يقول " زينون كوسيدوفسكي": "لقد تشكلَّت مع الأيام حول شخصية صموئيل مجموعة كبيرة من الخرافات، لدرجة أن مؤلفي التوراة وقعوا في متاهة، ولم يعرفوا تمامًا ماهيته وكنه نشاطه وحياته، ومما لاشك فيه أن مجموعة القصص عن أمه وولادته وأحاديثه مع يهوه وتنبوءاته حول عالي، ليست إلاَّ ضربًا من نتاجات الخيال الشعبي. إننا نجد في النص التوراتي مجموعة من المعلومات المتناقضة فيما بينها والمفسدة للصورة التاريخية، إليكم أحد الأمثلة: يُصوَّر صموئيل في بداية الرواية على أنه شخص مشهور ذائع الصيت في كل البلاد، لكنه وفي الإصحاح التاسع يصبح متنبئًا محليًا يسمع عنه شاول من غلامه، هكذا ببساطة وبلا مقدمات، يُنزَل صموئيل من أعلى مرتبة إلى مرتبة الساحر، الذي ينصح الناس وذلك مقابل عمل تافه قام به عندما أسهم بكيفية إيجاد الأتن الضائعة. من الصعب الآن طبعًا معرفة الحقيقة، فالتناقضات على الغالب برزت نتيجة دمج مؤلفي التوراة لقصتين شعبيتين في واحدة"(1).
ج: جاء في سفر صموئيل عن جد شاول بن قيس أنه أبيئيل " وكان رجل من بنيامين اسمه قيس بن أبيئيل" (1صم 9: 1) وكان لقيس أخًا يُدعى نير وهو والد أبنير، فقال الكتاب عن شاول: "وإسم رئيس جيشه أبنير بن نير عم شاول" (1صم 14: 5) أي أن أبنير بن نير بن أبيئيل هو ابن عم شاول بن قيس بن أبيئيل، بينما جاء في سفر الأخبار أن أبي قيس يُدعى نير: "ونير وُلِد قيس" (1أي 8: 33) فهل جد شاول هو " أبيئيل " أم " نير"، وهل " نير " هو عم شاول أم جده..؟ ولشرح ذلك نقول:
1- كان والد " أبيئيل " يُدعى " نير " فنسب صموئيل النبي " قيس " إلى أبيه " أبيئيل"، فقال " قيس بن أبيئيل" (1صم 9: 1) بينما نسب كاتب سفر الأخبار " قيس " إلى جده " نير " فقال مرتين: "نير ولد قيس" (1أي 8: 33، 9: 39) وكان هذا أمرًا معتادًا أن ينسب الحفيد إلى جده، وعندما قال سفر القضاة أن جدعون كان له سبعين إبنًا، كان يقصد أولاده وأحفاده، فمعنى كلمة " ابن " في " قاموس سترونج " تأتي بمعنى ابن أو حفيد أو فرع أو ابن الأخ، وفي " قاموس برون " بمعنى ابن أو حفيد أو طفل عضو في الأسرة، أو عضو من النسل.
2- أنجب " أبيئيل " ولدين أحدهما " قيس " الذي أنجب شاول الملك، والأخر " نير" (نسبة لجده نير) وهو الذي أنجب أبنير رئيس جيش شاول (1صم 14: 50) ولذلك قال السفر " وقيس أبو شاول ونير أبو أبنير إبنا أبيئيل" (1صم 14: 51).
3- يستمد "النبي" معرفته من الله وينطق بأقوال الله، وعندما أطلقوا على صموئيل لقب "الرائي" كانوا يلقون الضوء على معرفته أكثر من شخصيته، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فعندما قال الغلام لشاول هلُمَّ نذهب إلى الرائي لم يكن قصده أن يجلس معه ويتعرَّفا عليه، إنما كان الهدف أن يخبرهما عن مكان الأتن المفقودة التي ضلت، ويرى البعض أن منصب النبي أعلى من منصب الرائي، فالرائي يخبر بأمور مخفية أو مستقبلية، أما النبي فيقوم بعمل الرائي بالإضافة إلى الجانب التعليمي، فهو مُرسَل من الله ويتكلم بكلام الله ويعلن إرادة الله للشعب، ويعلمهم ويأمرهم بالأمور الحسنة وينهاهم عن الأمور الرديئة مستمدًا سلطانه من الله(2).
4- القول بأن صموئيل كان مجهولًا بدليل أن شاول لم يعرفه ولم يسمع عنه ولم يعرف بيته، قول غير صحيح، لأن القصة واضحة، فعندما ذهب شاول ومعه الغلام يبحثان عن الأتن التي ضلَّت " فقال شاول لغلامه الذي معه تعالَ نرجع لئلا يترك أبي الأتن ويهتم بنا. فقال له هوذا رجل الله في هذه المدينة والرجل مكرَّم. كل ما يقوله يصير... فقال شاول للغلام هوذا نذهب فماذا نقدم للرجل" (1صم 9: 5 - 7) فواضح أن شاول لم ينفي معرفته برجل الله، إنما سأل الغلام: ماذا نقدم للرجل؟ لأن شاول يعلم أن رجل الله يحمل على كاهله مسئولية ضخمة تعوقه عن العمل اليدوي، ولذلك فهو يعتمد على تقدمات الشعب البسيطة، والغلام الذي لم يكن معه غير ربع شاقل لم يتردد في تقديمه لرجل الله واثقًا من قبوله هذه التقدمة البسيطة، وهكذا كانت عادة ذلك الزمان، فعندما أرسل يسَّى ابنه الصغير داود ليفتقد سلامة أخوته: "قال يسَّى لداود ابنه خذ لأخوتك أيفة من هذا الفريك وهذه العشر الخبزات وأركض إلى المحلَّة إلى أخوتك. وهذه العشر القطعات من الجبن قدمها لرئيس الألف" (1صم 17: 17، 18).
5- قد تكون معرفة الغلام عن صموئيل أكثر من جهة موضع سكناه وشفافيته، وهذا يرجع لعدم اهتمام شاول بالأمور الدينية والسياسية شأنه شأن كثير من سكان القرى، كما أن صموئيل لم يكن قائد جيش يجتذب أنظار الشباب، إنما كان بالأكثر قائدًا روحيًا للشعب، وهذا لا يعني على الإطلاق أن صموئيل النبي كان رجلًا مجهولًا، ولا أن القصة مستمدة من روايتين مختلفتين، فيقول " القمص تادرس يعقوب": "إدعى بعض النُقَّاد أن هذا السفر يحوي مصدرين مختلفين في الفكر، كما رأينا في المقدمة، قائلين أننا نرى في الحوار بين شاول وغلامه أن الأول يجهل اسم الرائي وموضعه بينما يسكن قريبًا منه، وكأن صموئيل راءٍ مجهول حتى ممن هم قاطنون بالقرب منه، بينما نجد في ذات السفر صموئيل كنبي عظيم وقاضٍ يحكم الشعب كله ويوجهه... كيف يكون ذلك؟
أ - يُجاب على هذا بأن شاول عاش في قريته لا يبالي بالأمور السياسية والدينية الجارية في عصره، فلم تكن الشخصيات البارزة معروفة لديه كما يحدث مع كثيرين من سكان القرى، خاصة مع عدم وجود وسائل إعلام قوية كالعصر الحديث. أذكر أنه في عام 1953 بعد قيام الثورة المصرية كتب أحد المدرسين المنقولين إلى الصعيد إلى عائلته في القاهرة يقول: هنا يوجد أناس لازالوا يظنون أن الملك فؤاد هو حاكم مصر، وكأنهم على غير علم بموته وجلوس الملك فاروق ثم عزله وقيام الثورة في يوليو 1952م. ربما حمل الحديث نوعًا من المُبالغة لكنه يوضح كيف لا ينشغل بعض سكان القرى بالرئاسات الدينية أو المدنية العليا"(3).
ويقول " كيريك باتريك " Kirk Patrick في شرح كمبردج Combridge: "{أن شاول كان قبل هذا الحين خجولًا قابعًا في دار أبيه منصرفًا لشئون الحقل والبهائم والمنزل} فليس لزامًا عليه أن يكون مُلمًا بالأمور السياسية والدينية الجارية في وقته. لأن الشخصيات البارزة لم تكن معروفة لدى سكان القرى، ولم تكن لهم في ذلك العصر من وسائل الإعلام ما لنا... وكثير من أبناء الفلاحين لم يكن لهم أي اهتمام بمجريات الأحوال في وقتهم، وحتى في يومنا هذا يوجد عدد عديد لا يعرف من هو رئيسه الديني ولا أي فكرة عن محل سكناه... دُعي رئيس كنيسة إسكتلندا ليُلقي خطابًا في حفل عام وكان زعيمًا بارزًا في جيله ومن أشهر المرسلين. استمرت الصحف تكتب عنه عدة شهور وهي تصف أعماله المجيدة وتنشر صورًا له مرارًا وتكرارًا. فلما قدَّمه رئيس المؤتمر وذكر اسمه واسم حقل إرساليته. إنحنى رئيس مجلس المدينة آنذاك إلى الأمام وكان من رجال المال المشهورين وسأل صديقًا له: {من هو هذا الرجل؟} مع أنه كان عضوًا في تلك الكنيسة بل كان ضمن الجالسين على المنبر... وعلى هذا القياس يبدو أن شاول لا يعلم إلاَّ القليل عن صموئيل وهذا يدل على أنه لم يكن يعبأ بهذا الأمر ولا يقوم هذا دليلًا على وجود روايتين متناقضتين في قصة صموئيل في هذه الإصحاحات... وواضح أن شهرة صموئيل وصلت إلى هذا الخادم الجاهل نوعًا ما الذي يبعد عن الرامة Rama بمسافة، مع أن شاول لم يكن يعلم إلاَّ اليسير عنه... وتشير كلمة " رائي " إلى اللقب السابق " نبي " وكانت هذه الكلمة مستعملة بنوع أخص عند العامة من الناس، أما كلمة " نبي " فكانت أسبق في استعمالها وظلت محتفظة بمكانتها في كل العهد القديم، ويظهر أن كلمة " رائي " أخذت تفقد قيمتها تدريجيًا بعد عصر صموئيل"(4).
6- لم يكن صموئيل النبي يومًا ما ساحرًا أو عرَّافًا، فهو تربى في الهيكل على يد عالي الكاهن الذي اهتم به جدًا، فهو يعرف أنه ابن الصلاة وإبن الدموع، وتحدث له الله منذ صباه، ثم إئتمنه على قيادة شعبه، وصموئيل النبي رجل الله يعرف جيدًا كيف حرَّم الله السحر والعرافة، وأن غضب الله ينصب على تلك الأعمال الشيطانية وعلى من يمارسها، وحياة صموئيل المقدَّسة وسيرته الحسنة وشهادة كل الشعب كله تُكذّب هذا الإدعاء، وبالطبع لم يجد الناقد أي دليل كتابي يؤيد وجهة نظره، ويقول " القمص تادرس يعقوب": "إعتاد اليهود أن يدعوا النبي " رجل الله" (يش 14: 6، 1مل 12: 22، 1أي 11: 2) لأنه يعمل على التقدم بالشعب إلى الله خلال الصلاة والوصية الإلهية والإرشاد والنبوة، كما يدعى " إنسان الروح" (هو 9: 7) بكونه مهتمًا بالروحيات، يعمل بقيادة روح الله، وأيضًا يُدعى " الرائي " إذ ينظر إلى بعض أمور المستقبل كما ببصيرة روحية مفتوحة"(5).
_____
(1) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 277، 278.
(2) راجع السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 4 (أ) ص 44.
(3) تفسير سفر صموئيل الأول ص 71، 72.
(4) مركز المطبوعات المسيحية جـ 2 ص 96، 97.
(5) تفسير سفر صموئيل الأول ص 71.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1099.html
تقصير الرابط:
tak.la/akk7gpp