ج: أولًا: كان " هارس كندرا " ملكًا مثاليًا، ففي عصره سادت العدالة وعمَّ الرخاء جميع أرجاء مملكته، وبينما كان هارس كاندرا في طريقه لإنقاذ امرأة تجوز في محنة طبقًا للتعهد الذي أخذه على نفسه بحماية الخائفين ومحاربة الأعداء ومنح الصدقات ولا سيما للبراهمة، أراد البراهمة اختباره طبقًا لهذا التعهُّد، فطلبوا منه التخلي عن كل ممتلكاته، فتخلى عن طيب خاطر عن كل شيء باستثناء زوجته وابنه وجسده، وعاش هذا الملك العظيم كشحاذ لا يملك شيئًا. وكان الملك مُطالبًا بدفع أجر شخص يُدعى راجاسيا Rajasuya كان قد أوقف أجره من قبل، فاضطر الملك إلى بيع زوجته وابنه لدفع الأجر المطلوب لراجاسيا، وعاش الملك بمفرده في مذلة شديدة، وفجأة مات ابنه، فقرَّر الملك وزوجته أن يحرقا أنفسهما مع ابنهما في المحرقة، ولكن الإله " أندرا " تدخل، فأعاد الحياة لابن الملك الميت، وجمع شمل الأسرة وأصعدها للسماء (راجع فرانسيس أندرسون - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - أيوب ص 22، 23). ومن العرض المختصر السابق يتضح مدى الاختلافات بين هذه القصة وبين قصة أيوب، فأيوب لم يتخلَّى عن ممتلكاته بإرادته، ولم يعش شحاذًا، ولم يبع زوجته وابنه، ولم يقرر حرق نفسه هو وزوجته مع ابنهما الذي مات، ولم يتدخل الإله لبعث الحياة لابن أيوب، ولم يصعد أيوب مع أسرته للسماء، حتى أن " هولشر " Holscher قال قد تكون هذه الأسطورة هي المقتبسة من سفر أيوب.
ثانيًا: وثيقة " حوار حول الانتحار " ترجع للفترة ما بين المملكة القديمة والمملكة الوسطى، وتبدأ بمقدمة نثرية وأيضًا تنتهي بخاتمة نثرية، يفصلهما قصة شعرية، فهي تماثل سفر أيوب من جهة هذا الشكل فقط، وتخالفها في المضمون تمامًا، ففي هذه الوثيقة يحاور فيها الرجل المصري البائس نفسه (الكأ أو المقرين) عن فكرة الانتحار بسبب ما يعانيه من بؤس وشقاء في ظل اختفاء العدالة والمحبة، فيذهب ليقف على حافة القبر استعدادًا للانتحار ولكن روحه تفزع من الظلمة وتأبى الانتحار، واقترحت روح المصري البائس عليه أن يكون الانتحار عن طريق الحرق بالنار، ولكنها مرّة أخرى فزعت وفرّت من تلك النهاية البشعة، وأخذت روح المصري البائس تصف له فظائع القبر قائلة: "إذا تذكرت المدفن فأنه حزن، وذكراه تثير الدمع، وتفعم القلب حزنًا، فهو ينتزع الرجل من بيته ويلقى به على الجبل (أي الجبانة)، ولن تصعد روحه قط ثانية لترى الشمس... تمتع بيوم السرور وأنسَ الهموم"(1).
ويقول " برستيد" James Henry Breasted: "وفي ورقة محفوظة الآن بمتحف برلين، ربما كانت أهم وثيقة وصلت إلينا من ذلك العهد السحيق. ويمكننا أن نسميها {محاورة بين إنسان يائس سئم الحياة وبين روحه} لأن عنوانها القديم مفقود، وموضوع هذه المحاورة العام هو اليأس المستحكم الذي نتج عن مثل الحالة السالفة الذكر، فأفضى الشعور به إلى أن الموت هو الخلاص الوحيد من الحياة، وغني عن البيان أن اختيار مثل هذا الموضوع في مثل ذلك العهد السحيق هو أمر من أعجب الأمور. إذ هو في الواقع موضوع يصف الحالة العقلية والتجارب الباطنة لنفس معذَّبة تتألم مما ضاق بها من الظلم وسوء الطالع. وبذلك يُعد هذا الموضوع أقدم قطعة أدبية تناول موضوعها الخبرة الروحية، وهي في نظرنا تُعد أقدم مقال يمثل لنا صورة مما ورد في سفر نبي الله أيوب عليه السلام، وقد كُتب المقال طبعًا قبل أن تظهر التجربة المماثلة الحاوية لمثل هذا الشعور في شعر مماثل بين العبرانيين بنحو ألف وخمسمائة سنة"(2).
وبلا شك أن هناك خلافًا جوهريًا في المضمون بين وثيقة " حوار حول الانتحار " وبين سفر أيوب الذي جاء غنيًا بالأحداث الدرامية، وبينما تدور الوثيقة أساسًا حول محاولة الرجل المصري البائس للانتحار، فإن أيوب البار لم يفكر في هذا الأمر على الإطلاق، بل عندما عُرِض عليه من قِبل زوجته التي قالت له: "بَارِكِ الله وَمُتْ! فَقَالَ لَهَا: تَتَكَلَّمِينَ كَلاَمًا كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ! أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟ فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ" (أي 2: 9، 10)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. كما أن هذا المصري البائس لم يستطع أن ينفذ الوصية التي اقترحتها عليه روحه، وهي أن يعيش في اللهو والملاذ كطريق للخلاص من البؤس، لذلك عاد يعزي روحه بفكرة الانتحار، عارضًا صورة وردية للموت، وهذا ما أوضحه في القصيدة الثالثة عندما قال: "الموت خلاص سار: أن الموت أمامي اليوم، كالمريض الذي أشرف على الشفاء، وكالذهاب إلى حديقة بعد المرض.
وإن الموت أمامي اليوم، كرائحة بخور المُرّ، أو كالجلوس تحت الشراع في يوم شديد الريح.
إن الموت أمامي اليوم، كرائحة زهرة السوسن، أو كجلوس الإنسان على شاطئ السكْر.
إن الموت أمامي اليوم، مثل مجرى الماء العذب! ومثل عودة الرجل من سفينة حربية إلى داره.
إن الموت أمامي اليوم، كسماء صافية، ومثل رجل يصطاد طيورًا لا يعرفها.
إن الموت أمامي اليوم، كمثل رجل يتوق لرؤية منزله، بعد أن أمضى سنين عديدة في الأسر"(3).
وإن كان أيوب البار تمنى واشتهى الموت إلاَّ أنه لم يقبل فكرة الانتحار، فما صوّره هذا الإنسان المصري البائس لا وجود له ولا صدى له في سفر أيوب، ورغم أن هذا المصري أخذ يحبب لنفسه الموت إلاَّ أنه لم ينتحر، إنما جاء الحل في نهاية القصيدة، وهو الالتجاء إلى العدالة في الحياة الأخرى، فقال: أن الذي هنالك، سيُقبض على المجرم كإله حي. ويوقع عقاب السوء على من اقترفه. إن الذي هنالك، سيكون رجلًا عاقلًا غير منبوذ، مصليًّا حيثما يتكلَّم"(4).
ثالثًا: ردًا على القائلين بأن سفر أيوب مقتبس من قصة " الفلاح الفصيح " من الحضارة المصرية القديمة، نقول أن الفلاح الفصيح قد تعرَّض لظلم فادح فكتب لملك ذاك الزمان لينصفه، وإذ أُعجب الملك بكتاباته صبر عليه لكيما يكتب أكثر فأكثر، وجاءت مكاتبات هذا الفلاح في شكلها فقط تشابه سفر أيوب حيث تبدأ بمقدمة وخاتمة نثرية يفصلهما مضمون الرسالة وهو نصف شعري، ويقول " فرانسيس أندرسون": "أوجه الشبه يبدأ في الشكل الخارجي لأن هذا المؤلَّف الذي يرجع تاريخه إلى الآلف الثانية قبل الميلاد يتكوَّن من تسعة أحاديث نصف شعرية مع مقدمة نثرية وخاتمة نثرية كذلك. وهذا في حد ذاته لا يبرهن على شيء باستثناء الاستخدام الشائع للشكل المألوف للمقدمة والجزء الأوسط والخاتمة كعمل أدبي... ومما يثير الانتباه في الحوار في المؤلَّف المصري أنه يتكون من سلسلة من التوسلات لفلاح مصري مظلوم طلبًا للعدالة مع ردود عليه من الحاكم، فالشبه بينه وبين سفر أيوب طفيف والوحدات التي تشكل جوهر هذا العمل الأدبي مختلفة تمامًا، فالفلاح يشكو من العمال الغير جديرين بالثقة واحتجاج أيوب ضد الظلم موجه للَّه وليس موجه ضد البشر، ولنفس السبب لا يمكن اعتبار أن سفر أيوب يقف جنبًا إلى جنب " بأدب الاحتجاج..."(5).
ولا يصح أن نربط بين أي قصة معاناة وبين قصة أيوب، فالمعاناة مع الحياة صنوان لا يفترقان، فأينما وُجِدت الحياة على الأرض وُجِدت المعاناة، فلا يصح الربط بين قصة أيوب وبين كل قصة تحمل معاناة إنسانية، ويقول " فرانسيس أندرسون": "إن أدب الشرق الأدنى القديم لم يفرز سفرًا آخر كسفر أيوب، وهناك قائمة مطوَّلة بالكتابات في هذه المنطقة، وقائمة ثانية من بلاد أخرى تذكرنا بأيوب من ناحية أو أخرى، ولكن ما من واحد منها قريب من سفر أيوب عند فحص العمل ككل، فبكل منها الكثير من أوجه الاختلاف أو التشابه ولكن ما من واحد منها يمكن أن يعتبر بحق مصدرًا محتملًا أو نموذجًا لسفر أيوب. إن ذلك الإسرائيلي الحزين، والألم مُطبق عليه من كل جانب، لم يكن بحاجة أن يقرأ كتابًا مصريًا أو كتابًا من مدن ما بين النهرين حتى يثير ذلك السؤال: لِمَ يُجرب الله الناس بهذه التجارب؟ إن أقرب الكتب شبهًا بقصة أيوب يمكن ارجاعها للخلفية المشتركة لتقليد الحكمة دون افتراض أن يكون أحدهما اقتبس من الآخر، ويمكن مع ذلك الاستعانة بها في إلقاء الضوء على بعض النصوص التي تشبهها في سفر أيوب... يقف (سفر أيوب) وحيدًا في كل هذه، فلا يوجد من قبله، على قدر ما نعلم، نموذجًا يمكن أن ينهل منه، ولم يأتِ بعده ما يتطاول لمستواه. إن المقارنة تعمل فقط على تعميق احترامنا وتقديرنا لتلك العظمة الفريدة للسفر"(6).
_____
(1) جيمس هنري برستيد - ترجمة د. سليم حسن - فجر الضمير ص 184.
(2) جيمس هنري برستيد - ترجمة د. سليم حسن - فجر الضمير ص 182.
(3) المرجع السابق ص 187.
(4) جيمس هنري برستيد - ترجمة د. سليم حسن - فجر الضمير ص 189.
(5) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - أيوب ص 26.
(6) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - أيوب ص 28، 29.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1509.html
تقصير الرابط:
tak.la/4msk94m