ويقول " زينون كوسيدوفسكي": "لاشك أن شمشون شخصية خرافية، وهو يُذكّر في بعض صفاته بجلجامش السوري وهرقل الإغريقي، حتى أن العلماء افترضوا أن شمشون في بداياته كان إلهًا أسطوريًا عند القبائل التي عبدت الشمس... فاسم شمشون يعود لغويًا إلى الأصل العبري القديم (شمس) والبابلي (شامشوا) وكلا الكلمتين يعنيان (الشمس) وعدا ذلك فأنه من المعروف أنه يوجد في بيت شمس على مسافة غير بعيدة عن قرية شمشون الأم معبد الإله الشمس، فليس من المستبعد أن تكون شخصية شمشون مسروقة من إله ما كان مشهورًا في كنعان"(1).
ويقول " ليوتاكسل": "ففي الأسطورة الإغريقية أسرت فتنة أمفالي هرقل إلى درجة نسى معها بطولاته القتالية وحبه الترحال فأقام قرب حبيبته... كان هذا الأخير (هرقل) عند قدمي هذه الحسناء مرتديًا ثيابها ويحاول أن يتعلم حياكة الصوف فيكسر إبرة الحياكة ويَلقى صفعات عشيقته على مؤخرة رأسه، لكن هذا المشهد يمثل تعبيرًا نموذجيًا للتأثير الذي يمكن أن تحوزه المرأة الحبيبة على الرجل العاشق حتى وإن كان عظيمًا... وفي أحد الأيام خان هرقل أمفالي، ووقع في غرام إحدى المقرَّبات منها. ثم تلت ذلك مغامرات أخرى قام بها هذا البطل الأسطوري، وأخيرًا يأست ديانيرا من خيانات زوجها التي بدأ أنها لن تنتهي، فأرسلت إليه رداء القنطور، معتبرة إياه طيلسانًا قادرًا أن يعيد لها زوجها العاق... ولكن هرقل لم يستطع أن يتحمل الآلام التي سببتها له العباءة، ولما لم يستطع أن يخلعها قرَّر أن ينتحر ليضع حدًا لآلامه الرهيبة، فأضرم نارًا عظيمة ورمى بنفسه فيها. إذًا، الذي لا ريب فيه، أن قصة شمشون ودليلة هي تقليد مسخ لأسطورة هرقل وأمفالي"(2).
ج: 1- الذي سجل قصة شمشون هو صموئيل النبي، ذاك النبي القديس، فمن المستحيل أن ينسب لشمشون ما جاء في الأساطير، بل من أين عرف صموئيل أساطير ما بين النهرين أو بلاد الإغريق، وهو لم يذهب إلى هذا أو ذاك المكان. إنه سجل هذه القصة والصراع على أرض كنعان مازال قائمًا، وفي عصر القضاة كان الشعب قابعًا في أرض كنعان محاطًا بالأعداء، لا يحصل على فترة سلام إلاَّ وسريعًا ما يرتد عن إلهه فتتآلب شعوب الأرض عليه، وفي خلال هذا الصراع لا تنمو الأساطير، ولم يحدث استقرار للشعب إلاَّ في عصر داود الملك وإبنه سليمان، عندئذ بدأ الشعب ينفتح على الممالك المجاورة، وكان سليمان وأخاب من أكثر الملوك انفتاحًا على الفينيقيين.
2- إن كان هناك تشابهات بسيطة بين قصة شمشون وأسطورة جلجامش، فمثلًا كان جلجامش طويل القامة، ضخم الجسم، مفتول العضلات، جرئ مقدام، جميل يفتن الناس بجماله، لكن ما أكثر الخلافات بين أسطورة جلجامش الخيالية وقصة شمشون فمثلًا:
أ - قيل عن جلجامش أنه كان يرى جميع الأشياء، ولو كانت في أطراف الأرض، وأنه يطلع على جميع الأسرار ويعرف كل الخفيات، بينما لم يكن شمشون هكذا.
ب- قيل عن جلجامش أنه عاش ملكًا في مدينة " أوروك " وكان وثلثيه إله وثلثه إنسان، بينما لم يكن شمشون هكذا.
جـ- قيل عن جلجامش أنه عاش حياة اللهو والصيد والبطش بالناس، حتى لم يترك ابنًا لأبيه، ولا ابنة لحبيبها، بينما لم يكن شمشون هكذا.
د - شكى أهل " أوروك " جلجامش للآلهة، التي خلقت لهم "أنكيدو" غريمًا لجلجامش، وعاش أنكيدو في الصحراء بدون ملابس، فشعره يغطي جسمه كله، وكان يأكل العشب مع الغزلان، واستطاعت امرأة ساقطة بغواية جلجامش أن تجتذبه إلى حياة المدنية، ولبس الملابس، وأكل الخبز وشرب الخمر، وعندما سمع بظلم جلجامش إشتبك معه في صراع، وكاد يهزمه، ثم صار الاثنان صديقان لا يفترقان، واشتركا معًا في مغامرة قتل الثور السماوي، بينما خلت قصة شمشون من كل هذا، فلم تذكر القصة أنه كان له غريمًا تحوَّل إلى صديق، بل أن القصة لم تذكر لشمشون أي رفيق قوي سواء من بني جنسه أو من شعوب الأرض.
هـ - حكمت الآلهة على "أنكيدو" بالموت لأنه قتل مع جلجامش الثور السماوي، وعندما مات "أنكيدو" حزن عليه جلجامش جدًا، وبكاه ورثاه وأمر بصنع تمثال ذهبي له، ثم زهد جلجامش الحياة فأهمل شعره، وارتدى جلد أسد، وهام على وجهه في البراري، وهو في ثورة داخلية ضد الموت، وأراد أن يذهب إلى "أوتنابشتيم" Utnapishtim بطل الطوفان يسأله عن سر الخلود، فخاض مغامرات عجيبة حيث عبر الجبال، فوجد أسودًا تمرح في ضوء القمر فمزقها إربًا بسيفه، والتقى بالرجل العقرب وارتعب منه، أما الرجل العقرب فلم يؤذه، إنما شجعه على استكمال مغامرته حتى يصل إلى غايته، وسار في الظلام تسع ساعات ثم عشر ساعات متوالية وهو في ظلام حالك، حتى أشرق عليه النور ثانية، وأكمل مسيرته فعبر بغابة الأحجار، حيث رأى الأشجار تحمل العقيق الأحمر، وسار حتى وصل إلى صاحبة الحانة التي ارتعبت منه، وأغلقت باب الحانة، وعندما أخبرها بقصته وأنه جلجامش ملك " أوروك " فتحت بابها وهي ترثى لحاله، وعندما أبلغها عن قصده، قالت له: "يا جلجامش إلى أين أنت سائر؟ إن الحياة التي تريدها لن تجدها، لأنها لما خلقت الآلهة البشرية، قدَّرت لها الموت واستأثرت بالحياة " وطلبت منه أن يعيش حياته يأكل ويشرب ويرقص ويتزوج ويتمتع بالموسيقى، وعندما أصر جلجامش على الوصول إلى غايته في الخلود، أرشدته إلى " أورشنابو " ملاح أوتنابشتيم، فأسرع إلى الغابة والتقى بالملاح الذي طلب منه أن يقطع أغصان من الشجر ويربطها معًا ليطفو فوقها ويصاحبه إلى أوتنابشتيم، وفعلًا فعل جلجامش هكذا، وحذره " أورشنابو " من مياه الموت التي يبحرون فوقها، وأوصاه أن يحذر هذه المياه فلا تمسه، وأخيرًا وصل جلجامش إلى أوتنابشتيم، وقص عليه كل ما كان، وطلب منه أن يرشده عن سر الخلود. أما " أوتنابشتيم " فقد أراد أن يختبره، فطلب منه أن يظل يقظًا ستة أيام وسبعة ليالي، ولكن جلجامش فشل في هذا الاختبار، فنصحه " أوتنابشتيم " أن يغسل شعره المتسخ ليصبح نظيفًا كالثلج، ويلبس حلة جميلة وعمامة، ويعود إلى وطنه يزاول نشاطه ويستمر في حياته كما أرادت له الآلهة. ولكن زوجة أوتنابشتيم قالت لزوجها: هل بعد كل هذا الجهد الذي بذله جلجامش ليصل إليك تصرفه فارغًا؟ واستعطفت زوجها فباح لجلجامش بسر الخلود، قائلًا له أن هناك نبتة في قاع البحر كالورد وجذرها من الأشواك، لو استطعت أن تحصل عليها لحصلت على سر الخلود، فأسرع جلجامش وربط رجليه بأحجار ثقيلة، وألقى بنفسه في أعماق البحر، حتى وصل إلى النبتة وانتزعها وهو يحذر من أشواكها، وخرج من الماء، وأراد الاحتفاظ بها حتى عودته إلى وطنه فيأكلها هو وذويه فينالون الخلود، وفي رحلة عودته وجد بئر مياهها باردة فنزل ليغتسل، وإذ بالحية تختطف النبتة وتأكلها فتحصل على الخلود، وتنسلخ من جلدها. أما جلجامش فجلس يبكي، وعاد إلى وطنه وملك البلاد وتزوج وأنجب ومات. فهل تجد أصداء لهذه الأسطورة التي ذكرتها باختصار شديد في قصة شمشون..؟! قطعًا لا(3).
وهكذا ستجد يا صديقي أيضًا أسطورة هرقل بعيدة عن قصة شمشون تمامًا، وإن الخلافات بينهما أكثر بكثير جدًا من مواضع الاتفاق. فلم يأتي في قصة شمشون أنه كان يرتدي ثيابًا، وكان يحاول أن يتعلم الحياكة وأنه كان يتلقى الصفعات من دليلة على مؤخرة رأسه، بل بالعكس كان شمشون معتزًا برجولته فخورًا بقوته، وأنه لم ينتحر، ولم يلقي بنفسه في النار... إلخ.
وبينما يدعي " ليوتاكسل " أن قصة شمشون ودليلة هي تقليد لأسطورة هرقل، فأنه في موضع آخر يذكر عظم الفارق بين شمشون وهرقل فيقول: "أن موت هرقل كان أكثر شاعرية من موت هذا اليهودي... أما مقارنة حياة البطلين فتُظهر لنا شمشون هزيلًا سخيفًا كاحلًا لا روح فيه. لم يهاجم شمشون الفلسطينيين ويحرق حقولهم لأن ثورة وطنية اجتاحت قلبه ضد أعداء قومه ومستعبديهم، ولم يفعل ذلك لينتقم للإله التوراتي الذي رما داجون الفلسطيني تحت قدميه، بل فعل ما فعل ليرضي نزوة ذاتية دفعته إلى الانتقام من الذين عاش بينهم أمتع أيام حياته، فقد أُهين لأن الفلسطينية التي أُغرم بها لم تبقى زوجة له سوى ستة أيام... علاوة على ذلك يبدو أن شمشون كان يحتقر بنات إسرائيل، ولذلك كان يبحث عن النساء بين الفلسطينيات فقط... أما هرقل فهو بطل إغريقي وطني... إن قصص بطولاته كانت تنبع من أنبل الأحاسيس وأصدق المشاعر... لقد استخدم هرقل قوته لنصرة الضعفاء دائمًا... لقد أمضى هرقل حياته كلها في محاربة الطغاة والوحوش، ولا يفعل إلاَّ ما هو خير للبشر، فقاتل مختلف ضروب جلادي البشر، وأباد أعتى القتلة واللصوص... فلكي يفضل المرء شمشون على هرقل يجب أن يكون عبدًا للبلاهة الدينية"(4).
_____
(1) ترجمة د. محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 212.
(2) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 240، 241.
(3) من يريد المزيد يرجع إلى كتابنا مدارس النقد جـ 4 س290 ص 184 - 199.
(4) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 442 - 444.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1029.html
تقصير الرابط:
tak.la/wr3stf5