St-Takla.org  >   books  >   fr-tadros-malaty  >   john-cassian
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب القديس يوحنا كاسيان: حياته، كتاباته، أفكاره - القمص تادرس يعقوب ملطي

79- مناظرة 3: 7- خطورة التوقف عند الدرجة الأولي من الزهد

 

7- خطورة التوقف عند الدرجة الأولي

 

إذا نفذنا النوع الأول من الزهد بكل إخلاص وأمانة، فإننا لا ننتفع كثيرًا ما لم نكمله بالنوع الثاني بنفس الغيرة والاشتياق. فإذا ما نجحنا في هذا يمكننا أن نبلغ النوع الثالث حيث نخرج من "بيت أبينا" القديم، إذ "كُنَّا بالطبيعة أبناءَ الغضب كالباقين أيضًا" (أف3:2)، مثبتين أنظارنا تجاه العلويات. ويُحدّث الكتاب المقدس أورشليم -التي احتقرت الله الأب الحقيقي- عن الأب القديم قائلاً "أبوكِ أَموريّ، وأمك حثّيَّة" (حز2:16). وفي الإنجيل جاء: "أنتم من أبٍ هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا" (يو24:8).

فإذ نترك هذا الأب عابرين من المنظورات إلى غير المنظورات نستطيع أن نقول مع الرسل: "لأننا نعلم أنهُ إن نُقِض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله بيت غير مصنوعٍ بيدٍ أبديّ" 2(كو1:5)، ونقول أيضًا: "فإن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها أيضًا ننتظر مخلّصًا هو الربُّ يسوع المسيح الذي سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجدهِ" (في20:3، 21)، وننطق بما يقوله داود الطوباوي: "غريب أنا في الأرض" (مز19:119)..

St-Takla.org Image: Some saints (image 111), monks, fathers - AI art, idea by Michael Ghaly for St-Takla.org, 30 January 2024. صورة في موقع الأنبا تكلا: بعض الآباء القديسون (صورة 111)، رهبان - فن بالذكاء الاصطناعي، فكرة مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 30 يناير 2024 م.

St-Takla.org Image: Some saints (image 111), monks, fathers - AI art, idea by Michael Ghaly for St-Takla.org, 30 January 2024.

صورة في موقع الأنبا تكلا: بعض الآباء القديسون (صورة 111)، رهبان - فن بالذكاء الاصطناعي، فكرة مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 30 يناير 2024 م.

يلزمنا أن نكون مثل أولئك الذين يُحدّث الرب أباه عنهم قائلاً في الإنجيل: "ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم" (يو16:17)، وأيضًا محدثًا التلاميذ أنفسهم قائلاً: "لو كنتم من العالم لكان العالم يحبُّ خاصَّتهُ. ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم" (يو19:15).

إذن يمكننا النجاح في بلوغ الكمال عن طريق النوع الثالث من الزهد حيث لا تتلطخ الروح بوَصمات أثقال الجسد، إنما تنفضها عنها بكل عناية، متحررة من كل رغبة أو أمر أرضي، فترتفع إلى غير المنظورات عن طريق التأمل المستمر في الأمور الإلهية.

وفي بحثها عن العلويات والروحيات لا تعود تشعر بانجذاب إلى ذلك الجسد الضعيف وهيئته، إنما تُمسك في "الذهن"، حتى أنه ليس فقط لا يسمع الإنسان بأذنيه الخارجتين، أو لا ينشغل بالأمور الحاضرة، إنما لا يرى حتى ما في يديه ولو كانت أمور ضخمة واضحة.

لا يقدر أحد أن يدرك قوة ما أقوله ما لم يختبر ويتعلم هذا بالتجربة. فلا تتطلع عينيّ روحه إلى الحاضرات، إنما ينظر إليها كأمور سريعة الزوال، بل ويراها أنها فعلاً قد انتهت وباطلة وتشبه البخار المعتم. وبهذا يكون كأخنوخ الذي "سارمع الله" (تك24:5)، ولم يوجد في الحياة البشرية وعاداتها، أيّ لم يعد بين أباطيل هذه الحياة.

هذا ما حدث بالفعل بصورة مادية لأخنوخ كما يعلمنا سفر التكوين "وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذهُ" (تك24:5). ويقول الرسول أيضًا "بالإيمان نُقِل أخنوخ لكي لا يرى الموت" ذاك الموت الذي تحدث عنه السيد المسيح في الإنجيل قائلاً: "وكلُّ مَنْ كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد" (يو26:11).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

فإن كنا نتوق إلى بلوغ الكمال الحقيقي، يلزمنا أن نتطلع إلى الأبديات. فإن كنَّا حسب الخارج لنا جسد، (لهذا ننشغل بآبائنا ومنازلنا وجاهنا ومباهج هذه الحياة)، لنترك بقلوبنا من الداخل هذه الأمور ولا نعود نشتاق إلى ما قد تركناه، فلا نصير كأولئك الذين قادهم موسى. لأن هؤلاء إن لم يرتدّوا بالجسد (حرفيًا)، غير أن قلوبهم قد ارتدت إلى مصر، وذلك بتركهم الله الذي قادهم بعلامات قوية، وعودتهم إلى عبادة تماثيل مصر التي حسبوا أنهم قد احتقروها. ويقول الكتاب: "ورجعوا بقلوبهم إلى مصر قائلين لهرون اعمل لنا آلهة تتقدَّم أمامنا" (أع39:7، 40). وهكذا نسقط في نفس اللعنة التي سقطوا فيها في البرية بعدما أكلوا المَنْ النازل من السماء، مشتهين طعام الخطية النجس، أو بالأحرى راغبين في الانحطاط متذمرين معًا في نفس الطريق (عد5:11، 18؛ خر3:16)...

ويحدث معنا نفس الأمر في سلوكنا وحياتنا، فالبعض بعدما يترك هذا العالم يعود مرة أخرى إلى شهواته الأولي، متحولاً إلى ميوله السابقة الكائنة في قلبه، صانعًا ما صنعه أولئك...

وإنني أخشى أن يتزايد عددهم ليبلغ ذلك العدد المتخلف وراء موسى[3] إذ كانوا ثلاثة آلاف وستمائة رجل مجنّد قد خرجوا من مصر ولم يدخل منهم إلى أرض الموعد سوى اثنين فقط.

ويلزمنا أن نكون حذرين في ضرب الأمثلة الخاصة بالصالحين لأنهم قليلون ونادرون، إذ يتحدث الإنجيل عن عددهم قائلاً: "لأنَّ كثيرين يُدعَون وقليلين يُنتَخبون" (مت 14:22).

فالترك المادي (الجسدي) ومجرد تغيير المكان... (أي الخروج من العالم إلى الدير) ليس له أي فائدة ما لم ننجح في أن يكون الترك من القلب، الأمر الأسمى والأقيم.

فعن الترك الجسدي المجرد -الذي تحدثنا عنه- يقول الرسول: "وإن أطعمت كلَّ أموالي، وإن سلَّمت جسدي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا" (1كو3:13). فيتنبأ الرسول الطوباوي بأن بعضًا من الذين يقدمون كل أموالهم لأجل إطعام الفقراء لا يستطيعون بلوغ الكمال الإنجيلي ومرتفعات المحبة الشاهقة. لأنه بينما يحكم الكبرياء وعدم الصبر علي قلوبهم لا يحرصون علي نقاوة أنفسهم من جهة خطاياهم السابقة وعاداتهم غير المضبوطة. وبذلك لا يقدرون أن يحصلوا علي محبة الله التي لا تسقط. هؤلاء بفشلهم في بلوغ المرحلة الثانية من الترك لا يقدرون أن يصلوا إلى المرحلة الثالثة التي هي بالتأكيد أكثر علوًا.

لتأخذ في اعتبارك بحرص عظيم أنه لم يقل باطلاً: "إن أطعمت كلَّ أموالي"، لئلا يظن أحد أنه يتحدث عمن لا ينفذ وصايا الإنجيل محتفظًا لنفسه بنصيب كأولئك الذين يعرِّجون بين الفِرقتين. لذلك قال: "وإن أطعمت كلَّ أموالي"، بمعنى أن تركه للعالم تركًا كاملاً. ويضيف إلي هذا الزهد أمرًا في منتهى الأهمية وهو "وإن سلَّمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا". بمعنى إذا أطعمتُ كل أموالي للفقراء طبقًا لوصايا الإنجيل الذي يخبرنا: "إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفُقَرَاءَ فيكون لك كنز في السماءِ" (مت21:19). أيّ تترك كل شيء من غير أن تترك لنفسك شيئًا، وهذا التوزيع للأموال يضاف إليه الاستشهاد، باحتراق جسدي واعطائه للمسيح. فإنه إن كنت حاسدًا أو متكبرًا، أو منجذبًا بخطايا أخرى، أو أنانيًا، أو منغمسًا في الأفكار الشريرة، أو غير مستعد ولا صابر علي ما يحلّ بي، فإن هذا الترك أو الاحتراق الخاص بالإنسان الخارجي لا ينفع شيئًا، لأن الإنسان الداخلي لا يزال مشغولاً بالخطايا السابقة.

لأنه خلال غيرتك التي في الأيام الأولي للتوبة اهتميت بترك المادة (أي الخروج إلى الدير والعطاء المادي)... هذه الغيرة ليست خيِّرة ولا شريرة في ذاتها، وهذا أمر ليس بذي أهمية (ما لم يتبعه ترك داخلي في القلب). أي ما لم أهتم بطرد القوة الشريرة التي للقلب الرديء بنفس الاهتمام (الخاص بالترك المادي)، وأهتم أن أنال محبة الله، وهي أن أصبر وأترفق، ولا أحسد، ولا أتفاخر، ولا أنتفخ، ولا أطلب ما لنفسي، ولا أظن السوء، وأحتمل كل شيء وأصبر علي كل شيء... (1كو4:13-7)، وأخيرًا فإن المحبة لا تترك من يتبعها لئلا يسقط في خداعات الخطية.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

[3] يظهر دائمًا في كتابات الكنيسة الأولى كيف أن ما جاء في العهد القديم بصورة مادية إنما هو رمز لما تم بصورة روحية بعد مجيء المسيح.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-3-first-level.html

تقصير الرابط:
tak.la/692pndw