح له بالعبور للنجاة حتى ولو بالموت، وكمن جعل سبيله ظلامًا، فلا يعرف إلى أين يذهب. يعاتب الله ويسأله عن السر الذي وراء هذه الأحداث...
وكما يقول " البابا غريغوريوس الكبير": "مَن يتوقف عن برُّه بسبب الحزن ليس ببار، ولكن الطوباوي أيوب، بسبب روحه الوديع لم يخطئ حتى بنطقه كلمات قاسية. فإننا إن قلنا أنه أخطأ بهذا القول، نجعل الشيطان قد حقق هدفه عندما قال: "مَسَّ عَظْمَهُ وَلَحْمَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِـكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ" (أي 2: 2)(4).
_____
(1) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ1 س 201 ص 134، 135.
(2) التفسير الحديث للكتاب المُقدَّس - أيوب ص 211.
(3) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير سفر أيوب جـ2 ص 66، 67.
(4) تفسير سفر أيوب جـ2 ص 748-752.
(5) راجع أيضًا البهريز جـ1 س 162، جـ3 س 102.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1559.html
تقصير الرابط:
tak.la/7s2gj98