يقول " زينون كوسيدوفسكي": "لم يرتح يواب بالطبع لمفاوضات أبنير وداود، فأبنير عدوه اللدود وقاتل أخيه... لحق به يوآب وأعاده إلى حبرون زاعمًا أن داود يرغب بإبلاغه عن أمور هامة، وفي حبرون قتله يوآب، لم يعاقب داود قائد جيشه لأنه ارتاح في قراره نفسه لتخلُّصه من عدوه اللدود، وعدا ذلك فإن الانتقام للقريب كان شيئًا مقدَّسًا في إسرائيل، كما أن داود ما كان يرغب بتعكير العلاقات مع يوآب المتمتع بشعبية كبيرة"(1).
ج: 1- لم ينسى داود أن ميكال زوجته قد أحبته قبل أن تتزوجه، ومن أجلها خاطر هو بحياته لأجلها حيث قتل مائتي فلسطيني، وقد غُلفهم إلى شاول الملك كمهر لابنته، وبعد أن تزوجته ساعدته على الهرب من الموت معرضة نفسها للخطر (1صم 19: 11) وداود يعلم جيدًا أن ميكال لم تلقي بنفسها في أحضان رجل آخر، إنما أبيها هو الذي ألقى بها: "فأعطى شاول ميكال ابنته امرأة داود لفلطي بن لايش" (1صم 25: 44) فمن يعصى الملك ولا يتعرض للموت؟! وأيضًا قد لا يخلو الدافع الذي دفع داود لطلب ميكال من الجانب السياسي، فعودة ميكال لداود يعني أن داود صهر الملك وبالتالي فله الحق في العرش.
ويقول " القمص تادرس يعقوب": "يرى البعض أن داود طلبها ليس حبًا فيها وإنما لأسباب سياسية، وهو إبراز أنه أولًا وقبل كل شيء نسيب شاول الملك فينال أمام الأسباط نوعًا من الشرعية في تولي المُلك. ورأى آخرون في هذا التصرف ردًّا لكرامة داود الذي اغتصبت زوجته وسُلّمت لآخر. ربما كان هذا السببان في ذهن داود الملك لكنني أظن أنهما ليسا سببين رئيسيين، إذ وجدت أسباب أخرى جوهرية في ذهن هذا الطوباوي.
لقد أراد أولًا أن يؤكد لا لأبنير ولا لأيشبوشث بل لكل الأسباط أنه ليس متلهفًا على تولي العرش كتمتع بالسلطة والكرامة الزمنية. فأنه كان يستطيع أن يقبل العرض وبعد استلامه المُلك يطلب ميكال ولا يقف أحد أمامه، فيحسب عنيفًا ومستغلًا لسلطته، إنما أراد داود أن يُبرز أنه أمين لزوجته ميكال التي أحبها، هذه الأمانة في نظره أولى من تسلمه المُلك. إن لم يكن أمينًا على زوجته فكيف يرعى هذا الشعب كله. لقد أحبته ميكال وأنقذت حياته من بدايتها (1صم 19: 11 إلخ) وها هو يعلن حبه لها كزوجة ولو على حساب استلام المملكة... طلب أبنير من أيشبوشث أن يرد لداود ميكال زوجته بكونه الملك وأيضًا أخاها، ربما كان ذلك بعلم أبنير وتدبيره، لم يقدر أيشبوشث أن يقاوم بل أخذها من عند رجلها وأرسلها، وكان رجلها يسير معها ويبكي وراءها إلى بحوريم"(2).
2- بالقطع لم يسر داود بقتل أبنير، لأنه رجل نقي القلب رقيق المشاعر، وهذا واضح جدًا في مزاميره، وأيضًا طبيعة داود ليست عدوانية، وقد رأينا كيف تسامح مع شاول الذي كان يبذل قصارى جهده لاقتناص نفسه، أما داود فقد ترفَّع أن يمد يده إلى شاول، وأيضًا غزوات داود كانت ردًا على غزوات تلك الشعوب لشعبه، فهل يسر داود بقتل رجل شجاع من بني جنسه مثل أبنير..؟! بالقطع لا، وإن كان داود لا يسر بمثل هذا الفعل القبيح فلماذا لم ينتقم من يوآب الذي قتل أبنير..؟! لم يفعل داود هكذا لأنه كان في بدايات حكمه وفي موقف ضعيف تجاه يوآب رئيس جيشه، فلم يرد أن تنشأ قلاقل وهو على وشك توحيد الأسباط تحت رئاسته، وكان تفكير داود متجهًا نحو توحيد المملكة أكثر من تحقيقه العدالة الناجزة، فلم يتخذ موقفًا ضد يوآب الذي قتل أبنير بخسة إذ " مال به يوآب ليكلمه سرًّا وضربه هناك في بطنه فمات بدم عسائيل أخيه" (2صم 3: 27) مع أن أبنير وسبق وحذر عسائيل قبل أن يقتله " ثم عاد أبنير وقال لعسائيل مل من ورائي. لماذا أضربك إلى الأرض. فكيف أرفع وجهي لدى يوآب أخيك" (2صم 2: 22) فقد اشترى أبنير خاطر يوآب، أما يوآب فقد أغتال أبنير بخسة، فانطبق عليه القول: "ملعون من يقتل أخيه في الخفاء" (تث 27: 24). لم يعاقب داود يوآب بل اكتفى بأن أعلن براءته هو ومملكته وصب اللعنات على القاتل: "فقال إني برئ أنا ومملكتي لدى الرب إلى الأبد من دم أبنير بن نير. فليحل على رأس يوآب وعلى كل بيت أبيه ولا ينقطع من بيت يوآب ذو سيل وأبرص وعاكز على العكازة وساقط بالسيف ومحتاج الخبز" (2صم 3: 28، 29) ولم ينسى داود ما فعله يوآب ولذلك أوصى قبيل وفاته ابنة سليمان بالانتقام من يوآب (1مل 2: 5، 6).
3- أمر داود يوآب أن يلبس المسوح على موت أبنير وينوح عليه، لكيما يشعر يوآب بجسامة الجريمة التي أرتكبها من جانب، ومن جانب آخر لأن هناك عدد كبير من بني إسرائيل لا يعلمون من الذي قتل أبنير، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وإذ كان داود يجتهد أن يمر الموضوع بسلام، ولا يترتب عليه ضياع وحدة الأسباط التي أجتهد أبنير نفسه في إتمامها، لذلك أمر داود يوآب أن يلبس المسوح وينوح مع بقية الشعب. وحياة داود بعيدة عن الخداع والتظاهر والمكر، لأنه لو كان داود كاذبًا مخادعًا فكيف أحبه الشعب؟!
ويقول " القمص تادرس يعقوب": "كم كان داود شهمًا ونبيلًا عندما أعلن رسميًا وشخصيًا براءته من قتل أبنير ورفضه هذا الغدر من جانب يوآب، معلنًا للجميع أن ما صنعه يوآب لا يليق برجل إيمان ولا برجل حرب وأن تأديب الرب سيحل به (2صم 3: 29) أعلن داود رأيه رسميًا بسيره وراء نعش أبنير وطلبه من الشعب أن يُمزّقوا ثيابهم ويتمنطقوا بالمسوح ويلطموا أمام جثمان أبنير، كما أعلن عن براءته من قتل أبنير بسلوكه الشخصي فقد بكى عليه وصام النهار كله. لقد تأثر به الشعب جدًا وبكوا معه. نسى داود أن أبنير عدوه الذي كان يثير الحرب بينه وبين أيشبوشث وتذكَّر أنه قائد عظيم كان يمكن الانتفاع منه في محاربة الوثنيين"(3).
ويقول " القمص مكسيموس وصفي": "لا شك أن هذا الفعل هدَّد موقف داود مع شيوخ إسرائيل لأن أبنير قُتل وهو في حماية داود فأسرع داود يعلن بإخلاص عدم الرضا عن قتل أبنير وأخذ يبرهن على براءته وأصدر بيانًا لتبرئة نفسه... بل وصبَّ اللعنات على يوآب وعلى كل بيته... أعلن رسميًا حزنه وحزن مملكته على أبنير وأقام حفلًا جنائزيًا عظيما وتقدمه رؤساء يسيرون وراء نعشه وبكى وراءه الشعب ومزَّقوا ثيابهم على قبره، ونظم مرثاة يودعه بها لتوضع على قبره تمامًا كما فعل عند موت شاول ويوناثان، وهو موقف يُظهر مدى نفس داود الكريمة والعواطف السامية فقد حزن على موت أبنير ونسى أنه كان عدوه اللدود بل وأثنى عليه بالمديح... وصام داود اليوم كله، وحينما جاءوا ليطعموه خبزًا رفض أن يذوق خبزًا أو شيئًا قبل غروب الشمس تعبيرًا عن حزنه على أبنير (3: 37) وبعد أن ظهر لجميع الشعب أن قتل أبنير لم يكن من داود، وظهر حزن داود عليه كسب بذلك داود ثقة الأسباط الشمالية وأرتفع مقام داود في أعين جميع الشعب (2صم 3: 36، 37)"(4).
_____
(1) الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 249.
(2) سفر صموئيل الثاني ص 27، 28.
(3) تفسير صموئيل الأول ص 29.
(4) دراسات في سفر صموئيل الثاني ص 40، 41.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1171.html
تقصير الرابط:
tak.la/c56jx8x