ويرى " زينون كوسيدوفسكي " أن الشعب كان مقتنعًا أن عالي الكاهن كان راضيًا عن تصرفات أبنائه، فيقول: "كانا فاسدين، وطالما سبَّبا له الكآبة والحزن، كانا يطالبان الحجَّاح بأكثر مما هو مطلوب، ويمارسان الدعارة مع النساء القادمات للحج، ومع النساء اللواتي يخدمن المعبد... يأخذان لنفسيهما أكبر الحصص وأحسنها... أنَّبهما أبوهما عالي كثيرًا، وطالبهما بالعودة إلى الطريق القديم، لكنهما لم يسمعا كلامه. ولم تكن لديه القوة الكافية لإصلاحهما، لذلك تكوَّنت لدى الشعب قناعة أن والدهما يغطي أعمالهما ويوافق عليها"(1).
ويقول " ليوتاكسل": "فقد كان ولدا عالي {يضاجعان النساء المجتمعات في باب خيمة الاجتماع} وكان الكاهن العظيم على معرفة بشائنات ولديه كلها، ولكن هدوء المحترف الذي يتمتع به رجال الدين، وثقة عالي بأن المؤمنين يتحملون كل شيء، جعلاه ينظر إلى سلوك ولديه وكأنه سلوك كهنوتي عادي"(2).
ج: 1- كان عالي الكاهن من نسل إيثامار الابن الأصغر لهارون، وعمل رئيس كهنة وقاضيًا لإسرائيل لمدة أربعين عامًا، وكان رجلًا فاضلًا أمينًا في خدمته، لكنه لم يكن حازمًا تجاه انحرافات ولديه اللذين أصيبا بالطمع والشهوة الرديئة، فكان يأخذان من لحم الذبيحة ما لا يحق لهما، ووصل بهما الأمر إلى مضاجعة النساء المجتمعات في خيمة الاجتماع، وعقوبة هذه الخطية القتل، وللأسف لم يكن لعالي الكاهن غيرة موسى النبي الذي احتد على من عبدوا العجل الذهبي، فقال للاويين: "هكذا قال الرب إله إسرائيل ضعوا كل واحد سيفه على فخذه ومرُّوا وأرجعوا من بابٍ إلى بابٍ في المحلة واقتلوا كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه. ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى" (خر 32: 27، 28) فكان يجب على عالي الكاهن على الأقل أن يوقفهما عن عملهما الكهنوتي، ولكنه اكتفى بالعتاب اللين معهما قائلًا: "لماذا تعملون مثل هذه الأمور. لأني أسمع بأموركم الخبيثة من جميع هذا الشعب. لا يا بنيَّ لأنه ليس حسنًا الخبر الذي أسمع. تجعلون شعب الله يتعدون. إذا أخطأ إنسان إلى إنسان يدينه الله فإن أخطأ إنسان إلى الرب فمن يصلي من أجله" (1صم 2: 23 - 25) ولهذا قال الله لصموئيل: "وقد أخبرته بأني أقضي على بيته إلى الأبد من أجل الشر الذي يعلم أن بنيه قد أوجبوا به اللعنة على أنفسهم ولم يردعهم" (1صم 3: 13) فواضح أن عالي الكاهن اكتفى بالنصيحة تجاه أولاده الذين تقسَّت قلوبهم بفعل الشهوة ولم يردعهما.
2- هناك فرق شاسع بين التوبيخ والردع، فمثلًا:
أ - قد توبخ إنسانًا ولا يستجيب، أما كونك تردعه فأنك تضع حدًا لتصرفاته الخاطئة، ومن الملاحظ أن توبيخ عالي لأولاده قساة القلوب كان توبيخًا رقيقًا لطيفًا هادئًا لينًا، هو أقرب إلى لغة التوسل منه للتوبيخ، وأقرب للنصح منه للحزم، فقد أوضح لهما الأمر، ولكنه لم يوقفهما عند حدهما، ولم يتصدى لهما ولم يردعهما... كان يجب أن يعطي مجد الرب وطهارة بيته الأولوية على شفقته على أولاده الأشرار... كيف طاق أن يمارس أولاده النجاسة في بيت الرب المقدَّس ..؟! لقد تساهل معهما التساهل الذي ساعد على هلاكهما هلاكًا أبديًا.
ب - التوبيخ يأتي بنتيجة متى كان المُوبَخ ذو ضمير حساس ومشاعر رقيقة، وربما كلمة تكون أشد وقعًا على النفس من ضربة السيف أو طعنة الخنجر، أما الإنسان الذي تبلدت مشاعره، فما قيمة التوبيخ له..؟! بل قد يأتي بنتيجة عكسية: "لا توبخ مستهزئًا لئلا يبغضك. وبخ حكيمًا فيحبك" (أم 9: 8) والمثل العامي يقول: "ما رأيك في كلام من رصاص... وماذا يفعل في جثة من نحاس ؟!". أما الردع فأنه يحمل في معناه العقوبة، أو على الأقل التلويح بالعقوبة، فعالي كرئيس كهنة من حقه أن يفرز ويعزل ابنيه عن خدمة الكهنوت، أو يعلن غضبه عليهما، أو يستعين بمن يقدر أن يتصدى لهما أو يطبق عليهما شريعة الابن المعاند المارد، حيث يأتي به والداه إلى شيوخ المدينة " ويقولان لشيوخ مدينته. ابننا هذا معاند ومارد ولا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكير. فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت. فتنزع الشر من بينكم ويسمع كل إسرائيل ويخافون" (تث 21: 20، 21) وعالي الكاهن لم يفعل شيئًا من كل هذا.
3- كان حفني وفينحاس كاملي السن ومسئولان عن تصرفهما الشرير حتى أنهما " قد أوجبوا به اللعنة على أنفسهم" (1صم 3: 13) وقوله " على أنفسهم " يوضح تمامًا أن الآباء ليسوا مسئولين عن تصرفات أولادهم كاملي السن، ماداموا قد أنذروهم، والكتاب يقر هذه الحقيقة: "النفس التي تخطئ هي تموت. الابن لا يحمل من إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الابن" (حز 18: 20) ولكن المسئولية وقعت على عالي الكاهن:
أ - لأنه لم يحسن تربية أولاده، وإن كانت مسئولية تربية الأولاد تقع بالأكثر على الأم، ولكن ربما ماتت أمهما وهما بعد صغار، مما دعى عالي إلى إغداق الحب والحنان والشفقة عليهما بدون حساب.
ب - لأنه كان رئيسهما باعتباره رئيسًا للكهنة، وهما كاهنان، لذلك يعتبر شريكًا لهما في المسئولية، فكان من حقه أن يفرزهما من خدمة الكهنوت، ومن حقه أن يمنعهما من اصطحاب تابوت العهد إلى ساحة الحرب.
4- في جو الفساد هذا أرسل الله نبيًا إلى عالي الكاهن يذكّره بإحسانات الله وينذره، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. "وجاء رجل الله إلى عالي وقال له هكذا يقول الرب... فلماذا تدوسون ذبيحتي وتقدمتي التي أمرت بها في المسكن وتكرم بنيك عليَّ" (1صم 2: 27-29) لقد شخَّص الله لعالي الداء عندما قال له " تكرم بنيك عليَّ".. آه لو هبَّ عالي من غفوته وأستغل هذه الفرصة وأصلح الوضع، ووضع الأمور في نصابها ما كان حدث ما حدث، ولأنقذ نفسه وأنفس أولاده من الموت، ولكن إذ تراخى وركن إلى الضعف وقع تحت التأديب الإلهي وهلك ابناه هلاكًا أبديًا.
5- يقول " القمص تادرس يعقوب": "تهاون عالي الكاهن مع ابنيه:
(أ) كان توبيخ عالي الكاهن لبنيه برخاوة في غير حزم. لقد عرف أنهم يفسدون النساء المجتمعات في باب خيمة الاجتماع، فصار مقدس الله مكان نجاسة وفساد، وتحوَّل ميناء السلام إلى هلاك للنساء المتجندات لخدمة الخيمة. كل ما فعله عالي أنه كشف لهم عن خطورة تصرفاتهم دون القيام بأي تأديب ضدهم...
(ب) وسط الفساد وُجد رجل الله (نبي أُرسل إلى عالي الكاهن قبل أن يجرى عليه القصاص) (1صم 2: 27) يذكّره بالشرف الذي وهب الله عائلته منذ أيام هرون (خر 4: 14 - 16) إذ منحها الصعود على مذبح الله لتقديم صعائد، وإيقاد بخور له ولبس أفود... كما وهبهم نصيبًا كبيرًا من التقدمات (لا 10: 12 - 15). بهذا لا يوجد عذر لعالي الكاهن في تهاونه في تأديب ابنيه المستخفين بالمقدسات الإلهيَّة. كان هذا الإنذار فرصة جديدة أُعطيت لعالي الكاهن من قِبل الله ليضع الأمور في نصابها، لكنه خلال ضعف شخصيته لم يكرم الله بردع ابنيه وتأديبهما، بل أحتقره بتكريمه لابنيه الشريرين أو بتهاونه في تأديبهما حسب الشريعة (تث 13: 6 - 9) التي تأمر ألا تشفق عين الإنسان ولا ترق للقريب ولا تتستر عليه على حساب المقدسات الإلهيَّة"(3).
_____
(1) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص222.
(2) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 262.
(3) تفسير صموئيل الأول ص 31، 32.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1077.html
تقصير الرابط:
tak.la/r488spg