يقول " شفيق مقار":
"والذي قاله يربعام في قلبه، وتسمَّع عليه كتبة السفر فسجلوه، كلام
واضح في تأكيد الطبيعة السياسة المحضة لذلك الصراع بين عبادة إيل
وبعل وعبادة
يهوه، فيربعام قال في قلبه أنه لو ترك الشعب يذهب
ليعبد
يهوه
في
أورشليم،
سيرجع المُلك إلى
إسرائيل لرحبعام ملك
يهوذا فتتوحَّد المملكتان تحته، ويُقتل يربعام ويزول مُلكه، ولذلك
حارب يربعام
يهوه بإيل
وبعل"(1).
ويقول " الخوري بولس الفغالي":
"وجعل فيهما
" عجلين ذهبيين" (1مل 12: 26 - 33) لسنا هنا أمام "
آلهة أخرى " كما قال خصومه. فهذان التمثالان اللذان يرمزان إلى
القوة والخصب، يكوّنان موطئًا للإله الخفي الذي يتصوَّرونه واقفًا
على حيوان، ولكن وُجدت حيوانات مشابهة في هياكل الكنعانيين الكثيرة
في مملكة الشمال. وكانت الديانة الوثنية تجتذب السكان الذين
أعتبروا أنهم يحتاجون إلى هؤلاء الآلهة: فآلهة الطبيعة والزراعة
يُؤمّنون النجاح للمحصولات والصحة والخصب للقطعان، وهؤلاء الآلهة
يؤمّنون الحياة اليومية للناس. إذًا خاطر يربعام حين أدخل الصور
الكنعانية إلى شعائر عبادة الرب، فخلط الناس بين الرب والآلهة،
وجعلوا إله
إسرائيل
على مستوى الآلهة الوثنية"(2).
وأيضًا يقول " الخوري بولس الفغالي":
"أن يربعام لم يبنِ معابد جديدة بل بسط رعايته على معبدين قديمين
في مملكته، فزاحما معبد
أورشليم
وصارا معبدين ملكيين. لم يكن في
هذين المعبدين اللذين ارتبطا بالآباء ما يعارض تقاليد القبائل، كما
وأن إيليا وعاموس لم يحكما على وجودهما وعدم شرعيتهما، ولكن
المؤرخ الاشتراعي رفضهما... وقد زاد المؤرخ الاشتراعي فقال: أن هذه
المعابد الوثنية، والعبادات التي تُقام فيها هي عبادات كنعانية"(3).
ج:
1- قال الكتاب: "وَقَالَ يَرُبْعَامُ فِي قَلْبِهِ:
الآنَ تَرْجعُ الْمَمْلَكَةُ إِلَى بَيْتِ دَاوُدَ. إِنْ صَعِدَ
هذَا الشَّعْبُ لِيُقَرِّبُوا ذَبَائِحَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ فِي
أُورُشَلِيمَ، يَرْجعْ قَلْبُ هذَا الشَّعْبِ إِلَى سَيِّدِهِمْ،
إِلَى رَحُبْعَامَ مَلِكِ يَهُوذَا وَيَقْتُلُونِي... فَاسْتَشَارَ
الْمَلِكُ وَعَمِلَ عِجْلَيْ ذَهَبٍ، وَقَالَ لَهُمْ: كَثِيرٌ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَصْعَدُوا إِلَى
أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا
آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّذِينَ أَصْعَدُوكَ مِنْ أَرْضِ
مِصْرَ" (1مل 12: 26 - 28) فما قاله يربعام في قلبه
كان سرًا، ولكن عندما استشار مشيريه لم يعد الأمر سرًا، بل صار
معروفًا، فكتبة السفر لم يتسمعوا ولم يتنصتوا عليه كقول شفيق مقار. وطبعًا كان الهدف من هذا العمل هدفًا سياسيًا أكثر منه دينيًا،
وهذا ما أوضحه الكتاب بأجلى بيان، فإن الدافع وراء عمل هذين
العجلين حتى لا يصعد
بنو إسرائيل إلى
أورشليم في الأعياد الثلاثة،
فيأخذهم الحنين إلى بيت داود، ويرجعون إلى ملكهم رحبعام، فيهجمون
على يربعام ويقتلونه.
2- فقد يربعام إيمانه بالوعد الإلهي (1مل 11: 35 - 38) ولم يصدق
أن الله قادر أن يحفظ له المملكة التي منحها إياه، واعتمد على
فكره البشري وتدبيراته الخاصة فانحرف وأخطأ، وأقام عجلين من ذهب
لعبادتهما مطوحًا بفكرة الوحدانية، وفاتحًا الباب على مصراعيه
للعبادات الوثنية المتعددة، ونسب يربعام عمل الله العظيم في إصعاد
شعبه من قبضة فرعون لهذين العجلين، خادعًا شعبه أن قوة يهوة تتجلى
في هذين العجلين!!. لقد تدرج يربعام من خطية إلى خطية، أقام عجلي
الذهب ليعبدهما الشعب بدلًا من عبادة الإله الواحد، وصرف الشعب عن
هيكل الرب في
أورشليم
للاحتفال بالأعياد المقدَّسة وتقديم الذبائح، وأقام كهنة من عامة الشعب، وإخترع عيدًا، وبنى مرتفعات، وأصعد
محرقات، وأوهم الشعب أنه فعل كل هذا حتى يوفر عليهم مشقة السفر
إلى
أورشليم،
واستغل الدين في أهداف سياسية، وباع ضميره وخلاصه
الأبدي من أجل مكاسب سياسية... إلخ.
3- لاحظ التناقض بين رأي شفيق مقار ورأي الخوري بولس الفغالي،
فالأول يقول: "ولذلك حارب يربعام يهوه بايل وبعل " أي أن
هذه العبادة الوثنية كانت بقصد محاربة عبادة
يهوه، بينما يقول
الخوري بولس الفالي: "لسنا هنا أمام آلهة أخرى كما قال خصومه.
فهذان التمثالان اللذان يرمزان إلى القوة والخصب، يكوّنان موطئًا
للإله الخفي الذي يتصوَّرونه". فشفيق مقار يرى أن العجلين هما
بمثابة إعلان الحرب على عبادة
يهوه، أما الفغالي فأنه يرى أن عبادة
العجلين هي أمر عادي متعارف عليه، فعبادتهما امتداد لعبادة
يهوه،
ولو كان رأي الفغالي صحيحًا، فبماذا تفسر كلام الله ليربعام بفم
أخيا النبي: "وَقَدْ سَاءَ عَمَلُكَ... وَعَمِلْتَ لِنَفْسِكَ آلِهَةً أُخْرَى وَمَسْبُوكَاتٍ
لِتُغِيظَنِي، وَقَدْ طَرَحْتَنِي وَرَاءَ ظَهْرِكَ. لِذلِكَ
هأَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى بَيْتِ يَرُبْعَامَ، وَأَقْطَعُ
لِيَرُبْعَامَ كُلَّ بَائِلٍ بِحَائِطٍ... وَأَنْزِعُ آخِرَ بَيْتِ
يَرُبْعَامَ
"
(1مل 14: 9، 10).
4- لا يمكن عبادة الله في صورة عجل، بحجة أن العجل يرمز للخصب
والقوة، وعبادة العجل كانت تمارس في مصر بصورة قوية في عبادة
العجل أبيس
، وعندما خرج
بنو إسرائيل من أرض مصر، وصعد
موسى
على
الجبل لاستلام الوصايا وغاب عن الشعب طويلًا، ضغط الشعب على هرون
فصنع لهم عجلًا " فَقَالُوا: هذِهِ آلِهَتُكَ
يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ... وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ.
وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ"
(خر 32: 4، 6) ووصل الموضوع للعري " لأَنَّ
هَارُونَ كَانَ قَدْ عَرَّاهُ لِلْهُزْءِ بَيْنَ مُقَاوِمِيهِ"
(خر 32: 25).. فما علاقة كل هذا بالعبادة الحقيقية لله..؟! حقًا أن
هذه العبادة الوثنية جعلت الله يغضب عليهم وقال
لموسى: "فَالآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ
وَأُفْنِيَهُمْ"
(خر 32: 10) وأيضًا حمى غضب
موسى
" فَحَمِيَ غَضَبُ
مُوسَى، وَطَرَحَ اللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ وَكَسَّرَهُمَا فِي
أَسْفَلِ الْجَبَلِ. ثُمَّ أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعُوا
وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَطَحَنَهُ حَتَّى صَارَ نَاعِمًا،
وَذَرَّاهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ"
(خر 32: 19، 20) ولا ننسى أن يربعام أيضًا أمضى فترة هاربًا
في مصر (1مل 11: 40) ولا بُد أنه تأثر بعبادة العجل أبيس.
عجبًا أن الله يرى أن عبادة الأوثان تستوجب الإبادة بينما
يبرر البعض هذه العبادات الوثنية ويبررون يربعام من هذه الخطية
العظيمة التي ظل الله يذكرها حتى سبي
مملكة إسرائيل، قال " فابعد يربعام إسرائيل من وراء الرب وجعلهم يخطئون خطية عظيمة"
(1مل 17: 21). وأنهم يتغافلون الوصية الثانية من الوصايا العشر: "لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلاَ
صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي
الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ.
لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ"
(خر 20: 4، 5) ويقولون أن عبادة العجلين لا تخالف تقاليد
القبائل، فأيهما أهم: تقاليد القبائل أم الوصية الإلهيَّة؟!.
5- حتى لو كان المعبدان قديمين وقد بسط يربعام رعايته عليهما،
فصارا معبدان ملكييَّن، فهذا لا يعطيه المبرّر لهذه العبادة
الوثنية التي نهى الله عنها، وحذر منها، وأوضح أنها مدعاة لحلول
الغضب الإلهي على من يمارسونها... وما أكثر تحذيرات الله من هذه
العبادة الشيطانية:
†
" لاَ تَصْنَعُوا لَكُمْ أَوْثَانًا، وَلاَ تُقِيمُوا
لَكُمْ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا أَوْ نَصَبًا، وَلاَ تَجْعَلُوا فِي
أَرْضِكُمْ حَجَرًا مُصَوَّرًا لِتَسْجُدُوا لَهُ"
(لا 26: 1).
†
" فَاحْتَفِظُوا جِدًّا لأَنْفُسِكُمْ. فَإِنَّكُمْ لَمْ
تَرَوْا صُورَةً مَّا يَوْمَ كَلَّمَكُمُ الرَّبُّ فِي حُورِيبَ
مِنْ وَسَطِ النَّارِ. لِئَلاَّ تَفْسُدُوا وَتَعْمَلُوا
لأَنْفُسِكُمْ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا"
(تث 4: 15، 16).
†
" مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي يَصْنَعُ تِمْثَالًا
مَنْحُوتًا أَوْ مَسْبُوكًا، رِجْسًا لَدَى الرَّبِّ" (تث 27: 15).
†
" وَلاَ تُقِمْ لَكَ نَصَبًا. الشَّيْءَ الَّذِي
يُبْغِضُهُ الرَّبُّ إِلهُكَ"
(تث 16: 22).
†
" ولاَ تَسْجُدْ لآلِهَتِهِمْ، وَلاَ تَعْبُدْهَا، وَلاَ
تَعْمَلْ كَأَعْمَالِهِمْ، بَلْ تُبِيدُهُمْ وَتَكْسِرُ
أَنْصَابَهُمْ"
(خر 23: 24).
†
" لاَ تَذْكُرُوا اسْمَ آلِهَتِهِمْ، وَلاَ تَحْلِفُوا
بِهَا، وَلاَ تَعْبُدُوهَا، وَلاَ تَسْجُدُوا لَهَا" (يش 23: 7).
6- لم يكن هناك أي احتياج أن يستنكر إيليا أو عاموس عبادة الأوثان،
فهذه من بديهيات الإيمان، كما
ذكرنا أيضًا هنا في
موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.
ولو أن إيليا أو عاموس تعرَّض لهذه
العبادات وأظهر رضائه عنها أو تشجيعه لها لكان يحق لأي ناقد أن
يتخذ هذا حجة، ولكن صمت إيليا وعاموس عن أمور مفهومة لدى الكل
ومعروفة من الكل لا يُتخذ حجة ودليل على رضائهما على هذه العبادة،
وكيف يشجع إيليا هذه العبادة وهو الذي واجه أخآب الملك قائلًا له:
"لَمْ أُكَدِّرْ
إِسْرَائِيلَ، بَلْ أَنْتَ وَبَيْتُ
أَبِيكَ بِتَرْكِكُمْ وَصَايَا الرَّبِّ وَبِسَيْرِكَ وَرَاءَ الْبَعْلِيمِ" (1مل 18: 18)..؟! وكيف يشجع إيليا هذه العبادات
وهو الذي ذبح كل أنبياء البعل على جبل الكرمل (1مل 18: 40)؟!
وقد أشاد الله بالذين لم يسجدوا لهذه الأوثان، فقال لإيليا: "وَقَدْ أَبْقَيْتُ فِي
إِسْرَائِيلَ سَبْعَةَ
آلاَفٍ، كُلَّ الرُّكَبِ الَّتِي لَمْ تَجْثُ لِلْبَعْلِ وَكُلَّ
فَمٍ لَمْ يُقَبِّلْهُ" (1مل 19: 18).
وإن كان أحد يدعي أن هذه العبادات موجهة لله الواحد في صورة
هذين العجلين اللذين يعتبرا رمزًا للإخصاب والقوة، فإن هذا
الإدعاء باطل وغير واقعي، لأن الذين كانوا يسجدون لهذه الأوثان لم
يكن الله في ذهنهم على الإطلاق، ولو كان الله في ذهنهم ما كانوا
فعلوا هذا، وفي عبادتهم الشيطانية هذه لم يكن لهم الإيمان بالله
الواحد، إنما اعتقدوا بتعدد الآلهة، وهذا واضح من قولهم " هوذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك".. لاحظ "آلهتك"، و"الذين" فهي تعبيرات عن جمع
من الآلهة ولا تعبر عن الإله الواحد، وليس الكاتب الاشتراعي هو
الذي رفض هذه العبادة الوثنية من ذاته، بل هي أساسًا مرفوضة من
الله، والكاتب ما هو إلاَّ أداة وقيثارة عزف عليها الروح القدس
لحن الإيمان بالإله الواحد.
_____
(1)
قراءة سياسية
للتوراة ص 274.
(2)
تعرَّف إلى العهد القديم مع الآباء والأنبياء ص 139.
(3)
التاريخ الاشتراعي - تفسير أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك ص 447.
الحواشي والمراجع
لهذه الصفحة هنا في
موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1281.html
تقصير الرابط:
tak.la/rgqsr72