(3) «الطَّعَامَ لاَ يُقَدِّمُنَا إلَى اللهِ»
يعترضون بقول مار بولس الرسول في رسالته الأولى إلى كورنثوس:
«الطَّعَامَ لاَ يُقَدِّمُنَا إلَى اللهِ لأَنَّنَا إنْ أَكَلْنَا لاَ نَزِيدُ وَإنْ لَمْ نَأْكُلْ لاَ نَنْقُصُ» (1كورنثوس8: 8)
والقراءة السطحية المبتورة لهذه الآية الواحدة، تعطينا معنى عدم أهمية الصوم، فالطعام لا يُقَدِّم ولا يؤخِّر من جهة علاقتنا بالله.
ولكن القراءة المتعمقة للنصِّ الكامل الذي يشمل الآيات المحيطة بها، يجعلنا نُدرك أن حديث الرسول هنا ليس عن الصوم، فالرب صام أربعين يومًا وأربعين ليلة.
فإن كان الصوم لا يزيدنا شيئًا ولا يُنقِصُنا في الحياة الروحية،
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
فلماذا صام المسيح له المجد إذَن؟
ولماذا أشار إلى أن الشياطين لا يخرجون إلا بالصوم مع الصلاة؟ قائلًا: «وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ» (متى17: 21)؟! بل ولماذا تحدث الرسول بولس نفسه، وفي نفس الرسالة عن الصوم قائلًا: «لِكَيْ تَتَفَرَّغُوا لِلصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ» (1كورنثوس7: 5)، إذا كان الصوم هو المقصود من الآية: «الطَّعَامَ لاَ يُقَدِّمُنَا إلَى اللهِ لأَنَّنَا إنْ أَكَلْنَا لاَ نَزِيدُ وَإنْ لَمْ نَأْكُلْ لاَ نَنْقُصُ»؟!
ولماذا كان الرسول يهتم بالأصوام فيقول «فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ اللهِ: ... فِي أَسْهَارٍ، فِي أَصْوَامٍ» (2كورنثوس6: 5)، «فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً» (2كورنثوس11: 27)؟!
ليس الحديث إذَن عن الصوم، بل عن موضوع آخَر، هو موضوع أكْل ما ذُبِح للأوثان[34]، وهل يجب أن يبتعد عنه المسيحيون أم لا؟
فمَسِيحِيُّو كورنثوس، لا سِيَّما الفاهمون المُتقدِّمون منهم، كانوا يأكلون أحيانًا من هذه الذبائح التي ذُبِحت للأوثان على اعتبار أنها طعامٌ عادي، ليس فيه أيُّ شيءٍ من القداسة أو البركة.
وإذ كان هذا يُسبِّب عَثْرة للبُسطاء والضعفاء في الإيمان في ذلك الوقت، فيأكلون مِثلَهم من هذه الذبائح كأنها مُقدَّسة أو مباركة؛ لذلك كتب مار بولس رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس يُوَضِّح لهم، أنهم بأكْلِهم من هذه الذبائح لا يزيدون، وإن لم يأكلوا منها لا ينقصوا. ولذلك فلْيهْتَمِّ الأقوياء إذَن أن يحتملوا ضَعف الضُّعفاء فلا يُعثروهم.
وهذا ما يَظْهَر في قوله «فَمِنْ جِهَةِ أَكْلِ مَا ذُبحَ لِلأَوْثَانِ: نَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَثَنٌ فِي الْعَالَمِ... وَلكِنْ لَيْسَ الْعِلْمُ فِي الْجَمِيعِ. بَلْ أُنَاسٌ بِالضَّمِيرِ نَحْوَ الْوَثَنِ إلَى الآنَ يَأْكُلُونَ كَأَنَّهُ مِمَّا ذُبِحَ لِوَثَنٍ، فَضَمِيرُهُمْ إذْ هُوَ ضَعِيفٌ يَتَنَجَّسُ. وَلكِنَّ الطَّعَامَ لاَ يُقَدِّمُنَا إلَى اللهِ، لأَنَّنَا إنْ أَكَلْنَا لاَ نَزِيدُ وَإنْ لَمْ نَأْكُلْ لاَ نَنْقُصُ. وَلكِنِ انْظُرُوا لِئَلاَّ يَصِيرَ سُلْطَانُكُمْ هذَا مَعْثَرَةً لِلضُّعَفَاءِ. لأَنَّهُ إنْ رَآكَ أَحَدٌ يَا مَنْ لَهُ عِلْمٌ، مُتَّكِئًا فِي هَيْكَلِ وَثَنٍ، أَفَلاَ يَتَقَوَّى ضَمِيرُهُ، إذْ هُوَ ضَعِيفٌ، حَتَّى يَأْكُلَ مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ؟» (1كو8: 4-10).
يُوَضِّح الرسول «فَمِنْ جِهَةِ أَكْلِ مَا ذُبحَ لِلأَوْثَانِ: نَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَثَنٌ فِي الْعَالَمِ» أي ليس هناك آلِهة حقيقية. فإذا عَبَد البعضُ تِمثالًا أو حيوانًا باعتباره وثن معبود. فهذه خطيئتهم، وضلالهم، أما بالنسبة لنا نحن المؤمنين، يبقى هذا التمثال مُجرَّد نَوْع من الفَن، ويبقى هذا الحيوان (المعبود) بالنسبة لنا حيوان عادى "لا يزيد ولا ينقص". وكون أن هؤلاء المخطئين يذبحون لهذه التماثيل، فالحيوانات المذبوحة، بالنسبة لنا نحن المؤمنين، تبقى حيوانات عادية مذبوحة، في نَظَرِنا مُجرَّد لحوم حيوانات يمكن أكلُها، أما الفِّكر الضَّال في ذِهن عَبَدة الأصنام، فلا يُغَيِّر قيمة الحيوانات المذبوحة، لا يُعطيها بركة ولا يُنَجِّسُها، بل تبقى حيوانات يمكن أكلُها؛ لأننا لا نعترف بوجود وثن في العالم، وهذا معنى «نَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَثَنٌ فِي الْعَالَمِ».
وإذ هناك أُناسٌ بُسطاء، ليس لهم عِلْم، فلابُدَّ لنا نحن الأقوياء أن نَحتَمِلَهم ونَهْـتَمَّ أن لا نُعثِرَهم ولا نُشكِّكَ أفكارهم بِأكْلِنا أمامهم هذه اللحوم
«بَلْ أُنَاسٌ بِالضَّمِيرِ نَحْوَ الْوَثَنِ إلَى الآنَ يَأْكُلُونَ كَأَنَّهُ مِمَّا ذُبِحَ لِوَثَنٍ» أي أن الذين يأكلون مما ذبح للأوثان باعتبارها لحوم ارتبطت في ضمائرهم بالوثن، «أُنَاسٌ بِالضَّمِيرِ نَحْوَ الْوَثَنِ... يَأْكُلُونَ. فَضَمِيرُهُمْ إذْ هُوَ ضَعِيفٌ يَتَنَجَّسُ».
ولا يزالوا إلَى الآنَ يَأْكُلُونَ باعتبارها تحمل بركة معينة. فحُكْمُ الرسول على ضميرهم أنه ضمير ضعيف، وأنَّ هؤلاء يتنجسون إذا أكلوا فيقول:
«فَضَمِيرُهُمْ إذْ هُوَ ضَعِيفٌ يَتَنَجَّسُ». أما نحن، فالطعام (الأكْل من هذه الحيوانات المذبوحة للأوثان والامتناع عنها) لاَ يُقَدِّمُنَا إلَى اللهِ، لأَنَّنَا إنْ أَكَلْنَا لاَ نَزِيدُ وَإنْ لَمْ نَأْكُلْ لاَ نَنْقُصُ.»
_____
[34] تَدْخُل اللحومُ المذبوحة لأجل عيد الأضحى، أو الحَلْوى الحمراء ضِمْن هذا الموضوع.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-youhanna-fayez/biblical-proof-1/fasting-food.html
تقصير الرابط:
tak.la/37bjafx