ج: لم يكن الشاعر الألماني "جوته" Goethe هو الوحيد الذي تأثر بسفر أيوب، بل على مدار التاريخ هناك الكثيرون من الكُتَّاب الذين طبع سفر أيوب صورته على كتاباتهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فمثلًا في الولايات المتحدة في القرن العشرين استلهم عدد ليس بقليل من الكُتَّاب والشعراء كتاباتهم وأشعارهم من سفر أيوب وقصة البار المتألّم، ومن هؤلاء " هارت كرين"(1)، و"روبرت فروست"(2) الذي جاء في أعماله أن الله وصف أيوب بأنه المحرّر الذي حرَّر إلهه، وشكره على هذا، وتعتمد هذه النظرية على أن أيوب لم يخضع للَّه في نهاية السفر، إنما واجه الله ونبهَّهُ إلى الشر الذي صنعه عندما تراهن مع الشيطان عليه، فأفاق الله للشر الذي ارتكبه، وبذلك يكون أيوب قد حمى الرب من نفسه. وأيضًا " أرشيبالد مكليش"(3) الذي جاء في مقطع من مسرحيته:
" سمعتُ في غابة صفراء،
إن كان الله هو الله فلا يمكن أن يكون خيرًا،
إن كان الله خيرًا فلا يمكن أن يكون الله".
و"و. س. ميرون"، و"جون اشبيري"(4) وغيرهم(14).
وعلى كلٍ دعنا يا صديقي نأخذ فكرة مبسَّطة عن الشاعر الألماني " جوته"، و"دكتور فاوست " كشخصية تاريخية، وأيضًا عن رواية فاوست وعلاقتها بسفر أيوب:
1- مَنْ هو جوته؟
جوته هو " يوهان ولفجانج
جوته"، وُلِدَ في فرانكفورت في عام 1749 م. من أب غني، وكان جَدّه يعمل
قبلًا في مهنة متواضعة وهي حياكة الملابس، ولكنه تزوج امرأة غنية تملك فندقًا،
فصار هذا الجَدّ مديرًا للفندق، وأنجب ولدين أصغرهما والد الشاعر الألماني
الكبير " جوته". وتلقى " جوته " دروسه الأولى في منزل أبيه وكان
نابغًا حتى أنه تعلَّم اللغات اللاتينية واليونانية والإيطالية والفرنسية تحت
إشراف والده، وفي سن الثانية من عمره كان بمقدرته أن يكتب أربع لغات أجنبية
بجوار لغته الأصلية، وفي سن التاسعة كان يكتب قصصًا قصيرة ليسلي بها أخاه
الصغير يعقوب، وفي سن العاشرة عندما احتلَّت فرنسا ألمانيا وأنشأت مسرحًا
يُقدِّم المسرحيات الفرنسية كان
" جوته " يذهب إلى هناك وقد أعجب بهذه المسرحيات.
ودرس " جوته " القانون حتى وصل إلى درجة تقترب من درجة الدكتوراه، وبالرغم من أنه عمل في المحاماة، كما كان له أبحاثه العلمية مثل دراساته حول تطوُّر النبات والبصريات والرياضيات، والألوان، إلاَّ أن المجال الأدبي احتل المركز الأول في حياته، فكتب أشعاره الغنائية، وقصصه ورواياته، وكتب " ديوان الشرق والغرب " فجمع فيه بين روح الحضارة الشرقية وروح الحضارة الغربية، والتقى به " نابليون بونابرت " وتحدّث معه طويلًا حيث كان مطلعًا على إنتاجه الأدبي لدرجة أنه قرأ إحدى رواياته (آلام نرتر) سبع مرات، ودعاه لزيارة باريس ولكن بسبب تقدمه في السن لم يتمكن من هذه الزيارة، فعندما وفّى سنه المُتقدِّم هذا كان يقضي معظم وقته في بيته في هدوء وسكون ويتردَّد عليه أحبائه ومريديه من أمراء ووزراء وأدباء وشعراء، وفي هذه السنوات أنهى الجزء الثاني من رواية فاوست سنة 1831م وأوصى أن لا يُنشر إلاَّ بعد موته. وعندما يتقدّم العمر بالإنسان عليه أن يتحمل الصدمات، وهذا ما حدث مع " جوته " إذ صدم بموت زوجته " كريستيانه"، ثم صدم بموت ابنه " أوجست " في إيطاليا، وعانى من رحيل أصدقائه الواحد تلو الآخر.
2- مَنْ هو دكتور فاوست؟
دكتور فاوست شخصية حقيقية تاريخية عاش في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وانشغل بالشعوذة، وأوهم من حوله أنه ساحر ضليع، فكان يبتز أموالهم ويقرأ لهم الطالع ويعالج مرضاهم بالشعوذة، وعندما مات ميتة عنيفة سنة 1540م نسبوا ذلك للشيطان، وبهذا وُلِدت أسطورة فاوست وانتشرت، وتشبَّع بها " جوته".
3- ما هي رواية فاوست؟
هي رواية ضخمة كتبها الشاعر الألماني الكبير " جوته " بأسلوب شعري، فبلغت أكثر من 12 ألف بيتًا في جزئين، ضم الجزء الأول 4613 بيتًا، والجزء الثاني 7417 بيتًا شعريًا، ولم يكتبها " جوته " دفعة واحدة،، إنما بدأ كتابتها وهو في مستهل شبابه وأنهاها وهو في شيخوخته فعاصرت مراحل " جوته " في شبابه ورجولته وكهولته وشيخوخته، إذ كان يكتب بعض الفصول ويتركها ثم يعوّد ليكمل جزء آخر، فاستغرق جوته في كتابتها نحو ستين عامًا حتى سنة 1831م، ورواية بهذا الحجم الضخم تضارع أربع أو خمس مسرحيات من مسرحيات شكسبير.
وتدوّر أحداث الرواية حول شخصية فاوست، وهو ابن مزارع بسيط عاش في قرية بالقرب من ويمار، وتولى عمه الغني الصرف على دراسته فتخرج من قسم اللاهوت بالجامعة بدرجة امتياز، وصار أستاذًا وعالِمًا أمينًا، فكان موضع فخر الله، ولكن الشيطان وضع قلبه عليه ليسقطه، وحصل على إذن إلهي بهذا، ونجح الشيطان في تحديه، إذ ترك فاوست الانشغال بالدين وتعلَّق بدراسة السحر، وادعى الطب والتنجيم، واستحضر الشيطان، فظهر له في صورة راهب يُدعى " مفستوفليس" (أو مفستفليس)، وعقد معه اتفاقًا بأن يَكفُر فاوست بالدين المسيحي، ويبغض المسيحيين، مقابل أن يصير الشيطان خادمًا مطيعًا له لمدة أربعة وعشرين عامًا، وفي نهاية هذه المدة يصبح جسد فاوست وروحه ملكًا للشيطان، وعقد فاوست عهدًا مع الشيطان، ووقَّع على صك وأمهره بدمه. ومن هذه اللحظة صار الشيطان خادمًا لفاوست يحضر له ما لذَّ وطاب من المأكولات والخمور حيث يسرقها من الفنادق المجاورة، فعاش فاوست حياة التَّرَف ليلًا ونهارًا، وعندما أراد أن يتزوج زواجًا مسيحيًا اعترض عليه الشيطان لأن هذا ضد الاتفاق بأن يَكفُر فاوست بالدين، وفكر فاوست في التوبة والندم، ولكنه ما لبث أن غيَّر رأيه وسط هذه المتع الجسدية والنفسية، فطلب فاوست من الشيطان أن يريه الجحيم، فتوسط له الشيطان لدى " إله الذباب"، فحمل فاوست في منتصف الليل على كرسي من العاج وأراه الجحيم، وعندما طلب فاوست أن يرى السماء، أركبه الشيطان على جواد بشبه التنين فتجوَّل بين النجوم لبضعة أيام عاد بعدها إلى الأرض، وطلب فاوست أيضًا من الشيطان أن يحمله في جولة فحمله الشيطان إلى قصر البابا بروما، ثم جعل عليه زيًّا وكأنه من أولياء الله ودخل به إلى قصر السلطان في إسطانبول وأراه حريم السلطان، وذهب به إلى بلاط ملك أسبانيا... إلخ...
وعندما قاربت المدة من الانتهاء شعر فاوست بالندم الشديد وانهمرت دموعه، وفي اليوم الأخير من الأربعة وعشرين عامًا، أقام تلميذه " كريستوف وجنر " وريثًا له بالرغم من أن هذا التلميذ كان من الرعاع، وذهب فاوست إلى حانة بالقرب من ويتمبرج والتقى بأصدقائه وقدم لهم أطيب الطعام والشراب، وقصَّ لهم قصته الحزينة، وأن الشيطان سيأتي في منتصف الليل ليقبض روحه، وبعد أن افترق الجميع، وفي منتصف الليل سُمِع صوت صفير مزعج وحشرجة، وفي الصباح وجدوا جسد فاوست ممزَّقًا فوق كومة من القمامة(15).
4- رواية فاوست وسفر أيوب:
كتب " جوته " فاتحة الرواية قبل أن ينشر الجزء الأول بنحو عشر سنوات، وكان قد ألَّف عدة فصول من الرواية، واتضحت معالم الرواية في ذهنه، فجعل أحداث الافتتاحية تدوّر في السماء محاكاة لما جاء في سفر أيوب، وكتب " الدكتور طه حسين " عميد الأدب العربي يقول: "تلخيص فَوست يسير، فقد بدأ الشاعر بمحاكاة التوراة في سفر أيوب، فأنشأ حوارًا بين الَّله والشيطان حول حب الإنسان لَّله وقوته على الوفاء له، وانتهى هذا الحوار في فَوست بِرِهان بين الله والشيطان، موضوعه هذا العالِم الجليل الدكتور فَوست الذي أخلص حبه للَّه والعلم. يزعم الشيطان أنه قادر على إغوائه ويأبى الله عليه ذلك ويُنْظره، فيندفع الشيطان إلى الدكتور فَوست فيصادفه في ساعة سيئة من ساعات حياته، قد سئم العلم ويئس منه، وعجز الدين عن أن يسلّيه ويمنحه ما كان يطمح إليه من الوقوف على سر الحياة والاطمئنان إليه، فما يزال يحاوره حتى ينتهي به إلى عهد بينهما.
يصبح الشيطان عبدًا لفَوست يتيح له كل ما يريد من يسير وعسير، ويزيقه كل ما يشتهي من لذات الحياة على اختلافها جليلها وحقيرها، على أن يكون فَوست آخر آمره، إذا لم يعجز الشيطان عن إرضائه، عبدًا للشيطان. ويتم العهد بين هذين المتجاورين، ويندفع الشيطان بصاحبه في فنون من الملذات كثيرة منها الراقي ومنها المنحط ومنها آثام كثيرة وما يزال به حتى يغوي فتاة بريئة ويضطرها بهذا الإغواء إلى أن تقتل أمها وأبيها وتسبب قتل أخيها ثم تضطر إلى السجن ثم إلى الموت، كل ذلك في ظروف كثيرة طويلة، تتخللها أشياء أُضيفت بها إضافة وحُشرت فيها حشرًا ليس بينها وبينها صلة إلاَّ الجوار. فإذا انتهيت إلى آخر هذه القصة رأيت الشيطان وقد أنفق ما يستطيع لإرضاء فَوست فوُفِق كثيرًا، ولكنه على كل حالٍ لم يظفر بنفس فَوست لأن فَوست ما زال، على كلفِه باللذة وتهالكه عليها، مزدريًا لكل ما ظفر به طامحًا إلى شيء آخر عجز الشيطان عن أن يوصله إليه، وهو الذي يحاول أن يطلبه ويظفر به في فَوست الثاني.
هذه خلاصة القصة... ولكن جوهرها ليس في هذا الإطار الذي صوَّرته لك الآن، دائمًا هو فيما يحيط به هذا الإطار من وثائق الحوار بين الله والشيطان، ثم بين فَوست وتلميذه، ثم بين فَوست والشيطان، ثم بين الشيطان والناس. في هذا الحوار كنوز من النقد والفلسفة والأدب"(5).
ويقول " محمد عوض محمد": "في " الفاتحة " التي جعل المؤلف مسرحها في السماء، تحتشد الملائكة أفواجًا وزمرًا، يتقدمها جبريل وميكائيل (ميخائيل) وإسرافيل (روفائيل)، وكلها تسبح بحمد الرب وتمجّده، وتثني على آلائه ونعمه. ويظهر إبليس، ويزعم أنه لا تهمه الأكوان ولا النجوم، وإنما ينصب اهتمامه كله على الإنسان وبني الإنسان الذين لا خير فيهم في زعمه. وحين يمتدح الرب عبده " فاوست " يزعم إبليس أن هذا العبد كائن يعيش في الضلال ولا يكاد يهتدي، ويلتمس الإذن في أن يجره برفق إلى سننه وطريقته، حتى يتكشَّف للرب ضلاله وفساده وتفاهته.
ويؤذن لإبليس أن يفعل ما يشأ، ولكن ليعلم منذ الآن أن أساليبه وحيله لن تنجح في إفساد روح كريمة العنصر، وأن " فاوست " وإن تعثر أحيانًا -شأن كل من يجد ويسعى- فسرعان ما ينهض من عثرته، ويعود إلى سبيل الهداية والإرشاد.
وتنتهي الفاتحة ويبقى إبليس واقفًا وحده مغتبطًا بهذا الإذن الذي حصل عليه، بأن يسلط حيله وألاعيبه لاستدراج هذا الأستاذ الغريب الأطوار، والسير به في سبيل الغواية والضلال.
وهكذا يخرج صوته في فاتحة الكتاب عن الأسطورة وما تزعمه من أن " فاوست " هو الذي سعى إلى الشيطان. فنرى هنا الشيطان نفسه حريصًا على أن يُؤذن له في أن يجرب وسائلة الجهنمية، في إغواء فاوست"(6).
5- افتتاحية رواية فاوست:
هناك عدة ترجمات لرواية فاوست للعربية، فقام الدكتور الكبير " عبد الرحمن بدوي " بترجمة رائعة، كما ترجم " دكتور محمد عبد الحليم كرارة " الرواية إلى شعر عربي، وهو حاصل على دكتوراه في العلوم الاقتصادية والسياسية من ألمانيا، وأيضًا قام الأستاذ " محمد عوض محمد " بترجمة الرواية إلى شعر منثور وهلم جرا...
ونستقطع من ترجمة " دكتور محمد عبد الحليم " جزء بسيط من بداية الافتتاحية(16) من كتابه "مأساة فاوست":
استهلال في السماء
الإله أجناد السماء وأخيرًا مفستفلس
تتقدم ثلاث الملائكة
روفائيل
الشمسُ تَعْزِفُ مثل سالف عهدها وتَسَابقُ في الشَّدْ ومن أخَواتها(7)
وتسيرُ سيرَتها التي قد قدَّرت والرعدُ يَخْتِم قَصْفُهُ خُطُواتها
يُعْطِي مُحياها الملائكَ قوةً لم يدرِ مخلوق كيان صفاتها
أرقىَ الصنائعِ ليس يُدرَك فهمُها فهي العظيمة كابتِدا ميقاتها
جبرائيل
وبلا مثيلٍ دَورةُ الأرض التيِ في سرعة جَلَّتْ عن التقدير
ضَوءُ الجنان يُحيِله بِتَغَيُّر ليلُ مخيف مظلم الديجور
والموجُ يُزْبِدُ في عريض جداول متكسراتُ في أساس صخور
تَقْفُو مدارَ كواكب في سرعة صخرُ وبحرُ في دوام مَسِير
ميخائيل
وَتَسابقتْ هُوْجُ الرياح عواصفا للبحر من بَرِّ وطورا تُبْحِر
في غضبةٍ تُنشي لسلسلة على ما حولنا من فعلها وتُؤَثَّر
فأضاء برقُ للدمار مسالكا بالرعدَ يهْدُر في الفضا وَيُزَمْجِر
رسلُ لك اللَّهُمَّ تحمدُ يومكم هَوْنًا تُقَلِّبُ دائمًا وَتُغَيِّرُ
الثلاثة:
يُعْطِي مُحياها الملائكَ قوةً لمْ يَدرِ مخلوقُ كيانَ صفاتها
أرقى الصنائع ليس يُدرك فهمها فهي العظيمة كابْتدَا مِيقاتها
ونستكمل بقية الافتتاحية من ترجمة الأستاذ " محمد عوض محمد"(17):
إبليس:
أمّا وقد تنازلت أيها المولى
الجليل فدنوت منّا مرة أخرى، وسألتنا عن حالنا،
وقد عودتني من قبل أنك تسر لرؤيتي. فلهذا تراني أنا أيضًا واقفًا وسط
العبيد.
سامح يا مولاي واصفح! فإني عاجز عن الإتيان بمثل تلك الكلمات الراقية، وإن جَرَّ على هذا العجز سخرية الجميع واستهزاءهم.
ولعمري لو أنني جاريتهم فأبديت شعورًا أو عاطفة لأضحكك صدور مثل هذا مني، لولا أنك غادرت عادة الضحك.
أنا لا أعرف كيف أتحدث عن الشمس ولا عن الأجرام العلوية.
وإنما أعرف بني الإنسان وكيف يعذب بعضهم بعضًا. إن ابن آدم -إله الأرض الصغير- لم يزل على طوره القديم لم يتغير. وهو اليوم عجيب غريب كما كان في اليوم الأول(8).
وإن حاله قد تحسن وعيشه قد يطيب، لولا أنك منحته ذلك الشعاع من النور السماوي، الذي سماه العقل، واتخذ منه آلة يتوسل بها لأن يكون أكثر بهيمية من البهائم وأكثرَ وحشيةً من الوحوش.
وإني لأشبهه -لو يسمح لي مولاي- بتلك الجرادة الطويلة الساقين التي ما تنفك تطير واثبة، وتثبُ طائرة. وتغني أنشودتها القديمة البالية وسط الحشائش. ويا ليته بقى دائمًا وسط الحشائش والأعشاب، لم يذهب إلى كل بؤرة رجسٍ وقذرٍ فيدس بأنفه وسطها(9).
الرب: هل بقى شيء لم تقله؟ مالك لا تجيء إلا لتتهم؟ أما ترى مدى الدهر في الأرض شيئًا حسنًا؟
إبليس: كلا أيها المولى! إني لا أرى هناك إلا كل قبيح، كما هي الحال منذ القِدَم. وإني لأشفق على بني الإنسان حين أرى حياتهم الملآنة بالآلام، حتى لقد رثيت أنا للمساكين فلا أريد أن أعذبهم.
الرب: أتعرف فاوست؟
إبليس: الدكتور؟
الرب: خادمي.
إبليس: أجل. وإنه ليسلك في خدمتك طرقًا غريبة. إن ذلك الأبله قد بات لا يرى لنفسه في الأرض قوتًا أو شرابًا. وذهبت به أحلامه وأوهامه إلى مدى بعيد. وإخاله مدركًا سخفه وجنونه بعض الإدراك. وتراه اليوم يتطلّب زُهْر النجوم من السماء، ويريد أن تخرج له الأرض أقصى ما يشتهي ويحب، وبعد هذا كله فلا شيء في العالم يشفي أوام نفسه الحائمة، ويطفئ غليل صدره الهائج.
الرب: لئن كان يعبدني اليوم وهو مشتَّت الفكر موزع الفؤاد، فلسوف أهديه سبيل الرشاد بعد حين. والزارع يعلم حين يرى الشجرة قد أورقت أن سرعان ما تزدان غصونها بالأزهار والثمار.
إبليس: هل تراهنني على أن هذا العبد سيأبق من طاعتك؟
لا أطلب منك إلا أن تأذن لي كي أجره برفق إلى طريقي وسنتي.
الرب: لا أمنعك عن هذا مادام على قيد الحياة.
إن المرء قد تزل به القدم حين يجد في السعي.
إبليس:
لك الشكر على هذا والحمد. فأنا
لا أحب الموتى ولم يكن لي فيهم يومًا ما أي مأرب. وأحبَ إليَّ تلك الوجوه
الناضرة التي يتدفق منها ماء الحياة. أما رِمم الموتى
فلا أصلح لها ولا تصلح لي، وأنا في هذا أشبه الهرة التي تأنف أن تأكل الفأرة
ميتة وتأبى ألا أن تصيدها حية.
الرب: لا ضير! إن منحتك سؤلك وخليت بينك وبينه. حاول إن استطعت أن تحوّل تلك الروح عن ينبوعها الأسمى(10)، وأجذبها إن قدرت إلى حضيضك، ثم لتقف ذليلًا صاغرًا حين يضطرك فشلك وعجزك إلى الاعتراف بأن الرجل الصالح -مهما أظلمت بصيرته- لا يلبث أن يهتدي إلى السبيل الأرشد والطريق الأقوم.
إبليس: حسن جدًا! إن هذا الأمر لن يدوم طويلًا. ولست أخشى أن أخسر الرهان. ومتى أدركت غايتي فأذن لي بأن أسر وأفتخر بما أحرزت من النصر.
ولسوف يأكل التراب بلذة وشهية كما تفعل الحية الشهيرة، التي تجمعني وإياها أواصر القرابة(11).
الرب: إن أدركت غايتك. فافعل ما تشاء.
إنني ما كرهت يومًا ما من كان مثلك. ومن بين تلك الأرواح التي دأبها الإنكار والكفران أرى أقلها ثقلًا على نفسي ذلك المازح الساخر(12).
إني رأيت الإنسان سرعان ما تخمد همته وتفتر عزيمته ويخلد إلى الدعة والراحة، ولهذا أرسلت وراءه قرينًا يستفزه ويستثيره، ولا ينفك يعمل ويدأب كعادة الشياطين.
(للملائكة) وأنتم أيها الأبناء الحقيقيون للآلهة. أنعموا ما شئتم بهذا الحُسنْ الغزير والجمال الرائع الأبدي.
ولتحِطْكم روح البركة والنماء، التي ما تزال تخلق وتنتج، بسياج بديع من الحب.
وأمَّا هذه الظواهر الزائلة التي تبدو لكم فلتستنبطوا منها الحقائق الثابتة والأفكار الخالدة(13).
(تغلق السماء ويتفرق الملائكة ويبقى إبليس)
إبليس: يحلو لي أن أرى المولى القديم من حين إلى حين. وسأبقى دائمًا حذرًا، كي لا يحدث بيننا خصام.
ولعمري إنه لجميل جدًا من سيد عظيم أن يتحدث إلى الشيطان نفسه بمثل هذا الأسلوب البشري.
_____
(1) هارين كرين: وُلِدَ في نهاية القرن التاسع عشر، وهو شاعر أمريكا الذي جاء وهو في السابعة عشر من عمره من ريف أوهايو إلى نيويورك فأعجب بها وعشقها، ورغم أنه عاش معدمًا، بعيد عن الأب والأم، فأنه كان يحاول إدخال البهجة إلى قلوب الأصدقاء، فيرتدي عباءة الفلاحين المكسيكية، ويرقص وسط الشارع رقصة القوزاق، وكان مغرمًا بجسر بروكلين الفولازي الذي أُنشئ سنة 1883م، وعلى هذا الجسر رأى المتناقضات العديدة، أغنياء وفقراء، بيض وزنوج، أبرار وأشرار، زوجات سعيدات وأخريات مطلقات خائبات... فكتب قصيدته العظيمة " الجسر " مُعبّرًا فيها عن الحاضر والمستقبل، وأودع فيها كل أماله عن أمريكا الغد، وفي 27 أبريل 1932م قفز من على الباخرة " أوريزايا " في البحر الكاريبي فأحاطت به أسماك القرش وافترسته وهو يناضل من أجل النجاة، ولم يكن عمره تجاوز الثلاثة والثلاثين عامًا، ولم يترك غير ديوانين صغيرين هما " البنايات البيض " و"الجسر".
(2) روبرت فروست: وُلِدَ في 26 مارس 1874م في فرانسيسكو، وعندما كان في الحادية عشر من عمره مات أبوه، وشبَّ روبرت وعمل في التدريس هو وزوجته، وتعرَّض للصدمات إذ مات أربعة أولاد له وتبقى له اثنان، وقد تميزت أشعاره بالأسلوب البسيط والمباشر والسلس، حتى قيل عنه أنه حوَّل لغة البسطاء إلى شعر، باع ديوانه الأول لمجلة أسبوعية في نيويورك بخمسة عشر دولارًا، وعندما تقدم في الشعر حصل على جائزة " بوليتزر" للشعر أربع مرّات، وشارك في تنصيب جون كنيدي، ومات في 29 يناير 1963م في بوسطن.
(3) أرشيبالد مكليش: هو شاعر أمريكي معروف وفي نفس الوقت كان رجل دولة، فكان أمين مكتبة الكونجرس، ومن أهم واضعي الميثاق التأسيسي للمجلس التنفيذي لليونسكو سنة 1945م، وحصل ثلاث مرات على جائزة " بوليتزر " للشعر، ومن أعماله " برج العاج " سنة 1917م، و"إناء الأرض " سنة 1925م، و"هاملت " الخاص بمكليش سنة 1928م، و"أغاني حواء " سنة 1954م.
(4) جون اشبيري: وُلِدَ في 28 يوليو 1927م وصار من أبرز شعراء مدرسة نيويورك، وظهر له عشرين مجموعة شعرية، وفاز بجوائز الشعر الكبرى في أمريكا بما فيها جائزة بوليتزر سنة 1976م.
(5) مقدمة كتاب فَوست ترجمة محمد عوض محمد ص 15، 16.
(6) فاوست ص 63، 64.
(7) أخواتها هي الكواكب السبعة.
(8) يريد إبليس بتكرار عبارة " كما كان في اليوم الأول " شيئًا من التهكم مما قاله الملائكة قبلًا.
(9) وجه الشبه هنا بين الإنسان وتلك الجرادة أنه يريد التحليق والطيران فلا يستطيع فيكتفي بالوثوب بين الحشائش. ثم يلهيه انغماسه في الأقذار عن التفكير في الطيران.
(10) يقصد جوته بالينبوع الأسمى الله. ولعل في هذه الجملة وما يليها المحور الذي يدور عليه الكتاب.
(11) تجمع إبليس والحية أواصر القرابة لأنها هي التي ضللت حواء وآدم. وقوله إنها تأكل التراب إشارة إلى ما جاء في سفر التكوين، الأصحاح الثالث : " فَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلْحَيَّةِ: لأَنَّكِ فَعَلْتِ هذَا، مَلْعُونَةٌ أَنْتِ مِنْ جَمِيعِ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ. عَلَى بَطْنِكِ تَسْعَيْنَ وَتُرَابًا تَأْكُلِينَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكِ".
(12) الأرواح التي دأبها الإنكار هي الشياطين. وكان جوته يمثل إبليس بأنه الشيطان الذي يجمع إلى الإنكار والكفران (Yerneinung) شيئًا من المجون والفكاهة والسخرية.
(13) أي أن الظواهر كلها زائلة. وإنما الأبدي الدائم هو الأفكار الكامنة وراء تلك الظواهر.
(14) راجع جاك. مايلز - ترجمة ثائر ديب - سيرة الله -1- إله التوراة بوصفه بطلًا روائيًا ص 397، 418، 425.
(15) راجع محمد عوض محمد - فاوست الطبعة الخامسة سنة 1971م ص 52-57.
(16) من ص 72.
(17) من كتابه " فاوست - الجزء الأول من المأساة وبآخره خلاصة الجزء الثاني " ص 68-72.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1511.html
تقصير الرابط:
tak.la/zr59n4f