9- كيف نقتني المعرفة الروحية من العملية؟
أولاُ: إن كنتم مشتاقين إلي الحصول على نور المعرفة الروحية، معرفة ليست خاطئة لأجل كبرياء فارغ لتكونوا رجالاً فارغين. يجدر بكم أولاً أن تلتهبوا بالشوق نحو هذا التطويب الذي نقرأ عنه: "طوبى للأَنْقِياءِ القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 8:5). بهذا تنالون ما قاله الملاك لدانيال: "والفاهمون يضيئُون كضياءِ الجلد، والذين ردُّوا كثيرين إلي البر كالكواكب إلي أبد الدهور" (دا3:12). ويقول نبي آخر: "ازرعوا لأنفسكم بالبر (حيث يوجد وقت)" (هو12:10).
هكذا يلزمنا المثابرة بجهاد في القراءة، الأمر الذي أراكم تصنعونه، مع السعي بكل اشتياق لنوال المعرفة العملية الاختبارية أولاً، أي المعرفة الأخلاقية. لأنه بغيرها لا يمكن اقتناء النقاوة النظرية التي نتكلم عنها، وبهذا لا ينطقون بكلمات غيرهم معلمين بها، إنما بالسمو في العمل والتنفيذ. فبعدما يبذلون جهودًا وأتعابًا كثيرة يستطيعون أن ينالوا المعرفة الروحية كمكافأة لهم من أجلها. وإذ يقتنون المعرفة، لا من مجرد التأمل في الشريعة، بل كثمرة لتعبهم، يتغنون مع المرتل قائلين: "من وصاياك تفهمت" (مز 104:119). وإذ يقهرون كل شهواتهم يقولون بكل ثقة: "لك يا ربِّ أرنم. أتعقل في طريقٍ كامل" (مز 1:101، 2). فمن يجاهد في طريق كامل بقلب نقي يترنم بالمزمور ويتعقل (يتفهم) الكلمات التي يسبح بها.
إن أردتم أن تعدوا قلوبكم هيكلاً للمعرفة الروحية، فنقوا أنفسكم من آثار كل الخطايا وتخلصوا من اهتمامات هذا العالم لأن هناك استحالة على النفس التي ترتبك باهتمامات العالم -ولو إلي درجة بسيطة- أن تقتني عطية المعرفة، أو تصير مصدرًا للتفسير الروحي وتجاهد في قراءة الأمور المقدسة.
ويجدر بكم أن تهتموا في المكان الأول، وخاصة بالنسبة لك يا يوحنا الأصغر سنًا، أن تطلبوا الحرص فيما أكلمكم به، وان ترتبطوا بالسكون المطلق، مقتنين أول كل شيء تواضع القلب الثابت لكي يحملكم إلي كمال الحب، لا إلي المعرفة التي تنفخ بل التي تنير.
إنه يستحيل على الذهن غير النقي أن يقتني هبة المعرفة الروحية. لذلك تجنبوا هذا بكل حرص ممكن لئلا خلال غيرتكم في القراءة لا يرتفع فيكم نور المعرفة ولا المجد الدائم الموعود به خلال النور النابع عن القراءة، بل ترتفع أدوات تدميركم خلال الزهو الفارغ.
ثانيًا: يلزمكم أن تجاهدوا بكل وسيلة ممكنة أن تتخلصوا من كل الأفكار العالمية المقلقة، وتسلموا أنفسكم للقراءة المقدسة بمثابرة بغير انقطاع حتى يمتلئ قلبكم بالتأمل الدائم، وتشكلكم القراءة لتتكلموا على شبهها. بهذا تجعل القراءة قلبك أشبه بتابوت العهد يحمل في داخله لوحين حجريين هما الثقة الكاملة في العهدين (القديم والجديد). وفيه القسط الذهبي أي ذاكرة نقية غير دنسة، تحفظها صلابة دائمة للمن المحفوظ فيها، أي الاحتمال والعذوبة السماوية التي للتفسير الروحي وخبز الملائكة. كذلك يوجد فيه عصا هارون، أي الخشبة المنقذة التي لربنا يسوع المسيح رئيس الكهنة الحقيقي، والتي تفرخ على الدوام ذاكرة حية غير مائتة. لأن هذا هو القضيب الذي خرج من أصل يسى ومات وقام في حياة قوية. هذا كله تحت حراسة الكاروبين: أي كمال المعرفة التاريخية والروحية. لأن الكاروبيم يعني مجموعة من المعرفة (إذ هو مملوء أعيننا)، وهذه المعرفة تحمي عرش الله الرحوم أي سلام القلب. فهي تظلله ضد كل هجمات الشر الروحية. وبهذا تُحمل نفوسكم لا إلي تابوت العهد الإلهي فحسب، بل وإلي الملكوت الكهنوتي، حاملة فيها محبة النقاوة غير المنكسرة، وذلك بتنفيذها الوصايا المعطاة للكهنة خلال الدراسات الروحية، وترتبط بواهب الشريعة كما قيل "لا يخرج من المقدس لئَلاَّ يدنّس مقدس إلههِ" (لا12:21)، بمعنى لا يخرج من قلبه، هذا الذي وعد الرب أن يسكن فيه إلي الأبد قائلاً "إني سأَسكن فيهم وأسير بينهم" (2كو16:6).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
لهذا يجدر بنا أن نستوعب في ذاكرتنا كل ما ورد في الكتاب المقدس باجتهاد، ونكرره بغير انقطاع، لأن هذا التأمل الدائم يهبنا ثمرة مزدوجة:
أولاً: إذ يُمتص انتباه الذهن في القراءة والاستعداد للدروس، لا يمكن أسره بسهولة في أي فخ من فخاخ الأفكار الشريرة.
ثانيًا: الأمور التي ننشغل بها... والتي نحاول تكرارها، إن كنا لا نفهمها وقت قراءتها لكننا سنفهمها بعد ذلك بوضوح... فعندما نكون في راحة (ليلاً)، تكون نفوسنا كما لو أنها قد غطت في سبات عميق، وينكشف لنا فهم الكثير من المعاني السرية التي لم ندركها أثناء عملنا خلال ساعات النهار.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-14-practical-knowledge.html
تقصير الرابط:
tak.la/ddgj28f