يقول " مفيد غرنوق " أن سفر أيوب مُقتبس من قصة " شوبشي ميشري شاقان " البابلية، والتي دعاها المترجمون الأولون بِاسم " الصالح المتألم"(5)، فبعد أن أورد " مفيد غرنوق " القصة البابلية ثم أورد بعض الأجزاء من سفر أيوب الأصحاحات 1، 3، 23، 19، 17، 42 قال عن قصة أيوب: "بعد هذه المقتطفات البسيطة من سفر أيوب التوراتي، نعوّد ونقوّل أن قراءة كاملة لهذا السفر في التوراة تعطينا فكرة أوسع حول مضمون هذه القصة كما توضِّح أنها منتحلة ولا تمت إلى الفكر الديني اليهودي بصِلَةٍ"(1).
ويقول " الأب سهيل قاشا": "وقصة سفر أيوب تكاد تكون نصوصًا مأخوذة من الكتابات البابلية. حتى أن أحد ملوك أدوم (يوباب بن زارح) قد ورد اسمه في هذه القصة"(2).
ويذكر " ول ديورانت " في كتابه " قصة الحضارة " قصتين متشابهتين مع سفر أيوب، أحدهما قصة " بلطا - أرتو" الذي كان ملتزمًا تجاه آلهته أكثر من جميع الناس، ومع ذلك فقد حلَّت به البلاوي، ففقد أبويه وخسر ماله، والقليل الذي بقى معه سُرق منه، ويرى أصدقاؤه -مثل أصدقاء أيوب- أن ما حلَّ به من بلاء ليس إلاَّ عقابًا على خطاياه الخفية، ويؤكدون له أن هذا الشر هو خير مُقدَم من الآلهة له، وإذا تمسك الإنسان بإيمانه وشجاعته فأنه سينال خير الجزاء، فيصرخ " بلطا - أرتو " للآلهة طلبًا للعون.
أمَّا القصة الأخرى التي ذكرها " ول ديورانت " فهي تخص " تابي - أتول - أنليل" وهو على ما يبدو أحد حكام نبور أصابته المحن فأغلقت مقلتيه وصار كأصم وبعد أن كان ملكًا صار عبدًا وأساء رفاقه معاملته. فأخذ يمضي نهاره في حسرات عميقة وبالليل البكاء، وطول الشهر صراخ وطول العام شقاء، ويتعجب لأنه كان إنسانًا تقيًا يخصص للآلهة أنصبتها من الطعام ودائم التضرّع لها، وعلَّم شعبه تعظيم اسم الآلهة، وعندما أصابته الأمراض لم يفهم لماذا..؟ فصارت تصرفات الآلهة غامضة بالنسبة له، وبدأ يتحسَّر على حاله وما آل إليه من حزن وعمى وصمم، فيقول: "يطاردني المطارد طوال النهار... ولا يترك لي بالليل لحظة أتنفس فيها " وصار يقضي الليل وأقذاره عالقة به، وبعد كل هذا أخذ يجهر بإيمانه، فتغيّرت أحواله للسعادة والهناء وشُفيَ من جميع أمراضه، حيث هبت عاصفة هوجاء طردت شياطين المرض كلها من جسمه فأخذ يسبح بحمد مردوخ ويقدم القرابين، ويعلِّق " ول ديورانت " على هذا قائلًا: "وليس بين هذا وبين ما ورد في سفر أيوب إلاَّ خطوة واحدة"(3).
ج: أولًا: طالما انشغل الفكر البشري في الحضارات القديمة بقضية الإنسان البريء الذي يقع تحت سطوة الألم، وفي قصيدة "أبغى مديح سيّد الحكمة" كانت هناك تشابهات قوية مع سفر أيوب، حتى أن المترجمين للقصيدة وضعوا لها عنوان آخر وهو " الصالح المتألم"، ووجدت القصيدة على أربعة ألواح طينية تشمل نحو 450 بيتًا شعريًا، بعضها يصعب قراءته بسبب بعض الثقوب التي طرأت على هذه الألواح، وهي تحكي قصة إنسان صالح يقدم القرابين السخية للآلهة وكان يعمل في بلاط أحد ملوك بابل وقد أحبه إلهه فأغدق عليه خيرات عديدة ورزقه أولادًا صالحين، وحظى بمحبة الجميع، ولكن على حين غرفة تخلَّت عنه الآلهة بدون مُبرِّر وفجأت حلَّت به الكوارث.
ففي " اللوحة الأولى " جاء ذكر كيف فقد " شوبشي - ميشري - شاقان " ثروته ومركزه الاجتماعي ووظيفته في قصر الملك، وفقد ثقة الملك به، واحترام الناس له، فصار فقيرًا حقيرًا دون ذنب جناه...
وفي " اللوحة الثانية " جاء ذكر الأمراض والأوجاع والآلام التي داهمته، حتى صارت عائلته تبكيه متوقعه موته، فحضَّرت ما يلزم لجنازته، وفي آخر بيتين في هذه اللوحة يلمع بريق أمل لشفائه ونجاته من الموت...
وفي " اللوحة الثالثة " يرى " شوبشي " ثلاثة أحلام متتابعة ظهرت فيها عدة شخصيات أخذت تتوسط بينه وبين الآلهة لتنعم عليه بالشفاء، ثم صدر الأمر بالعفو عنه ووعده بنوال الشفاء واستعادة صحته...
وفي " اللوحة الرابعة " تمجيد لمردوخ كبير الآلهة الذي يرد الحياة للمشرف على الموت، ويحيي من وصل إلى جوف القبر.
وفيما يلي عقيدة الصالح المتألّم " أبغى مديح سيّد الحكمة ":
اللوحة الأولى:
إني أبغى مديح سيّد الحكمة، الإله الفطن... الذي يثير الليل وينشر الضوء في النهار... إنه مردوخ سيد الحكمة الإله النبيه... الذي يثير الليل وينشر الضوء في النهار.
وكالزوبعة العاصفة يغلَّف بغضبه كل شيء... بيد أنه وهو المُنعِم، يكون كالنسيم عند الصباح... أمَّا الذي لا يقاوم غضبه فهو هائج كالطوفان... وأمَّا قلبه فيحنو دائمًا ويصفو فكره... هو الذي لا تقوى السموات على صدمة يده.
لكن راحة كفه مهدئة وتنعم على الأموات (فُقد من النص ثلاثين سطرًا).
* * * * * * *
لقد تخلّى عني إلهي واختفى إلى الأبد... وآلهتي تغيبتْ عني وابتعدتْ... وانفصل عني الملاك المُحسن الذي كان يرافقني... وهربَ مني الملاك المُخلص مفتشًا عن سواي... لقد أُنتهكت حيويتي وعتمت رجولتي البارزة... وفقدتُ صحتي الجميلة واختفتْ كل حماية لي دفعة واحدة... وكأنها علامات مخيفة بدت أمامي.
خرجتُ من بيتي ومشيتُ دون هدف... استنطقتُ طالعي فإذا به ملئ بالعكر وملتهب كل يوم... وبعد أن تركت العراف ومفسّر الأحلام... لم أعُدْ أجد الطريق الذي سأسلكه... وكانت أحاديث الناس إليَّ في الطريق دلائل شؤم بالنسب لي... وعندما أنام في الليل فحلمي يكون مخيفًا.
وأصبح قلب الملك الإلهي شمس العالم...
غاضبًا وفي سبيل شقائي لم يقف... ورجال البلاط أخذوا يرهقونني بالعدوان...
فكانوا يتجمعون ويتبادلون الحديث في أشياء
لا تُقال... كان الأول يقول: سأنهي حياته.
ويُعلِّق الثاني: سأجبره على التخلّي عن مركزه... وبالنسبة للثالث فيقول: سأستولي على كل ما أُودع لديه... قال الرابع: سأدخل بيته... وقال الخامس: سأخرب مكتبه... ويقول السادس والسابع: سأضطهد ملاكه الحارس.
إن عصبة السبعة جمَّعوا دروسهم السريرية... بلا شفقة كالشيطان "آنو" ومثل... إن لهم جسدًا واحدًا وليس لهم سوى فم واحد... وفي قلبهم سعير ضدي يشتعل كالنار المُحْرَقَة... والمعروف الوحيد الذي يسدونه إني ليس بأقل من الاغتياب والنميمة.
كان فمي بالأمس مملوءًا باليقين فكمَّموه... وقد أصبحتُ كالأصم الأبكم أنا الذي كانت شفاهي زلقة... كما أن نداءاتي الطنانة أصبحتُ صامتة... ورأسي المرفوع أبدًا انحني حتى الأرض... وقلبي العنيف ضعف من شدة الخوف.
وأصبح صدري الواسع يصده عامل بسيط... وبينما كانت ذراعاي مملؤتين نشاطًا أصبحتا مشلولتين... أنا الذي كنتُ أختال مثل سيّد تعلمتُ مسح الجدران... وتحوّلتُ من سيد إلى عبد... وبينما كنتُ ضمن عائلة كبيرة أصبحتُ وحدي.
وعندما أمشي في الشارع يُشار إليَّ بالبنان... وإذا دخلت القصر فالأنظار تحدّق إليَّ خلسة... وأصبحتْ مدينتي تنظر إليَّ وكأني عدو... وكأنها عدوتي في بلادي المرعوبة... وأخي تحوَّل عني كالغريب.
ورفيقي كالخبيث والشيطان... إن غضب رفيقي لا ينفك عن اتهامي... وزميلي يُشهر سلاحه دائمًا في وجهي... إن أعز أصدقائي يريد أن يختصر حياتي... وفي قاعة المحكمة شتمني عبدي.
وخادمتي، وصمتني بالقبح أمام الجمهور... وإذ تراني إحدى معارفي تقف على الحياد... وتعاملني عائلتي كأني لستُ من لحمها... ومن يذكرني بعطف فإن الحفرة أمامه... ويكون في الأوج من يتهمني بالعار.
والله يعلم من يتهمني باطلًا بأمور لا تقال... والموت يحدق بمن يتقدّم لمساعدتي... ومن يتهمني بالغباء فإن ملاكه الحارس يسدي إليه الصحة... لم أعثر على أحد يرافقني ولا على أحد يشفق عليَّ... لقد وزعوا ما أملك على الأوغاد والرعاع.
وطردوا من حقولي أصوات الحصادين المُفرح... وجعلوا مقامي ساكنًا كمقام الأعداء... كما حولوا مركز عملي المُقدَّس إلى شخص آخر... وعينوا ضابطًا غريبًا يقيم طقسي.
فأصبح النهار تأوهات والليل شكاوي... وامتدت طوال الشهر شكواي وأحزاني... وكل أيام حياتي نوح كالحمام... وعوضًا عن الغناء أصرخ بصوت نائح... وحتى أصبحت عيناي تبكيان دومًا دون انقطاع.
لقد احترقت وجنتاي من الدموع التي لا تنقطع... وبَدَا على وجهي قلق قلبي... وأصبحت قسمات وجهي كلها خوفًا ورعبًا.
* * * * * * *
اللوحة الثانية:
من هذه السنة وإلى ما بعدها قد نفذ الأجل المحدد... فكم تطلعتُ حواليَّ ولم أجد غير الشقاء... بالنسبة إليَّ يزداد الخبث ولا أرى عدلًا... فصرخت إلى الإله غير أنه حوَّل وجهه عني.
تضرعت إلى آلهتي ولم تدر إليَّ رأسها... ولم يحدد العراف مستقبلي... ورغم إراقة الخمور، لم يوضح حالتي مفسر الأحلام... توسلت إلى روح الأحداث ولم أفهم شيئًا... والرقَّاء وفق الطقوس، لم يحلَّ الغضب الإلهي عني.
فيا للعجب مما يجري حولي... فأتطلع إلى ما ورائي فلا أجد غير الاضطهاد والقلق... وكأني مثل رجل لم يسكب الخمور للآلهة... أو لم يدعُ آلهته إلى المائدة... أو لم يحسن وجهه ويسجد بوضوح.
أو توقفت صلاته وتضرعاته... أو نسى يوم الإله وأهمل الأعياد الشهرية... أو نسى بإهمال منه أداء طقس الآلهة... ولم يعلَّم أتباعه الخوف لا ولا الاحترام... أو من يكون قد أكل زاده دون أن يشكر الله.
أو أهمل آلهته دون أن يُقدّم لها قربان الطحين... أو كمن نسيّ سيّده وكأنه في حالة الجنون... أو تفرغ بلا تروٍّ إلى حياة إلهه في عهد علني. ها أنا هنا مستعد... إذْ كان التضرّع بالنسبة إليَّ حكمة والذبيحة شريعة.
واليوم الذي فيه نمجَّد الإله يكون يوم حبور... ويوم الطواف من أجل الآلهة يكون يوم ربح وفائدة... والصلاة من أجل الملك كانتْ كل فرحي... والموسيقى من أجله كانتْ سعادتي... لقد أخضعتُ بلادي إلى احترام طقوس الإله.
وعلَّمتُ أتباعي إجلال اسم الآلهة... وساويتُ بين تسابيح الإله وتسابيح الملك... وعلَّمتُ الشعب مخافة القصر... وقد اعتقدتُ أن كل ذلك يروق للإله... غير أن ما يبدو لي صالحًا قد يكون بنظر الإله إساءة.
وما هو مكروه بالنسبة لنا قد يكون حسنًا عند الإله... فمن هو الذي يستطيع إدراك مرامي الآلهة في السماء..؟ ومن هو الذي يُدرِك التصاميم الإلهية في اللجَّة... وأين يتعلَّم الفانون طرقات الإله..؟ فمن يكون البارحة بصحة جيدة يموت اليوم.
وذو الوجه المكفهر سرعان ما يستعيد نشاطه... وإذْ يهم بالعطس، فإنه يطلق لحنًا فرحًا... وبعد خطوة ينوح كالندَّاب... وما أن يفتحوا أفواهم ويغلقوها حتى تتغير روحهم... فهل هم جياع، إنهم كالجثث.
هل هم في امتلاء. إنهم يتخاصمون مع آلهتهم... وفي وقت السعادة يفكرون بالتدرّج نحو السماء... وهل هم يتألّمون؟ إنهم يسكتون من نزولهم إلى الجحيم... وإزاء هذه التناقضات أتساءل دون أمل إلى المعنى العميق... أنا المضني الذي تطارده العاصفة.
وزيادة على ذلك فقد أصابني مرض مُنْهِك... وعصفتْ بي ريح آتية من عمق الأفق... وانتشرت حمى " الربو " من على سطح العالم السّفلي... والسعلة الكريهة أتت من عالم " الأبسو"... واندفع من الأيكور الشيطان " أتوكو " الذي لا يقاوم.
و" اللامشتو " نزل من قلب الجبل... ومع فيض النهر أتتْ الرعشة المثلجة... ونبتَ الذبول من التربة مع الخضرة... فقد تضافرتْ كل هذه الأوبئة واقتربتْ مني... فصدَّعتْ رأسي وضغطتْ على جمجمتي.
إن وجهي قد عتَّم وعينيَّ قد ثقلتا... فحلَّتْ الأوجاع في رقبتي وشلَّتْ عنقي... وأصابتْ صدري وانقضتْ على أحشائي... ومرَّغتْ جسدي ورقبتي في الصرع... والتهبَ أعلى معدتي.
لقد تبلبلتْ أحشائي وتشوشتْ أعضائي... وجعلتني أقذف بلعابي كما ألهبتْ رئتي... ألهبتْ كل أعضائي وأصبح ذهني يهتز... وقامتي الشامخة انخفضتْ وهوتْ كما يهوى الجدار... والتوى منكباي العريضان كالقصبة.
فهبطتُ مَثْنِيًّا كالعشبة أعفر الأرض بوجهي... لقد لبسني الشيطان " أنو " كما يلبس الرداء... وأحاط بي الرعب كالشبكة... وجحظتْ عيناي ولم تعودا ترى شيئًا... ورغم أن أذنيّ مفتوحتان فإنهما لا يسمعان.
الشلل أحاط بكامل جسدي... والرعشة اعترت كامل لحمي... فأخذ التصلُّب بمجامع ذراعي... والعفن دبَّ في ركبتي... لقد نسيت رجلاي السير.
وحلَّتْ بي صدمة وها أنا أختنق فجأة... الموت دوني وقد خيم على وجهي... لم أعُدْ أصغى إلى مفسر الأحلام... عائلتي تبكيني وقد فقدت الوعي... وضَعتْ كمامة على فمي.
ومزلاج أغلق شفتي... بأبي موصد وينبوعي جفَّ... وجوعي يطول وحنجرتي مغلقة... وإذا ما ناولوني حبة فإني أشعر بها وكأنها نتن... لقد أصبحت الجعة وهي حياة البشر، كريهة المذاق.
وزيادة على ذلك لقد طال أمد هذا الألم... وفسدتْ قسماتي من قلة الغذاء... وتهدَّل لحمي وسال دمي... لقد برزتْ عظامي تحت جلدي الذي يغطيها وحده... كما أصبحتْ عضلاتي ملتهبة وكأني أصبت بعلة " أوريكتو".
فأصبح سريري كسجن إن حاولتُ فتحتُ وطأة الأنين... أصبح بيتي وكأنه بالنسبة لي سجنًا... كما أصبح لحمي غطاء لذراعيَّ المتصلبتين... وتوجعت رِجْلايَ وكأنهما في سلاسل... أليمة جدًا هي الصدمة التي أصابتني وجرحي خطير.
إن السوط الذي سقط عليَّ ملئ بالشوك... والمنخس الذي اخترقني كله شوك... وفي كل يوم يضطهدني معذّب... ولا يدعني في الليل أتنفس لحظة... وفي الاضطرابات التي وقعت فيها تهدَّمتْ عضلاتي.
وبفعل التفسخ تبعثرت هنا وهناك... وفي الأسطبل كنت أقضي لياليَّ كالثور... وأصبحتُ ملوثًا بروثي كالخروف... إن أعراض مرضي أفزعت الرقَّاء... ودليل شؤمي فات على الرقَّاء.
لم تتوضح للرقَّاء أسباب مرضي... ولا العراف حدَّد نهاية لمرضي... ولم يأتِ الإله لمساعدتي ولم يأخذ بيدي... وآلهتي لم تشفق عليَّ ولم تمشي إزائي... قبري مفتوح وحلتي الأخيرة مهيأة.
لقد وقع عليَّ النحيب قبل موتي... وقالتْ عني البلاد كلها: لقد عومل دون حق... وإذْ سمعتْ ذلك فمَنْ كان يريد بي شرًا انفرجتْ أسارير وجهه... وعندما أخبروا بذلك من يريد بي شرًا فرح قلبه... غير إني أعرف جيدًا يوم عائلتي.
حيث تشرق الشمس على كل معارفي.
* * * * * * *
اللوحة الثالثة:
كانت يده ثقيلة ولم أستطع تحملها... كان خوفي منه هائلًا... كان وجهه غاضبًا وصوته كالطوفان ذاته... وكان تصرفه عنيفًا... وبفعل هذا المرض المُضني، لم أعُدْ أعي ذاتي... فقدتُ الوعي وجعلني ألمي أهذي... فكنتُ أنتحبُ ليلًا نهارًا... وفي الحلم كما في اليقظة كنتُ سقيمًا جدًا... وإذ بفتى ذي قامة غير مألوفة.
وبنسب عضلية رائعة... وثياب نظيفة... يشع منها بهاء غير طبيعي... وفي أردية مخيفة... يظهر لي واقفًا فوق رأسي... وعندما رأيته، أصابني الشلل.
فقال لي: أرسلتني السيدة لأقول لك: (هناك خمسة أسطر مفقودة).
* * * * * * *
وللمرة الثانية رأيتُ حلمًا... وفي الحلم الذي رأيته في هذه الليلة... ظهر لي كاهن مطهّر... يمسك بيده المن المطهّر.
إنه " تاب - أوتول - أنليل " مطهّر نيبور قال لي:... لقد أرسلني إليك لأطهرك... وسكبَ عليَّ الماء الذي يحمله... وأطلق رقية الحياة وفرك جسدي... وفي المرة الثالثة رأيتُ حلمًا... وفي هذا الحلم الذي رأيته هذه الليلة... تظهر لي فتاة بهية الطلعة... سيّدة الشعوب، أشبه ما تكون بآلهة... ظهرتْ لي وجلستْ عند رأس السرير... أسألكِ الشفاعة أنا الذي أتألم جدًا.
قالت: لا تخش شيئًا سأتدخل من أجلك... إني أسأل العفو عنه، هو المتألم جدًا... وإيا كان من أتته هذه الرؤيا في الليل... قد ظهر في الحلم " أور - نين - دين - لوجا " البابلي.
إنه فتى، ملتح يعلو رأسه التاج... إنه مردوخ نفسه كما قال: هو الذي أرسلني لأقول لك:... إني أجلبُ لك الرخاء، يا " شوبشي - ميشري - شاقان".
وهكذا، يكون مردوخ نفسه قد وضعني بين يدي الشافي... وفي يقظتي أرسل يبلغني... مظهرًا لجميع رجالي علاقة عطفه بكل وضوح... لقد خلصني دفعة واحدة من الألم المزمن... وفجأة توقف مرضي وتحطمتْ قيودي.
وبعد أن هدأ قلبي بتدخل سيّدي... هدأتْ روح مردوخ الرّحيم... لقد تبلَّغ تضرعاتي وتقبَّل صلواتي... وبعد أن أظهر ودًا وعطفًا نحوي... عفا عني أنا الذي كنتُ أتألم جدًا... حلَّ عقدة آثامي التي اقترفتها... وأبعدَ عني العقوبات الإلهية التي تحملتها... وعفا عن جميع المخالفات التي اقترفتها... وذرَّ في وجه الريح كل الإهمالات التي وقعتُ فيها. (وهنا قطعة مفقودة).
* * * * * * *
اللوحة الرابعة:
لقد رأي البابليون كيف أن مردوخ يعيد إلينا الحياة.
فمجَّد عظمته كل الساكنين في المناطق... فمن تصوَّر أنه سيرى الشمس ثانية... ومن واتته فكرة الذهاب إلى آخر الشارع... ومن يكون سوى مردوخ الذي يُرْدّ الحياة إلى المُشرف على الموت... وما عدا "زربانيتو" فأي آلهة تعيد الحياة.
إن بإمكان مردوخ أن يحيي من هو في القبر... و"زربانيتو " تعرف كيف تجنب الإنسان الكارثة... فحيثما تكون الأرض وتمتد السموات... وحيثما تسطع الشمس أو تشتعل النار... وحيثما تجري المياه وينفخ الريح.
إن " أرورو " هو الذي عجن الطينة البدئية... وجعلها على هيئة خلائق حية تسعى... فيا أيها الفانون مجدوا عظمة مردوخ.(هناك ثلاثين بيتًا مفقودة).
* * * * * * *
في غمرة السجود والتضرّعات ذهبتُ إلى الأيزاجيل... أنا الذي نزلتُ إلى القبر قد عدتُ إلى باب الشمس المشرقة... إلى باب الخيرات، أُعيدت إليَّ الخيرات.
إلى باب الملاك الحارس فعاد إلى جانبي ملاكي الحارس... إلى باب الخلاص حيث وجدت الخلاص... إلى باب الحياة حيث وجدت نعمة الحياة... إلى باب الشمس المشرقة حيث عدتُ من جديد إلى عداد الأحياء... إلى باب النبوات فتحققتْ نبواتي.
إلى باب غفران الخطايا، فغُفرتْ خطيئتي... إلى باب المديح حيث تمكن فمي من السؤال... إلى باب نهاية التأوهات، فتوقفتْ تأوهاتي... إلى باب المياه العذبة مياه التطهير حيث اغتسلتُ... إلى باب السلام حيث واجهتُ مردوخ.
إلى باب الكمال النهائي فقابلتُ رجل " زربانيتو"... وفي حالة من الابتهال والتضرّع لم أنفك عن الصلاة... فوضعتُ أمامهم البخور العطر... وقدمتُ الهدايا والقرابين بأكداس... وذبحتُ ثيرانًا سمينة وخرافًا ضخمة.
وسكبتُ الخمور، والجعة المعسّلة، والخمر النقي... إلى الملاك المخلص، إلى الملاك الحارس إلى الآلهة حراس جدران الأيزاجيل... ومن كثرة ما سكبتُ من الخمور جعلتُ بشاشتهم تشع... وبطعام غزير أفرحتُ قلبهم.
ثانيًا: لا أحد ينكر التشابهات العديدة بين القصيدة البابلية " الصالح المتألم " أو " أبغى مديح سيّد الحكمة " مع سفر أيوب، ومن أمثلة هذه التشابهات:
1- تبدأ القصيدة بتمجيد رب الحكمة الإله " مردوخ " كُلّي القدرة، وهذه تتفق مع صفات الله كُلّي القدرة في سفر أيوب.
2- تخلّى الإله عن الإنسان الصالح بدون مبرر فيفقد وظيفته وأملاكه وتصيبه الأمراض، وهكذا تبدو الأحداث في سفر أيوب.
3- تلاشي الأحلام الوردية لدى هذا الإنسان الصالح المتألّم وحلول الكوابيس المُرعبة بدلًا منها نجده أيضًا في سفر أيوب.
4- يصرخ الإنسان الصالح المتألّم لآلهة ولا مُجيب، ومع ذلك يظل متمسّكًا بصلاحه وولائه للآلهة، وهكذا فعل أيوب تجاه إلهه.
5- ينتهي الإنسان الصالح المتألم في القصيدة البابلية إلى أن الآلهة لها حكمة لا يدركها الإنسان الفاني، ولذلك قد يسمح بسعادة الأشرار وشقاء الأبرار، وهكذا نرى في سفر أيوب... إلخ...
ثالثًا: الذي يطالع قصيدة " أبغى مديح سيّد الحكمة " وسفر أيوب لا بد أنه سينتبه للعديد والعديد من الاختلافات بينهما، وهذه الاختلافات هي أكثر وأعمق من التشابهات بينهما، وعلى سبيل المثال نذكر بعض هذه الاختلافات:
1- القصيدة البابلية مُوجَهة إلى مردوخ كبير الآلهة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى: "إني أبغى مديح سيّد الحكمة، الإله الفطن"، بينما سفر أيوب يحكي القصيدة ليست كمديح للَّه، ولكنها دُوّنت لصالح الإنسان الساقط تحت التجارب والضيقات.
2- كان الملاك المُحسن المخلص يرافق " شوبشي"، بينما لا نجد هذا في سفر أيوب.
3- ترك شوبشي بيته ومشى بدون هدف، وراح للعرَّاف ومفسر الأحلام ليعرف طالعه أكثر من مرّة، وهذا لا نجده في سفر أيوب، فالعرافة من أعمال الشيطان الذي كان يريد تحطيم أيوب.
4- كان " شوبشي " يعمل في بلاط أحد ملوك بابل، بينما لم يقم أيوب بمثل هذا العمل قط.
5- رجال البلاط السبعة لهم جسد واحد وفم واحد (وهذا بلا شك نوع من الأساطير) يتآمرون على شوبشي، فالأول يريد أن ينهي حياته، والثاني يريد أن يجبره على التخلّي عن مركزه، والثالث يريد أن يستولي على ممتلكاته، والرابع يريد أن يدخل بيته، والخامس يريد أن يُخرب مكتبه، والسادس والسابع يريدان أن يضطهدا ملاكه الحارس (وهذه أساطير أيضًا)، بينما خلّى سفر أيوب من الأساطير تمامًا.
6- كان لشوبشي عائلة كبيرة تنكرت له، وفي قاعة المحكمة شتمه عبده، وهذا لا وجود له في سفر أيوب.
7- صار شوبشي كالأصم والأبكم وشُلَّت ذراعاه، بينما كان أيوب يسمع أصدقائه وينطق بكلمات الحكمة ويحرك ذراعيه.
8- صار شوبشي يبكي دائمًا بدون انقطاع حتى احترقت وجنتاه من الدموع، وهذا لم يحدث مع أيوب.
9- كان شوبشي يسكب الخمور للآلهة ويدعو آلهته إلى المائدة ويسجد لها ويقدم لها قربان الطحين، وفي سفر أيوب لا نجد أي أثر لهذه الأساطير.
10- كانت صلاة شوبشي من أجل الملك تمثل كل فرحه، والموسيقى من أجله كل سعادته، وعلَّم شعبه تعظيم اسم الآلهة ومخافة القصر، وساوي بين تسابيح الإله وتسابيح الملك، ولكن ما كان يظنه أنه أمر صالح كان في نظر الإله أنه سيئ، وما ظنه أنه مكروه فهو عند الإله حسن، وبهذا عجز شوبشي عن إدراك مرامي الآلهة في السماء، ولا نجد هذا في سفر أيوب.
11- جاءت أمراض شوبشي من العالم السّفلي، فأُصيب بحمى الربو والسعال الكريه الآتي من عالم الأبسو، واندفع من الأيكور الشيطان " أتوكو " الذي لا يقاوم، و"اللامشتو " نزل من قلب الجبل وتضافرت كل الأوبئة على شوبشي فأصابته بالصداع وضغطت على جمجمته وشُلَّ عنقه والتهب أعلى معدته ولبسه الشيطان " أنون " كما يلبس الرداء، وجحظت عيناه، وجسده تعرّض للشلل... إلخ.، من التخاريف والخزعبلات التي خلا منها سفر أيوب تمامًا.
12- كان شوبشي يقضي ليله بالإسطبل ولصق به روث الغنم وهذا لم يحدث مع أيوب الذي جلس على الرماد.
13- كان شوبشي يتعرّض لفقدان الوعي، وهذا لم يحدث قط مع أيوب.
14- رأى شوبشي ثلاثة أحلام، في الحلم الأول رأى فتى طويل القامة قوي العضلات يرتدي ملابس نظيفة يشع منها البهاء، وجاء ووقف فوق رأسه فأصيب بالشلل، فقال له الفتى: السيّدة أرسلتني لأخبرك... وفي الحلم الثاني رأى شوبشي كاهنًا مُطهّرًا يمسك بيده اليمنى المن المطهّر وقال له: أن الإله أرسله ليطهّره، فسكب عليه ماء ورَقَاه وفرك جسده. وفي الحلم الثالث رأى شوبشي فتاة بهية الطلعة سيّدة الشعوب أشبه بآلهة، جلست عند رأس سريره فسألها أن تتشفع من أجله فوعدته خيرًا. ثم ظهر بالحلم مردوخ كفتى ملتحٍ يعلو رأسه التاج فنال الشفاء وتخلَّص من آلامه وشفيت أعضاءه، وهذا بعيد تمامًا عما حدث مع أيوب.
15- يعود شوبشي من القبر إلى باب الشمس ويعود له ملاكه الحارس... إلخ. وهذا لم يحدث في قصة أيوب.
16- يُكرم شوبشي الآلهة ويقدّم لها الهدايا والقرابين والذبائح والبخور والجعة المعسّلة والطعام، وكل هذه الأساطير بعيدة تمامًا عن سفر أيوب.
17- في القصيدة البابلية لا يظهر أي سبب للآلام التي حلَّت بشوبشي، بينما واضح في سفر أيوب أن مصدر آلامه هو حسد الشيطان.
18- تخلو القصيدة البابلية تمامًا من أي أثر للخلود، بينما عقيدة البعث والخلود واضحة تمامًا في سفر أيوب (أي 19: 25، 26).
19- يقول " القس صموئيل يوسف": "فالمتألم البابلي يعكس السّبل الغامضة للآلهة، ويرثي للتقدّمة والصلاة التي لا نفع منها، لكي يتخلَّص من مصائبه ومأساته، إلى أن يأتي الوقت ويتدخل مردوك ويخلصه. عندئذ يطفر المتألم فرحًا مُنشدًا تسبيحات الحمد والشكر والتهليل. والواقع أن ليس في هذا المثل "أيوب البابلي" أو أية نصوص بابلية أخرى شبع أو تعزية من آلام الإنسان وضيقاته في هذا العالم، مثلما لأيوب الإنسان التقي، الذي تواضع جدًا أمام إلهه وخضع بالكامل لإرادة الله. ولا يوجد بديل لإنسان متألّم حتى يجد عمقًا وحيًا وبلسمًا لجراحه مثلما يجد في سفر أيوب "(4).
رابعًا: أيضًا من يدرس القصتين اللتين أوردهما "ول ديورانت" سيجد فروقًا شاسعة بين ما جاء في هاتين القصتين وما جاء في سفر أيوب.
_____
(1) التوراة والتراث السوري ص 171.
(2) التوراة البابلية ص 24.
(3) راجع قصة الحضارة - ترجمة د. زكي نجيب محمود - ومحمد بدران - المجلد الأول 2 ص 255-258، والأب سهيل قاشا - أثر الكتابات البابلية في المدوَّنات التوراتية ص 214-221.
(4) المدخل إلى العهد القديم ص 292.
(5) راجع التوراة والتراث السوري ص 147-171.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1508.html
تقصير الرابط:
tak.la/2y3vwwj