منذ نشأة المسيحية كان الذين ينضمون إليها ينالون العماد حيث يجحدون الشيطان وكل أعماله وحيله، معترفين بعمل الثالوث القدوس فيهم. فمن الجانب السلبي يكفون عن الشر، ومن الجانب الإيجابي يمارسون الخير.
للأخلاقيات المسيحية طابعها الفريد والمتميز، فهي ليست قوانين مجردة تضبط سلوك الفرد أو الجماعة، لكنها علاقة حب عميق في النفس بين الإنسان ومخلصه الذي يُعد له شركة في الأمجاد السماوية. خلال هذه العلاقة يعرف كيف يتعامل المؤمن مع إخوته في البشرية، حتى بالنسبة لمقاوميه ومضطهديه، كما مع السمائيين، بل ومع الحيوانات والطيور والطبيعة الجامدة. لذلك يقول القديس أغسطينوس: "حب، وأفعل ما شئت".
وضع السيد المسيح أساس الناموس السلوكي المسيحي: "وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضا بعضكم بعضًا. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حب بعضًا لبعض" (يو13: 34-35).
على نفس المنهج سلك التلاميذ والرسل، فيقول الرسول بولس: "لا تكونوا مديونين لأحد بشيءٍ، إلا بأن يحب بعضكم بعضًا، لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس. لأن لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته، إن كانت وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة: أن تحب قريبك كنفسك. المحبة لا تصنع شرًا للقريب. فالمحبة هي تكميل الناموس" (رو 13: 8-10). هكذا لم يقدم الرسل مجموعة قوانين أخلاقية معينة، لكنهم قدموا الروح الذي به تُوضع القوانين، والتي تحكم السلوك المسيحي حسب الظروف القائمة.
لقد ترك للكنيسة أن تقدم تفاصيل السلوك الروحي الحي قائمًا على الأسس الإنجيلية دون تقديم كثرة من القوانين: "أخيرًا أيها الإخوة، كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مُسرُّ، كل ما صيته حسن، إن كانت فضيلة، وإن كان مدح، ففي هذا افتكروا" (في 4: 8).
هذا ومن جانب أخر أعطى إمكانيات جديدة، ففي المعمودية نتمتع بالدفن مع السيد المسيح، نموت عن الخطية، ولا يكون لها سلطان علينا، إلا إذا قبلناها بإرادتنا؛ كما صارت لنا البنوة لله، والتمتع بإمكانيات الثالوث القدوس: أبوة الآب المحب للبشر، ونعمة الابن واهب الغفران، وشركة الروح القدس الذي يقدّس ويجدد حتى نصير أيقونة للسيد المسيح. صار السلوك المسيحي وليد الإمكانيات التي نتمتع بها خلال الميلاد الجديد في المعمودية، والإيمان الحيّ أن نسأل فنأخذ، والعبادة الروحية الفريدة التي ترفعنا إلى السماويات.
كمثالٍ قدمت لنا الديداكية[6] حق الخيار بين طريق الحياة وطريق الموت، لكنها لم تضع قائمة بالتفصيل عن الفضائل التي تحكمنا في سلوكنا في طريق الحياة، ولا قائمة كاملة بالرذائل التي تدفعنا إلى طريق الموت[7].
* يوجد طريقان: أحدهما للحياة والآخر للموت[8]. لكن الفرق بين الطريقين عظيم.
طريق الحياة هو هكذا:
أولًا، أحبب الله الذي خلقك[9].
ثانيًا، حب قريبك كنفسك[10]. مالا تريد أن يفعله الناس بك لا تفعله أنت بالآخرين[11].
إليك ما تحمله هذه الأقوال من تعليم: باركوا لاعنيكم، صلوا من أجل أعدائكم، وصوموا من أجل مضطهديكم. لأنه أي فضل لكم إن أحببتم الذين يحبونكم؟ أليس الوثنيون يفعلون ذلك؟! أما أنتم فأحبوا مبغضيكم، فلا يكون لكم عدو[12].
ابتعدوا عن الشهوات الجسدية[13] الزمنية (عالمية). "من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا[14]". وكن كاملًا[15].
الديداكية
في كل جيلٍ، بل وفي كل إيبارشية يهتم الرعاة بالحديث عن فضائل معينة لمعالجة ظروف الجماعة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لكنهم يقدمون هذه الفضائل على أساس فكرٍ إنجيليٍ حيٍ، يُبرز عمل الحب مع البرّ والعدل وذلك بالنعمة الإلهية المجانية، وأيضًا الالتزام بالجهاد الروحي بإرادة حرة مقدسة في الرب.
* العدل موضوع يخص المجتمع وجماعة الجنس البشري. فإن الذي يجعل المجتمع متماسكًا معًا هو: العدل والإرادة الصالحة. الأخيرة تُدعى أحيانًا التسامح واللطف. يبدو لي أن العدل هو الأسمى والتسامح أكثر الاثنين يجلب المسرة. واحد يحكم والآخر يُظهر صلاحًا.[16]
* يلزمنا ألا نحكم على شيءٍ ما أنه مفيد إن لم يفد الجميع، لأنه كيف يستطيع إنسان أن يستفيد بمفرده؟ فما هو غير نافع للجميع هو ضار.[17]
* الحب هو الأول بين كل الأنشطة التي ترتبط بالفضيلة وكل وصايا الناموس. لذلك إذا ما اقتنت النفس هذا الحب لا تحتاج بعد إلى الأمور الأخرى، إذ تبلغ كمال وجودها[18].
القديس ماكرينا
* (في حديثه للمتأهبين لسرّ العماد).
المحبة هي وحدها العلامة المميزة بين أولاد الله وأولاد إبليس.
لنطبع أنفسنا بسمة صليب يسوع المسيح.. ولنصطبغ جميعًا بالعمودية.
وليحضر الكل إلى الكنيسة لنبني أسوار الكنيسة، فليس ثمة شيء يميز أولاد الله عن أولاد إبليس إلا المحبة.
* يقدم لي الرسول بولس في موضع ما تجميعًا رائعًا لأمورٍ فائقة، يكشفها أمامي، وأنا أقول له: "اكشف لي إن كنت قد وجدت من بينها ثوب العرس. يبدأ يكشف الواحدة تلو الأخرى. ويقول: "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة.." يا لها من ثياب ثمينة! ومع ذلك لا يوجد بعد ثوب العرس! لماذا تتركنا أيها الرسول في إثارة قلقين؟.. "إن كانت ليس لي محبة لا انتفع شيئًا".
انظروا ثوب العرس! ارتدوه يا أيها الضيوف فتجلسوا في أمان![19]
_____
[6] جاءت كلمة "ديداكية" Didache عن الحروف اليونانية الأولى لعنوان عمل يسمى "تعليم الرب للأمم بواسطة الإثني عشر رسولًا". وهي تعتبر أهم وثيقة بعد كتابات الرسل، تكشف لنا عن الحياة الكنسية الأولى من كل الجوانب: السلوكي والليتورچي والتنظيمي.
[7] الديداكية 1: 1-4.
[8] في رسالة برناباس طريق للنور والآخر للظلمة.
[9] تث 6 : 5.
[10] لا 19 : 18؛ مت 22 : 37، 39.
[11] طو 4 : 15؛ مت 7 : 12؛ لو 6 : 31.
[12] مت 5 : 45 – 47؛ لو 6 : 27 – 31.
[13] 1 بط 2 : 11.
[14] مت 5 : 39؛ لو 6 : 29.
[15] مت 5 : 48.
[16] On the Duty of the Clergy, 1:28:130.
[17] On the Duties of the Clergy, 3:4:25.
[18] St. Gregory of Nyssa: On the Soul and the Resurrection.
[19] Sermons on New Testament Lessons, 45:7.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/patristic-social-line/morality-love.html
تقصير الرابط:
tak.la/kg8f5qz