St-Takla.org  >   books  >   fr-youhanna-fayez  >   trials-of-jesus
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب محاكمات السيد المسيح وصلبه حسبما جاءت في العهد الجديد: دراسة تاريخية وتحليلية - القمص يوحنا فايز زخاري

48- ثالثًا: الكلمات الثلاثة الأخيرة

 

محتويات: (إظهار/إخفاء)

5. الكلمة الخامسة
6. الكلمة السادسة
7. الكلمة السابعة

5. الكلمة الخامسة:

«أَنَا عَطْشَانُ» (يوحنا30:19).

سبق أن أشرنا أن الجنود الرومان أَعْطَوْا الرب خَمْرًا (خَلًّا) مَمْزُوجَةً بِمُرّ لِيَشْرَبَ قبل أن يُسمَّر على الصليب، كنوعٍ من التخدير لتخفيف آلامه؛ فقد كانت آلام الصلب فوق طاقة الاحتمال. «وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ» (مرقس23:15، متى34:27)؛ لأنه أراد أن يشرب كأس الألم حتى الثُمالة. والآن تأتي المرة الثانية التي يُذكَر فيها موضوع الشُرب:

 المرة الأولى: قبل الصلب: أَعْطَوْه خَلًّا أو خَمْرًا مَمْزُوجَةً بِمُرّ، «وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ».

 المرة الثانية: على الصليب قَالَ «أَنَا عَطْشَانُ»، فَمَلأُوا إسْفِنْجَةً خَلّا، وَقَدَّمُوهَا إلَى فَمِهِ.

 

«أَنَا عَطْشَانُ διψῶ» (يوحنا28:19):

 

(متى48:27-49)

(مرقس36:15)

(لو36:23)

(يوحنا28:19-29)

وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَلًّا وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَالُوا "اتْرُكْ لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إيلِيَّا يُخَلِّصُهُ"!

فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلأَ إسْفِنْجَةً خَلًّا وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلًا "اتْرُكُوا لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ"!

وَالْجُنْدُ أَيْضًا اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلًّا.

بَعْدَ هذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: "أَنَا عَطْشَانُ". وَكَانَ إنَاءٌ مَوْضُوعًا مَمْلُوًّا خَلًّا، فَمَلأُوا إسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إلَى فَمِهِ.

 

اِشتدَّ العطش بالمسيح وبلغ أقصاه. فالألم عادةً يُثير العطش؛ لأَن الإنسان يَعرَق بشكل غير عادي ويَفقِد الجِسم الماء، ويُمسي الألم وَكأنه نارٌ تحرق الجوف. كما وصفه داود النبي فقال «صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي. يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي» (مزمور22: 15). لقد كان ممكنًا لله الكلمة أن يُحرِّر جَسدَه من العذاب ولكنه قَبِلَ أن يحتمله بإرادته. وطلب أن يشرب، ولكن الجنود قاموا بِمزيدٍ من الشر؛ ليتم قول المزمور على لسان المسيح: «وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَمًا، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلًّا». (مز69: 21).

 

هل مِن تناقُض بين الأناجيل الأربعة؟

يقول مار يوحنا الإنجيلي أنهم ملأوا إسفنجة بِخَلٍّ ووضعوها على زوفا[363] وقدموها له. أما مار لوقا فيكتفي بالقول بأنهم قدموا له خلًا (لوقا23: 36). والقديسان متى ومرقس يصفان الإسفنجة أنها وُضِعت على قصبة (متى27: 47، مرقس15: 36):

لم يهتم مار لوقا بطريقة تقديم الخل واكتفى بأنهم قدموا له خلًا عند عطِشه. فالجنود الذين اشتركوا في تنفيذ حُكْم الصلب. لما قال المسيح أنَّه عطشان، وَضَع أحدهم إسفنجة على قصبة. أو فَرْعًا مأخْوذة من شجرة الزوفا على شكل قصبة. وتم قول القديس لوقا: «وَالْجُنْدُ أَيْضًا اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلّا.»

أراد الرب أن يَسمع اليهود حوله هذه الأحداث التي سبق الأنبياء وتنبأوا بها، «فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ: "قَدْ أُكْمِلَ". وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ» (يو30:19).

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

St-Takla.org Image: The Crucifix (Crucifixion of Jesus Christ, with [possibly] Saint Mary) (image 5), workshop of Fra Angelico, ca. 1442, fresco, 61 x 31.5 in. (155 x 80 cm). Cell 15 (Novice) - Museum and Convent of St. Mark Church (Basilica di San Marco), Florence (Firenze), Italy. It dates back to the 12th century. - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, October 3, 2014. صورة في موقع الأنبا تكلا: الصلبوت (صلب السيد المسيح - وتظهر القديسة مريم [في الأغلب]) (صورة 5)، رسم من ورشة الفنان فرا أنجيليكو، 1442 م. تقريبًا، بمقاس 155×50 سم.، قلاية 15 - صور دير ومتحف كنيسة مارمرقس (سان ماركو: القديس مرقس الإنجيلي)، فلورنسا (فيرينزي)، إيطاليا. ويرجع إلى القرن الثاني عشر. - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 3 أكتوبر 2014 م.

St-Takla.org Image: The Crucifix (Crucifixion of Jesus Christ, with [possibly] Saint Mary) (image 5), workshop of Fra Angelico, ca. 1442, fresco, 61 x 31.5 in. (155 x 80 cm). Cell 15 (Novice) - Museum and Convent of St. Mark Church (Basilica di San Marco), Florence (Firenze), Italy. It dates back to the 12th century. - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, October 3, 2014.

صورة في موقع الأنبا تكلا: الصلبوت (صلب السيد المسيح - وتظهر القديسة مريم [في الأغلب]) (صورة 5)، رسم من ورشة الفنان فرا أنجيليكو، 1442 م. تقريبًا، بمقاس 155×50 سم.، قلاية 15 - صور دير ومتحف كنيسة مارمرقس (سان ماركو: القديس مرقس الإنجيلي)، فلورنسا (فيرينزي)، إيطاليا. ويرجع إلى القرن الثاني عشر. - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 3 أكتوبر 2014 م.

6. الكلمة السادسة:

«فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ: "قَدْ أُكْمِلَ τετέλεσται,"». (يوحنا30:19).

أُكْمِلَت كل آثام اليهود. فما تركوا شيئًا لم يفعلوه. فتآمُرهم وكراهيتهم وَصَلت إلى غايتها.

وعبارة «قَدْ أُكْمِلَ» تُعَبِّر عن اكتمال نبوات العهد القديم الخاصة بتجسد الرب وآلامه لفدائنا.

وعبارة «قَدْ أُكْمِلَ» تعني الانتصار، وأن تدبير الخلاص قد تم، وبدأت ساعة كرازة الرب للأرواحالتي في السجن أو الجحيم؛ لأنه افتقدهم. فهو مُخَلِّص الأحياء والأموات. ولأجلنا واجه الموت الذي حُكِمَ به على البشرية، فمات بالجسد وهو الإله رب الحياة؛ لِيُعيد الحياة إلى الإنسانية صائرًا باكورة الراقدين (1كو15: 20)، والبكر من بين الأموات (كو1: 18).

وعبارة «قَدْ أُكْمِلَ» تعني أن العمل الذي أعطاه الآب للابن قد أتمه. «أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ». (يو4:17،12)

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

7. الكلمة السابعة والأخيرة:

«يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي.» (لوقا46:23).

πάτερ, εἰς χεῖράς σου παρατίθεμαι τὸ πνεῦμά μου

(متى50:27)

(مرقس37:15)

(لوقا46:23)

(يوحنا30:19)

فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ

فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ،

وَأَسْلَمَ الرُّوحَ

وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: "يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي". وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ.

فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ: "قَدْ أُكْمِلَ" وَنَكَّسَ رَأْسَهُ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ.

 

هذا ما تنبأ به داود النبي وقال «فِي يَدِكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي.» (مزمور5:31).

فقد مات الرب باختياره، وفي الوقت الذي أراد فسَلَّم روحه الإنسانية فيه. ولذلك قيل:

«فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ» (مرقس37:15، متى50:27).

وصراخه بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إعلانٌ للحياة، وتسليمه الرُّوحَ إعلانٌ للموت، فقد أعلن الرب عن حياته ثم أعلن موته؛ لأنه لم يَمُت قهرًا بل باختياره «لِهذَا يُحِبُّنِي الآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا, لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا.» (يو17:10-18)

عجيب أن تجتمع عبارة «وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ» مع عبارة: «فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي أو أَسْلَمَ الرُّوحَ» في جملة واحدة. [فالإنسان عند موته ينطفئ تدريجيًا، فيخبو صوته تدريجيًا، فكيف «نَادَى بِصَوْتٍ عَظِيمٍ» قبل الموت بلحظة! هذا يعني أن موته كان إراديًا] كما يقول ذهبي الفم[364]، وتحديد لحظة الموت كانت بإرادته «لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا.»

«أَضَعُ نَفْسِي»: يعني انفصال الروح الإنسانية عن الجسد الإنساني. وعبارة: «لآخُذَهَا أَيْضًا» تعني عودة الروح للجسد أي القيامة. وهنا نسأل سؤالًا هامًا: مَنِ المُتحدث في هذه الآية؟ هل الناسوت؟ إذ أنه قال: «أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا» فانفصال الروح وعودتها أمور حادثة في الناسوت. والحقيقة أن الناسوت ليس له هذه القدرة. ولا يمكن للاهوت أن يقول هذه العبارة «أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا» فاللاهوت ليس له نفْس. إذنِ المتحدث هو الإله المُتأنس، بطبيعته الواحدة بغير انفصال، هو الذي يمكنه أن يقول هذا النص. فهو نصٌ كتابي يُوَضِّح عقيدة الطبيعة الواحدة.

العجيب أن الأناجيل الأربعة لم تستخدم في هذا الموقف كلمة مات، بل «أَسْلَمَ الرُّوحَ». ويعلق القديس كيرلس الكبير فيقول: [إن عبارة «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» تضع أساسًا لرجاءٍ أكيد، أن نفوس القديسين حينما تترك أجسادها تُسرِع أرواحهم إلى يَدَيِّ الآب بواسطة الطريق الذي أعده لنا مُخَلِّصنا، كما اسْتَوْدَعَ هو رُوحَه فِي يَدَي الآب.][365]

ولعل عبارة «فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي»: مملوءة بالرجاء والتعزية، وتصحبنا إلى الأبدية فنَجد الآب السماوي فاتحًا أحضانه لنستقر فيها في ملكوته الأبدي. هذا ما دفع القديس استفانوس عند استشهاده، أن يَقُولُ: «أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي» (أع59:7).

وأخيرا وقعت حبة الحنطة بإرادتها وأَسلم الروح. وأضاف مار يوحنا عبارة تفرَّد بها: «وَنَكَّسَ رَأْسَهُ»؛ فقد كان شاهدَ عيانٍ.

ويقول الدكتور القس بيشوي حلمي: [ولما سَلَّم يسوعُ الروحَ، اِقترب إبليس منه ليقبض على روحه ويذهب بها إلى الجحيم، كما هي عادته، ظانًا أنه شخص عادي. ولكن المسيح رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب، وجَرَّده من رئاسته، وشهَّر به جهارًا ظافرًا به... وسبى سبيًا، وأطلق المقبوض عليهم في قبضة الشيطان في الجحيم. وهكذا تم قهْرُ الشيطان والانتصار على مملكة الظلمة (كو14:2،15).][366]

 

لماذا مات المسيح؟

كان لموت المسيح فوائدٌ كثيرةٌ. فبالإضافة إلى أنَّه جاء يحمل عقوبة الموت عنا لفدائنا، فإن موته وقيامته إثباتٌ لإمكانية القيامة العامة، ولنفهم أن الموت تَعقُبه قيامةُ. إنها آيةُ يونان؛ لأنه كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال» (مت39:12،40). «فإنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ» (1بطرس18:3، 19)، «لأنكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَادًا.» (أعمال27:2).

 

· آلام فِصْحية تَعبُر بنا من الموت إلى الحياة

تَعبُر بِعُقُولنا وأرواحنا وأجسادنا. لا بأجسادنا فقط كبَني إسرائيل الذين عبروا مع موسى النبي، ثُم اشتاقوا إلى أرض العبودية. نَعْبُر من الشر إلى البِّر، من التَّوَانِي إلى اليقظة الروحية، لذلك جيدٌ أن يُسَمَّى أسبوعُ البصخة، أسبوعَ الفِصْح، أسبوعَ العبور، أفضل من تَّسْميته بأسبوعَ الآلام؛ لأننا به نعبر مع المسيح الذي أخذ طبيعتنا، آخِذًا صورة عبد، وعَبَر بنا إلى أرض الميعاد إلى السماء. فهو حَمَلُ الفِصْح. بِدَمِه مُسِحَتِ العتبة العُليا والقائمتان لأبواب بني إسرائيل، فعبر الملاك المُهلِك، ولم يَمَسَّ أبكارهم بِسُوء. هكذا ذُبِح المسيح الحَمَل على الصليب، ومسَّ دَمُه شفتَينا ولساننا في سر الافْخارِسْتِيَا، فانتُزع إثمُنا وكُفِّر عن خطايانا. يقول القديس يعقوب السروجي: [ لقد سلَّم روحه للآب لكي يفتح طريق عالم النور لمن يؤمن به. وسلَّم روحه للآب السماوي، فصارت الأرواح التي ليسوع تُستودَع في يدَي الآب.][367]

 

«فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لو46:23)

هل ذهبت روح المسيح إلى الآب؟ أم نزل إلى الجحيم من قِبَل الصليب؟

انطلقت روح المسيح الإنسانية المتحدة بلاهوته أولًا إلى الجحيم من قِبَل الصليب[368]، نزل فكرز للأرواح التي في السجن، واستقبلته نفوس الذين ماتوا على رجاء الفداء.

[انطلق النور الأعظم إلى ظُلمة الجحيم، يطلب آدم الخروف الضال، فيَحِلَّ أسْرَه، ومعه مُعينَته حواء. ويطلب هابيل أول المقتولين، وأول الرُّعاة الصِّدِّيقين الذي مات على رجاء. ونوح البار الذي أسس رسْم كنيسة الله التي بها وفيها خلُص الطائعون من هلاك الطوفان. وإبراهيم الذي قدَّم ابنه الوحيد الحبيب رسْمًا للمسيح الذي بذله الآب من أجلنا. ويوسف الابن المحبوب الذي بيع عبدًا في أرضٍ غريبة في مصر فأنقذها. وموسى الذي خرج من ظُلْمة السَّفْط ليُخلِّص شعبه من عبودية فرعون. ويونان النبي الذي كان في ظُلْمة جوف الحوت وخرج حيًا في اليوم الثالث مثالًا للمسيح القائم من الموت. وأخيرًا يطلب يوحنا أعظم مواليد النساء الذي مهَّد الطريق للمسيا ليَخدم ويُصلَب لفداء البشرية من ظُلْمة الهاوية والموت.][369]

أخرج الرب هؤلاء الذين ماتوا على رجاء منذ آدم وحواء إلى اللص اليمين، صفًّا ضخمًا من القديسين والآباء، هؤلاء كانوا يُصَلُّون من الجحيم يطلبون الفداء، لِتُدرِكهم رأفتُه. وظلوا هكذا حتى كسَّر الرب أبواب الجحيم بالصليب مفتاح الحياة، وحطم متاريس الهاوية، و«قَبَضَ عَلَى التِّنِّينِ، الْحَيَّةِ الْقَدِيمَةِ، الَّذِي هُوَ إبْلِيسُ وَالشَّيْطَانُ، وَقَيَّدَهُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَطَرَحَهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ لِكَيْ لاَ يُضِلَّ الأُمَمَ فِيمَا بَعْدُ حَتَّى تَتِمَّ الأَلْفُ السَّنَةِ» (رؤ20: 2). وانطلقت أرواح القديسين

وما أروع [لحن μονογενὴς عندما نُسبح به الرب قائلين:

[ Ἃγιος ισχυρός, ό ἑν ἀσθένειᾳ τὸ ὑπερέχον τῆς ἰσχύος επιδειξάμενος.

قدوس القوي الذي أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة.][370] وظل الرب يعمل، وفتح باب الفردوس، وأدخلهم جميعًا، وبدأ مملكته.

وروح المسيح الإنسانية التي انفصلت بالموت عن جسده الإنساني، لم تنفصل قط عن لاهوته، وبالتالي لم تنفصل عن الآب. فهكذا الرب وهو على الصليب ذاقَ الموت بالجسد، ولا يزال ثابتًا في اللاهوت، وقد استودع روحه الإنسانية فِي يَدِ الآب غير المحدود. فنزُوله إلى الجحيم وتَقيِيده للشيطان آخِذًا نفوس الذين ماتوا على رجاء، وفتْحُه للفردوس وإدخالُه إياهم، لا يتعارض مع كَوْنِه استودع نفسَه فِي يَدَيِّ الآب الكائن في كل مكان مالئ الكل.

 

وهنا يأتي سؤال: هل يمكن أن يموت ناسوت المسيح دون أن يموت لاهوته؟

فيجيب نيافة الأنبا بيشوي مطران دمياط: [بما قاله معلمنا بُطْرُسُ الرَّسُولُ: «مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ»، (1بطرس18:3، 19)، مات المسيح إذَنْ على الصليب جسديًا، ولكن روحه الإنسانية لم تمُت، فبالأَوْلى لاهوته لم يمُت.][371]

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

· خاتمة: «اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ»

 

(يوحنا 23:19- 24)

(لو34:23)

(مر24:15)

( متى35:27، 36)

ثُمَّ إنَّ الْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْمًا. وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ أَيْضًا. وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجًا كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "لاَ نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ". لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: "اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً". هذَا فَعَلَهُ الْعَسْكَرُ.

وَإذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ

اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا.

وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ

مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا: مَاذَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ؟

وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ "اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً". ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ.

 

بكثير من التفاصيل كتب القديس يوحنا ما اختصره الإنجيليون الثلاثة بخصوص ثياب المُخَلِّص.

كسَرَ آدم وحواء وصية الله، وأكلا من الشجرة «فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ» (تك7:3) وعبثًا خاطَا أوراق التين وصنعا مآزر (تك7:3) لم تَسْتُرهما، فانتهت قِصَّتهما بالعُرِي. لذلك صعد المسيح عريانًا على الصليب. فمِن حيث انتهى آدمُ الأول، بدأ آدمُ الثاني.

 

وأين ثيابه؟

كان الجنود والجلادون لا يتأثرون بِبُؤْسِ المحكوم عليهم بالموت، فيُنَفِّذون الأوامر بقسوة، ويقتسِمون ما يتركه هؤلاء. ولذلك قيل: «ثُمَّ إنَّ الْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ[372] وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ» (يوحنا23:19). فَعُرِيُّ الخطية ساد البشرية من مشارق الشمس إلى مغاربها ومن الشمال إلى الجنوب؛ لأنه «بِإنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ.» (رومية12:5) أو "بالذي جميعهم قد خطئوا فيه"[373]. فاحتاج العالَم الذي تعرَّى فِي آدم الأول أن يكتسي بثوب بر المسيح آدم الثاني. لذلك صار تقسيم ثياب المسيح إلى أربعة أقسام، نُبُوَّة لِما فعله عندما ارتفع عريانًا على الصليب حاملًا عري خطايانا، لكي يكسو العالم، ويُغطِّي عُرْيَه فيُكَفِّر عن خطيته.

أما القميص الذي قدمه أحد الأغنياء للمسيح «وكان... بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجًا كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ.»، فما أردوا أن يُضَيِّعوا قِيمته. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لاَ نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ؟» (يوحنا24:19). «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً.» (متى34:27).

وهكذا كانت الأقسام الأربع ترمز لكَفَّارَة المسيح الكافية لتغطية العالم كله. وهي تحمل الوحدانية أيضًا التي لا تنقسم؛ إذ هي ذبيحة كفارية واحدة دائمة وممتدة في كل الأجيال بلا نهاية.

فالثياب المُقسَّمة إلى أربعة، تُشير إلى الكنيسة جسد المسيح، التي انتشرت في أربع جهات المسكونة. وصارت بين يديِّ الجند، في متناول الأمم، يستطيعون التمتُّع بالعضويَّة فيها.

أمّا القميص الذي بلا خياطة، المنسوج كلّه من فوق، لا يُشَق ولا يُقسَّم، فيُشير إلى الكنيسة الواحدة الوحيدة الجامعة بلا انشقاق أوِ انقسام. فقد حرص الرب في صلبه ألا يُشَقَّ ثوبه. فكلما دخلت الكنيسة في شركة صليبه، لا تدخل في انشقاق أو انقسام.

وثوبه منسوج من فوق؛ فالكنيسة سماويّة، منسوجة بيد الله، فهي عمل روحه القدّوس.

وأخيرًا: «جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ» (متى36:27): فلم يكن السيد المسيح محتاجًا إلى حراسة، لكنّه خضع لها، وسمح للعسكر أن يحرسوه! سمح للتجارب المحيطة بالكنيسة جسده المصلوب أن تكون حارسة لها. فالتجارب تسند المؤمنين، فيعيشوا بروح التواضع! وبقدر ما يكون الشيء ثمينًا تزداد الحراسة، هكذا بقدر ما يعتزّ الله بأولاده وكنيسته بقدر ما يسمح لهم بالضيقات

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

[363]الزوفا: نبات من عائلة النعناع ينمو فِي فلسطين ويمكن أن يكبر إلى أن تتحول الساق إلى قصبة.

[364]القديس يوحنا ذهبي الفم، عظة 88، PG, vol.58: p.776 , NPNF, series 1: vol.10: p.521.

[365]القديس كِيرِلُّس الإسكندري، آلام المسيح وقيامته في إنجيل القديس يوحنا، ترجمة د. جورج حبيب بباوي، مؤسسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، طبعة أولى 1977م، ص479،478.

[366]د. القس بيشوي حلمي، عقائدنا المسيحية الأرثوذكسية، طبعة أولى 2007م، ص280.

[367]أسلم παρατίθεμαι تعني يُسَلِّم وديعة، وليس مجرد خروج الروح.

[368]الخولاجي المقدس، القداس الباسيلي: صلاة قدوس قدوس، طبعة القمص عطاالله أرسانيوس المحرقي، مكتبة المحبة، طبعة أولى 1959م، ص322.

[369]القديس إبيفانيوس، مخطوطة من القرن الرابع عشر بالمتحف القبطي، رقم 296طقس.

[370]خدمة الشماس، طقس الجمعة العظيمة.

[371]الأنبا بيشوي مطران دمياط، د. القس بيشوي حلمي إبراهيم، مائة سؤال وجواب في العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، طبعة 2004م ، ص37.

[372]الملابس التي كان يرتديها الإنسان فِي فلسطين كما يقول العالم اليهودي المتنصر Edersheim: [أ: عمامة على الرأس.ب: الرداء الداخلي ويُدعى قميص أو "خَلَقة" بالآرامية. والكلمة قريبة من نفس الكلمة العربية الدارجة. جـ: الرداء الخارجي (يو13: 4) د: مِنطَقة أو حِزام حول الوسط. هـ- صندل.] وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفهم معنى الكلمات اليونانية ثيابه (ἱμάτια) أو الرداء الخارجي، والقميص (χιτῶνα) وهو يُشبه الجلابية بدون لياقة. وكان القميص منسوجًا كله بدون خياطة من الجانبين. وقد أراد يوحنا أن يؤيد بهذا الوصف كهنوت المسيح، لأن هذا القميص بالذات كان يَلبَسه الكهنة فقط.

[373]الأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي، موسوعة الأنبا غريغوريوس: ج7: اللاهوت العقيدي: سِرَّيّ التجسد والفداء: ج2، أكتوبر 2004م، ص210.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-youhanna-fayez/trials-of-jesus/last-words-5-7.html

تقصير الرابط:
tak.la/m2t4jfa