ج: جاء بالسفر: "قال الرب لصموئيل حتى متى تنوح على شاول وأنا قد رفضته عن أن يملك على إسرائيل. املأ قرنك دهنًا وتعالَ أرسلك إلى يسَّى البيتلحمي لأني قد رأيت لي في بنيه ملكًا. فقال صموئيل كيف أذهب. إن سمع شاول يقتلني. فقال الرب خذ بيدك عجلة من البقر وقل قد جئت لأذبح للرب" (1صم 16: 1، 2) ومن يتأمل النص يخلص إلى النتائج الآتية:
1- كان شاول متقلّبًا حاد المزاج، حتى أنه أراد أن يقتل ابنه، كما كان شاول متمسكًا بكرسي المُلك أيما تمسك، حتى عندما شعر أن داود في طريقه إلى هذا الكرسي أخذ يطارده يومًا فيومًا يريد أن يقتنص نفسه، فكم من مرة صوَّب نحوه رمحه ورماه والرب نجاه..؟! وكم من مرة يصحب معه الآلاف باحثًا عنه في كهوف الجبال..؟! فهل لو علم شاول بأن صموئيل ذاهب إلى بيت لحم ليمسح ملكًا عوضًا عنه هل كان يتركه هو وداود وكل بيت يسَّى على قيد الحياة..؟! قطعًا لا. إذًا مخاوف صموئيل هذه كانت صحيحة وفي محلها، وكان من الحكمة الحذر من إثارة ذاك الملك الهائج.
2- أخذ صموئيل عجلة من البقر وذهب إلى بيت لحم " فارتعد شيوخ المدينة عند استقباله وقالوا أسلام مجيئك. فقال سلام. قد جئت لأذبح للرب. تقدَّسوا وتعالوا معي إلى الذبيحة. وقدَّس يسَّى وبنيه ودعاهم إلى الذبيحة" (1صم 16: 4، 5) وهنا لم يظهر صموئيل أحد الأسباب التي دعته للحضور، فذكر السبب المُعلن الذي لا يُتعِب أحدًا، وأخفى السبب السري الذي يؤدي للقلاقل، وكان ذلك خوفًا على حياته من جانب، وضمان لنجاح مهمته من جانب آخر، وما قاله صموئيل النبي هنا كان صادقًا فيه ونفذه بالحرف الواحد إذ قدم ذبيحة بالفعل... يجب أن نفهم أن هناك فرقًا شاسعًا بين عدم الإعلان والكذب، فعدم الإعلان لا شبهة عليه أما الكذب فهو محرَّم تمامًا، ونحن لا نعترف بالتقية، أي أن الإنسان يظهر غير ما يبطن بهدف إتقاء شر معين.
3- لم يكسر صموئيل الوصية الإلهيَّة: "لا تكذبوا... ولا تحلفوا باسمي للكذب فتدنس اسم إلهك" (لا 9: 11، 12) لأنه فعلًا كان صادقًا تمامًا لم يكذب ولم يحلف بالكذب، ولو افترضنا جدلًا أن شيوخ بيت لحم سألوه: هل أتيت لتمسح ابن يسَّى ملكًا؟ وأجاب بالنفي، وقال لم آتِ من أجل هذا الغرض، لكان هنا الكذب... أن صموئيل هو النبي الصادق الذي يحفظ الوصية: "كراهة الرب شفتا كذب. أما العاملون بالصدق فرضاه" (أم 2: 22). ويقول " القس منسَّى يوحنا": "أن الكذب هو اقتناع السامع بغير ما ينوي المتكلم. وإذا فحصنا قصة صموئيل نجد أنه أخبر بالذي ينويه وهو تقديم الذبيحة. أما إذا قيل: هل كان ذلك كل ما نوى؟ فهذا السؤال لم يُقدَم لصموئيل، ولا سُئل عن تبيان كل أغراضه المقصودة من حضوره وقتذاك ولم يخبر إلاَّ عن أمر الذبيحة لكان للتهمة محل. أما وقد أجاب عن بعض ما نوى في حال لم يسأل فيه عن الكل فهو صادق"(1).
4- إخفاء وكتم بعض الحقائق عمن لا يخصهم الأمر حاليًا، وحفاظًا على حياة النبي العظيم، وضمانًا لإتمام المهمة الإلهيَّة بسلام، لا يُعد هذا خطأ ولا كذبًا ولا لفًا ودورانًا، وهذا الأمر بالطبع يختلف تمامًا عن السكوت عن الحق، لأن الساكت عن الحق هو شيطان أخرس، بينما الساكت عن الأمور الحسنة فذاك حكمة وفضيلة، حتى قيل في المثل العامي: "ظلل على شمعتك تنوَّر". لم يكن الوقت قد حان بعد لإعلان مُلك داود، لأنه لم يستلم العرش إلاَّ بعد موت شاول، ولكن الله أراد أن يمنحه المسحة المقدَّسة بيد عبده صموئيل لكيما تكون سندًا له في حياته.
5- هناك أمور عادية تستوجب السرية العالية، فخطة الحرب تكون محصورة بين كبار القادة، وتوزع على قادة الوحدات في أظرف مغلقة لا يفضها أحد إلاَّ في ساعة الصفر، وعندما يفضَّ المظروف يجد دوره المحدَّد له في المعركة مع كافة التعليمات اللازمة، والطبيب المُعالج يعتبر حالة مريضه سرًّا لا يفصح به لأحد، والمحامي يعتبر أمور موكله سرًّا لا يطلع عليه أحد، وقد تجد إنسانًا فاضلًا في طريقه للكنيسة وعندما تسأله: إلى أين؟ يقول أنني ذاهب أصلي في الكنيسة، بينما هو ذاهب ليصلي ويقدم عطاياه ويقوم بخدمات عديدة، وعندما يفصح عن أمر واحد لا يعد هذا كذبًا. هل كذب صموئيل النبي..؟ بالقطع لا... هل تصرف صموئيل بحكمة..؟ بالقطع نعم... هل أطاع مشورة الله ولم يفصح عن الأمر..؟ بالقطع نعم... " الساعي بالوشاية يفشي السر والأمين الروح يكتم الأمر" (أم 11: 13).. " مجد الله إخفاء الأمر ومجد الملك فحص الأمر" (أم 25: 2).
6- يتهم البعض صموئيل النبي بضعف الإيمان قائلين لو أنه كان لديه الإيمان الكافي لذهب ومسح داود في العلن واثقًا في حماية الله له، ولكن لماذا يُجرّب صموئيل إلهه في هذا الأمر، وقد رسم له الله الطريق الآمن الذي يجنب البلاد فتنة أهلية بين أتباع شاول وأتباع صموئيل وداود..؟! وحتى لو إيمان صموئيل هنا تعرَّض للضعف فهو إنسان تحت الضعف وغير معصوم من الخطأ.
ويقول "الأرشيدياكون نجيب جرجس": "سأل صموئيل الرب: (كيف أذهب؟ إن سمع شاول يقتلني) ولعله قال هذا:
1) كإنسان بشري واقع تحت الضعف وأعلن ضعفه وخوفه أمام الرب... الإنسان مهما بلغ من القوة الروحيَّة معرَّض للضعف.
2) على أنه من الأرجح أنه قال هذا ليس عن عدم إيمان، بل بلغة الاستفسار، لكي يوضح له الرب الطريقة التي يتبعها للدخول إلى بيت لحم... ولعل قوله... شبيه بقول السيدة العذراء مريم للملاك: (كيف يكون لي هذا وأنا لستُّ أعرف رجلًا؟ لو 1: 34)..
إن زيارته لبيت لحم كانت من شقين أحدهما مسح داود ملكًا وكان أمرًا ضروريًا ولازمًا، والثاني تقديم ذبيحة للرب وكان أمرًا لازمًا وضروريًا أيضًا... والشق المتعلق بتقديم الذبيحة كان أمرًا عامًا من حق الشعب أن يعرفه، أما مسح الملك فكان أمرًا خاصًا أقتضى تدبير الله وحكمته أن يكون سرّيًا ويحتفظ الرب بسريته لذاته وبينه وبين عبده صموئيل وربما بين صموئيل ويسَّى أيضًا، والرب أمر صموئيل أن يكشف للشعب الأمر الذي يخصه فقط والذي من حقهم أن يعرفوه، أما ما كان من حق الله أن يحتفظ به سرًّا لأجل سلامة صموئيل وداود ويسَّى وبنيه، ولأجل نجاح العمل وإتمامه فكان على صموئيل ألاَّ يعلنه للشعب وقتئذ... (السرائر للرب إلهنا والمعلنات لنا ولبنينا إلى الأبد. تث 29: 29) ولنا مثال قاله الرب للتلاميذ عندما سألوه: (يا رب هل في هذا الوقت ترد المُلك إلى إسرائيل ؟) فأجابهم: (ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه. أع 1: 6، 7)"(2).
_____
(1) ردود كتابية منطقية على مزاعم وافتراءات خيالية عن الكتاب المقدَّس ص 57.
(2) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر صموئيل الأول ص 155.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1122.html
تقصير الرابط:
tak.la/79daybn