يقول " زينون كوسيدوفسكي " عن شاول: "فقد عزله صموئيل عمليًا عن العرش... لذلك شعر شاول بسقوطه المتدرج، وصار يرى كل ليلة في أحلامه خيانات ومؤامرات يحيكها له صموئيل... فضعفت سيطرته على نفسه وانهارت أعصابه لدرجة أنه صار يعاني يوميًا من نوبات السويداء، كما أن أخلص الناس له قنعوا بأن الروح الربانية قد نبذته، وأن روحًا شيطانية تسيطر عليه وذلك بعد أن رأوا ازدياد احمرار عينيه من النعاس وازدياد بلاهتهما وضياعهما، كانوا آنذاك يعالجون مثل تلك الأمراض بالموسيقى، ها هو أحد ما (ربما بلعبة مدروسة من صموئيل) يذكر لشاول راعيًا متواضعًا في بيت لحم رائع العزف على العود، فأحضروا داود حالًا إلى جبعة، استقبله الملك بحفاوة، وارتسمت على شفتيه ابتسامته التي كان نسيها منذ أمد طويل، وبإستماعه لعزف الفتى أحس بصحبته متعود إليه"(1).
كما يرى " كوسيدوفسكي " أيضًا أن صموئيل وراء رفع مقام داود على شاول فيقول: "وصارت النساء والرجال والأطفال يفخرون ويتفاخرون به، يلاقونه بالغناء والرقص على إيقاع الدُف... ضرب شاول ألوفه وداود ربواته، فساء هذا الكلام في عيني شاول... فكان ذلك شديدًا على نفسه وقاسيًا على روحه، وعلى مدى يومين وليلتين عذبته الشكوك بأن صموئيل كان وراء تلك الأغنية وأنه عمل ذلك بالاتفاق مع داود... من وراء هذا العقاب إن لم يكن الكاهن الأعلى وراءه..؟! وأدى به القلق ومرارة الحزن والأسى إلى أنه صار يفقد عقله أحيانًا"(2).
ويقول " جيمس فريزر " فلقد كان النبي صموئيل بحق إحدى القوى النازعة إلى السلطة بطبيعتها... وعندما كان شاول مكتفيًا بتنفيذ أوامر ناصحه المُتغَطرس، ومعترفًا له بما في ضميره كما يعترف أمام الأب الروحي، كان " صموئيل " يسمح له بأن يتبختر أمام الشعب، وهو يحمل التاج الوهمي فوق رأسه، فلما حاول شاول أن يحيد قيد أنملة عن أوامر رئيسه الروحي ذو القلب المتحجر، حطم صموئيل الملك الدمية وألقى به جانبًا كما يلقي الإنسان بآلة كفَّت عن القيام بوظيفتها. ثم عيَّن النبي سرًا خليفة لشاول، هو داود المُنشِد، وولى ظهره للملك الذي وخذه ضميره وأعلن توبته، ورفض أن يراه مرة أخرى، بل أنه أعلن عليه الحداد طوال حياته كما لو كان قد توفى بحق"(3).
ج: 1- أ - الله هو ضابط كل شيء، الصالحين والطالحين، الملائكة والشياطين، السمائيين والأرضيين، والكل خاضع لسلطانه أبرار وأشرار، أرواح طاهرة وأرواح نجسة، القوات السمائية والقوات الأرضية.
ب - قال الكتاب: "وذهب روح الرب من عند شاول وبغته روح رديء من قِبل الرب" (1صم 16: 14) وهذا يعني أمرين:
1- عندما يخالف الإنسان الوصايا الإلهيَّة ويصر على شره تفارقه نعمة الله فيصير فريسة سهلة لعدو الخير، وعندما فارق روح الله شاول قوى عليه الروح الرديء، غاب عنه روح الله ففقد حصانته ضد قوات الظلمة.
2- المقصود " من قِبل الرب " أي بسماح من الرب، كما سمح الرب يسوع للأرواح النجسة أن تدخل الخنازير فتندفع من على الجرف وتغرق في المياه.
جـ- سجل صموئيل النبي الحدث كما رآه، ولأنه يدرك مدى الأخطاء التي سقط فيها شاول الملك، لذلك أدرك أن هذا الروح الشرير الذي تسلط على شاول، ما هو إلاَّ نوع من القصاص والعدل الإلهي.
2- جاء في " كتاب السنن القويم": "من قِبل الرب ليس الرب مصدر الشر ولكنه يستخدم الأرواح الشريرة في تأديب شعبه كما في أمر أيوب وفي إضلال المرتدين كشاول وآخاب (1مل 22: 17 - 23). أن الله خلق الإنسان صالحًا وأما الإنسان فأخطأ وسقط... ونعرف:
1- أن الله هو القادر على كل شيء وهو يدبّر كل شيء حسب إرادته الصالحة ولا تقدر الأرواح الشريرة أن تعمل شيئًا بلا إرادته 0
2- أن الأرواح الشريرة لا تتسلط على الإنسان إلاَّ بإرادة الإنسان، لأن الإنسان يفتح لها باب قلبه وإن لم يفتح لها الباب لا تقدر أن تدخل. وكل من يلتجئ إلى الرب ويثبت فيه لا يقدر الشيطان أن يعمل فيه شيئًا. والرب لا يُسلّم إلى خدمة الشيطان إلاَّ من قد اختار لنفسه تلك الخدمة. وربما بين فعل الأرواح الشريرة وبين بعض أنواع الجنون علاقة لأن الأخيرة ليست أمراضًا عقلية فقط بل هي حالة روحية يصل الإنسان إليها بإرادته وتسليمه نفسه لسلطة الأفكار الرديئة القبيحة كالحسد والطمع والبغض والنجاسة والكبرياء والعناد... إلخ"(4).
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "لا نعجب من القول: "وبغته روح رديء من قِبل الرب" (1صم 16: 14). فإن هذا لا يعني أن الروح الرديء مصدره الرب، أو أن ما حلَّ بشاول كان من عند الرب، إذ يقول يعقوب الرسول: "الله غير مجرَّب بالشرور وهو لا يجرب أحدًا" (يع 1: 13) إنما شاول رفض روح الرب فهيأ نفسه مسكنًا مزينًا للروح الرديء دون مقاومة، فتركه الرب لذاته"(5).
ويقول "ف. ب ماير": "أن الله يسمح للأرواح الشريرة بأن تنقض على النفوس التي رفضته كما ينقض النسر على الجثة التي فارقتها الحياة... أن الله يقصد دائمًا أن يستخدم كل خليقته أحسن استخدام... لاشك قط في صلاح الله، ولا شك في أنه يرسل الأرواح الصالحة لكي تصد البشر عن إتمام مقاصدهم وترشدهم إلى نور الحياة. ولكننا عندما نتمرد على الله يظهر كأنه قد بدأ يصير عدوًا لنا ويحاربنا"(6).
3 - أ - لم يعزل صموئيل شاول عن العرش لأن ما هي قوة صموئيل أمام قوة ملك إسرائيل..؟! فكل ما فعله صموئيل أنه أبلغ شاول حكم الرب في ملكه، فعقب تعدي شاول على الكهنوت " قال صموئيل لشاول قد أنحمقت... وأما الآن فمملكتك لا تقوم. قد أنتخب الربُّ لنفسه رجلًا حسب قلبه" (1صم 13: 13، 14) وبعد أن عفا شاول عن أجاج وخيار الغنم وأمسك بطرف جبة صموئيل فانمزق " قال له صموئيل يمزَّق الرب مملكة إسرائيل عنك اليوم ويعطيها لصاحبك الذي هو خير منك" (1صم 15: 28).
ب - ما يتصوَّره "كوسيدوفسكي" بأن صموئيل عزل شاول عن العرش فشعر شاول بسقوطه وأخذت أحلامه تزعجه، إذ صار يرى الخيانات والمؤامرات التي يحبكها له صموئيل، حتى انهارت أعصابه... كل هذه تصوُّرات خاطئة ليس لها أي سند كتابي، فما أصاب شاول من جزع وفزع واضطراب وتشويش كان ناتجًا عن الروح الردئ الذي بغته وتسلط عليه، وليس مصدر كل هذا صموئيل النبي، وقال "يوسيفوس" أن الروح الشرير عندما كان يتلبس شاول كان يصيبه بحالة من الاختناق وضيق النفس وتعتريه النوبات العصبية من حين إلى آخر مما جعله غير قادر على إدارة البلاد ولا قادر على إبداء الرأي والمشورة(7).. كل ما فعله صموئيل أنه أبتعد عن شاول تمامًا " ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته" (1صم 15: 35).
جـ - قول "كوسيدوفسكي" بأن صموئيل هو الذي دفع بداود إلى قصر الملك، قول ليس صحيحًا لأنه الذي أرشد شاول لداود هم عبيد شاول: "فقال عبيد شاول له... فليأمر سيدنا عبيده قدامه أن يفتشوا على رجل يحسن الضرب بالعود" (1صم 16: 15، 16) ووافقهم شاول، دون أن ترد أي إشارة إلى أن صموئيل النبي كان له صلة بهذا الأمر.
د - قول "كوسيدوفسكي" أن صموئيل النبي كان وراء النسوة اللاتي مدحن داود أكثر من شاول قول غير صحيح لأن قول النسوة: "ضرب شاول ألوفه وداود ربواته" (1صم 18: 7) حدث بعد انتصار داود على جليات، وكان صموئيل غائبًا تمامًا عن المشهد فلم ترد أي إشارة لحضور صموئيل النبي هذا المشهد.
_____
(1) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 233، 234.
(2) المرجع السابق ص 236.
(3) ترجمة د. نبيلة إبراهيم - الفولكلور جـ 2 ص 326، 327.
(4) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 4 (أ) ص 79، 80.
(5) تفسير سفر صموئيل الأول ص 116.
(6) حياة داود ص 35.
(7) راجع الغوامض المتعلقة بالمبادئ العمومية الأدبية الواردة في العهدين القديم والجديد جـ 1 ص 234.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1124.html
تقصير الرابط:
tak.la/a8yfhd6